لم يكن من قبيل المصادفة إطلاق كلمة "أصوات" عنواناً على رواية سليمان فياض، فالرواية تنبني على تقنية الأصوات المتعددة للشخصيات، وذلك على نحو نسمع معه من كل شخصية من شخصيات القص الفاعلة ما يجسّد وجهة نظرها، أو موقفها المتعين من الحدث الرئيسي الذي تدور حوله الرواية. وصيغة جمع الأصوات - من هذا المنظور - إشارة إلى تعدد الرواة داخل السرد، وتولِّى كل راوٍ حكاية الحدث، كله أو بعضه، من زاوية بعينها، وعلى سبيل التزامن أو التعاقب، وذلك بصوته الخاص الذي يتجاوب وغيره من الأصوات في النسق البنائي العام. وتلك تقنية تتيح لكل شخصية الحفاظ على اختلافها في التعبير عن نفسها، أو عن ما تراه هي بالقياس إلى بقية الشخصيات، سواء في علاقات الموازاة أو المشابهة أو المناقضة. ولذلك يمكن أن نتصور رواية "أصوات" بوصفها نوعاً من الخيال الحواري القائم على تنوع الرؤى، والمناقض بتعدده الصوتي البوليفوني الأحادية الصوتية المونوفونية التي تجعلنا نرى واقع الحدث الرئيسى من خلال منظور واحد فحسب. ولقد انتقلت تقنية الأصوات المتعددة من الرواية الغربية الحديثة إلى الرواية العربية، خصوصاً بعد أن تعرَّف الروائيون العرب على أعمال أدبية من صنف "رباعية الإسكندرية" The Alexandria Quarter 1957-1960 التي كتبها لورانس داريل Lawrence Durrel 1912-1990 في أربعة أجزاء، كل جزء على لسان شخصية: "غوستين" 1957 و"بلتازار" 1958 و"ماونت أوليف" 1958 و"كليا" 1960 . ولعل فتحي غانم هو أول من لفت الأذهان إلى هذه القضية في روايته "الرجل الذي فقد ظلّه" 1962 التي صدرت بعد عامين فحسب من صدور الجزء الأخير من "رباعية الإسكندرية". وقد جعل فتحي غانم روايته في أربعة أجزاء، يحمل كل جزء اسم شخصية من الشخصيات الأربع الرئيسية مبروكة، سامية، محمد ناجي، يوسف كما لو كان يقصد تذكيرنا برباعية داريل، سواء عندما أطلق على كل جزء فيها اسم الشخصية التي ينطق صوتها في الجزء كله، أو عندما قسم الأصوات الأربعة بين الذكور بلتازار، ماونت أوليف والإناث غوستين، كليا بالتساوي. وسرعان ما جذبت هذه التقنية انتباه الروائيين، بعد محاولة فتحي غانم الرائدة، فكتب نجيب محفوظ روايته "ميرامار" 1967 التي أصدرها قبل هزيمة حزيران يونيو بأشهر قليلة. ومضى في الطريق نفسه جبرا إبراهيم جبرا في روايته "السفينة" 1970. ويفيد سليمان فيّاض من هذه التقنية، لكن على نطاق أضيق، مقترن بخاصية التكثيف التي تتميز بها روايته القصيرة. ولعل إقباله على هذه التقنية كان نتيجة شيوعها النسبي، خصوصاً بعد أن أصبحت تقنية عفوية نتيجة استخدام كتّاب في حجم نجيب محفوظ وفتحي غانم وجبرا إبراهيم جبرا. ومن هذا المنظور، كانت رواية "أصوات" بتقنيتها وتسميتها علامة دالة على دخول بوليفونية الأصوات المتنوعة دائرة الخيال القصصي لجيل الستينات، أمثال عبدالحكيم قاسم وجمال الغيطاني ويحيى الطاهر عبدالله ويوسف القعيد الذي اعتمد على التقنية نفسها في بناء روايته "الحرب في بر مصر" التي صدرت عن دار ابن رشد للطباعة والنشر ببيروت في شهر آذار مارس سنة 1978. ويسهل ملاحظة أمرين في هذا السياق. أولهما أن هذه التقنية لم تصبح مؤثرة إلا بعد كارثة العام السابع والستين تلك الكارثة التي كانت رواية "ميرامار" إرهاصاً بها. ولذلك تبدو هذه التقنية كما لو كانت أثراً من الآثار التي تركتها كارثة 1967، وأدّت إليها على مستوى المنظور التشكيلي للخيال الروائي، أو القصصي، ذلك الخيال الذي أشعلته كارثة الهزيمة غير المتوقعة، ولا المتصورة، ودفعته إلى تسليط الضوء على كل شيء، ومساءلة كل شيء، بحثاً عن سبب للجرح ووسيلة للبرء. وكان من نتيجة ذلك اندفاع الخيال الإبداعي في البحث عن آفاق أكثر وعداً، وزوايا رؤية أكثر حدة، لا على سبيل البحث عن صرعات موضات عابرة، وإنما بهدف العثور على تقنيات أكثر جذرية، تتيح لذلك الخيال أن يرى أوسع وأبعد مما تعوّد الرؤية، وأن يغوص عميقاً في علاقات الواقع، لينفذ إلى المناطق المعتمة والمظلمة التي لم ينفذ إليها ضوء من قبل، فينطق المسكوت عنه من الخطاب الاجتماعي والسياسي والنفسي المقموع الذي لم تجسّده التقنيات الأدبية السابقة. وأتصور أن اختيار هذه التقنية لم يكن نتيجة ضرورات نفسية خالصة متعالية على الواقع أو مغتربة عنه، وإنما كان نتيجة ضرورات مرتبطة أوثق الارتباط باعتبارات فكرية لا يفارق أساسها نتائج هزيمة العام السابع والستين بأكثر من معنى، وعلى أكثر من مستوى. ويرتبط هذا الأساس بخصائص معرفية وموضوعية، تتكشف لنا عندما نضع في اعتبارنا أن تقنية الأصوات المتعددة تتيح قدراً أكثر من الموضوعية، لأنها تجاوز النجوى الداخلية لشخصية واحدة تهيمن على القص كله، ولا ترى العالم إلا من منظورها الذاتي، فلا يُسمع إلا إلى صوتها الذي يفرض نبرته على بقية الأصوات التي لا نرى أصحابها إلا بعيني هذه الشخصية المهيمنة. وعلى النقيض من ذلك تقنية الأصوات المتعددة التي تتميز أول ما تتميز بأفقها الموضوعي الذي يتيح لكل الشخصيات أن تتحدث بأصواتها الخاصة، وتصوغ رؤاها المتنوعة، وذلك على نحو يتيح للقارئ المضمر أو المعلن أن يتعرف وجهات النظر المختلفة حول الحدث الواحد، ويرى المشكلة نفسها من كل زواياها، فيدرك "الموضوع الأدبي" إدراكاً أوسع مدى في الرؤية، وأكثر تأصلاً في صفاته الموضوعية. ويضيف إلى وجود هذه الموضوعية، من منظور موازٍ، إتاحة الفرصة للكاتب نفسه كي يتباعد عن الدفق المباشر لانفعالاته الذاتية خصوصاً حين يتقمص شخصية واحدة، أو يختفي وراء ضمير المتكلم الذي تنطق به. أما الشخصيات المتنوعة التي ينطق كل منها صوته الخاص فإنها تنأى بكاتبها عن الدفق المباشر، وتخفيه من علاقات الحضور السردي، وتبعده بما يترك الشخصيات المتنوعة تبين عن خصوصياتها في حرية واستقلال، وذلك من غير أن يتدخل الكاتب على نحو مباشر، أو قريب من المباشرة، بل يراقب من بعيد الشخصيات التي تغدو لها حيواتها الخاصة، وهي تتحدث بأصواتها المتمايزة في الأداء السردي. وبالطبع، فإن هذا الأساس الموضوعي يؤكد وضعاً معرفياً مغايراً، يقضي بمجاوزة الإدراك الذاتي الخالص في عمليات التعرف الحقيقية واكتشافها. وبدل معرفة هذه الحقيقة من وجهة نظر واحدة أو زاوية واحدة، أو شهادة واحدة، يتسع الوعي بالنظر إلى هذه الحقيقة من كل زواياها الممكنة، وبشهادة كل الأطراف الذين يرى كل واحد منهم الحقيقة نفسها بعدسته الخاصة. ويعني ذلك، ضمناً، أن الحقيقة الاجتماعية أو التاريخية لا يمكن اختزالها في بعد واحد، أو في جوهر مطلق أحادي الصفة، فالحقيقة التاريخية أو الاجتماعية أو السياسية ليست كذلك، لأنها حقيقة نسبية متعددة الأوجه، قابلة لتعدد التفسيرات التي تعتمد على النظر إلى هذه الحقيقة نفسها من أكثر من زاوية، وعلى نحو يختلف معه التقويم النهائي أو الإدراك النهائي لهذه الحقيقة بحسب زاوية الرؤية التي ننظر منها. وذلك موقف معرفي يجاوز بطريركية الصوت الواحد الذي لا يسمح لغيره من الأصوات بالوجود أو الحضور، ويجاوز ديكتاتورية النظرة الواحدة والصوت الواحد الأحد الذي يدّعي احتكار معرفة الحقيقة من كل زواياها، ويسمح بحضور وجهات نظر المختلفين معنا، بدل اختزال وجودهم أو إلغاء حضورهم. وفي ذلك ما يؤكد معنى من معاني الحوارية بدلالة قد لا تتباعد عن بعض ما قصد إليه ناقد مثل باختين. وكما يعني ذلك نسبية الحقيقة الاجتماعية، أو السياسية أو التاريخية، فإنه يؤكد عدم إطلاقها في بعدها المعرفي، وأنه لا سبيل إلى إدراك الحادثة الواحدة، أو الكارثة الواحدة، إلا بإدراك المشاركين المتعددين فيها، أولئك الذين أسهموا في صنعها، وكان لهم دور في ما انتهت إليه نتائجها. ولا يعني ذلك عدم تبنّي الكاتب وجهة نظر بعينها في الكتابة، أو اختفاء حضور المؤلف المضمر، إذ تظل وجهة نظر الكاتب باقية، تتسلل إلينا من خلال فاعلية السياقات، وبواسطة تفاعلات الأصوات، وذلك في المدى الذي يراد له أن يبين عن حضور المؤلف المضمر، وموقف المؤلف المعلن الذي يبين عن نفسه على نحو غير مباشر حتى في تقديم الصوت الخاص بكل شخصية على حدة، تأكيداً لنبرات بعينها في الصوت، أو تخفيفاً لنبرات مقابلة، ناهيك عن استخدام علاقات حضور تأخذ شكل علامات لغوية دالة، من حيث إشاراتها المتباينة إلى علاقات غياب مقابلة، لها معناها الذي يتكشف برد الحاضر على الغائب، والعكس صحيح بالقدر نفسه. وبالطبع، فإن تعدد الأصوات بقدر ما يعني تعدد الرؤى، وتعدد وجهات النظر، يعني تعدد المستويات اللغوية وتعدد الأساليب في الوقت نفسه. ولذلك، فإن كل شخصية لا بد أن تتميز بما هو محايث فيها، لغوياً وأسلوبياً، الأمر الذي يؤكد إمكانات الإيهام أو التخييل القصصي. ومن ناحية موازية، فإن تعدد الأصوات يعني إمكان وجود تجليات حوارية على أكثر من مستوى، مستوى صراع الفصحى والعامية، ومستوى المسكوكات اللفظية التي هي علامات على أساليب قديمة ومقابلاتها الدالة على أساليب حديثة، صراع التشبيهات والمجازات المتعارضة في أنواعها والمتقابلة في صيغها. وابتداء، يسهل ملاحظة أن رواية "أصوات" تنبني على سبعة أصوات هي بحسب ظهورها: المأمور، محمود بن المنسي، أحمد البحيري، العمدة، حامد البحيري، أم أحمد، زينب. هذه الأصوات موزعة حيث ينتسب بعضها إلى السلطة، أو من يمثلونها المأمور، العمدة وينتسب بعضها الثاني إلى البسطاء من أهل القرية أحمد البحيري، أم أحمد، زينب زوجة أحمد وينتسب بعضها الثالث إلى قريب هؤلاء البسطاء القادم من الخارج حامد البحيري مصطحباً زوجته الفرنسية. أما البعد الرابع والأخير فيتمثل في شخصية محمود بن المنسي متعلم القرية أو مثقفها الذي أنهى تعليمه الثانوي، ويستعد لدخول كلية الطب التي قبلته، ويجيد اللغة الفرنسية إجادة تسمح له بترجمة كلام الزوجة الفرنسية في حال غياب زوجها. وتوزيع الأصوات في أربع مجموعات، على هذا النحو، يوازي في العدد توزع الرواية نفسها على أربعة فصول عودة الغائب، دوامات في الدراويش، مذكرات محمود بن المنسي، الحصار تبدو كأنها فصول السنة التي تبدأ بأمل النماء وتنتهي بجدب الشتاء. لكن الأهم من ذلك هو ملاحظة أن التوزيع الرباعي لمجموعات الأصوات يؤكد التقابل بين ممثلي سلطة الحكومة من ناحية، وممثلي القرية الناس من ناحية مقابلة، وبينهما يقع صوت ممثل القرية الذي يتجوّل بين الجميع، وينقل أخبار الجميع في يومياته. والملاحظة الثانية أن بعض الشخصيات تتحدث أكثر من مرة، وبعضها لا ينطق سوى مرة واحدة، وبعضها الأخير لا ينطق في صوت خاص به. هذا ما يحدث مع محمود بن المنسي وأحمد البحيري، حيث يتكرر، صوت كل واحد منهما ثلاث مرات، مقابل المأمور والعمدة اللذين نسمع صوت كل منهما مرتين، في موازاة بقية الشخصيات، حامد البحيري، زينب، أم حامد التي نسمع صوت كل واحدة منها مرة وحيدة. هذه الملاحظة الكمية دالة كيفياً على حضور الشخصيات، فأكثر الأصوات تكراراً وامتداداً في الحضور هو صوت محمود بن المنسي الذي يؤدي دور مثقف القرية الذي يصل بين الجميع، وينقل أخبار الجميع في مذكراته، ويظل على الحياد في انتظار الانتقال من القرية إلى المدينة، وتحقيق الحلم بالرحلة إلى الغرب، مثل حامد وبمساعدته هذه المرة. ويشبه محمود في درجة التكرار، وإن كان بدرجة أقل في الامتداد، أحمد البحيري الذي يؤدي دور نقيض حامد وشقيقه، كأنه قابيل الذي يتعارض وجوده مع وجود هابيل. ويوازي هذين الاثنين المأمور والعمدة اللذان يؤديان معاً دوراً متشابه الملامح في تجلياته المتباينة. وتوازي المرة الوحيدة التي نسمع فيها صوت حامد يحدّثنا عن إحباطه بما رآه عند عودته المرة الوحيدة التي نسمع فيها صوت أمه من ناحية، وصوت زوجة أخيه من ناحية مقابلة، وكلاهما صوت يأتي بما يبدو تحقيقاً لمشاعر إحباط حامد التي كانت بمثابة إرهاص بتتابع الأحداث ونذير سلبي بما وصلت إليه بواسطة أم حامد وزوجة أخيه على السواء. ويلفت الانتباه، في تعدد الأصوات، أن الأصوات النسائىة هي أقل الأصوات التي نسمعها، فعددها اثنان فحسب أم أحمد، زينب في الرواية. ولا نسمع كل صوت منها سوى مرة واحدة فحسب، وذلك بالقياس إلى الوفرة المقابلة في أصوات الشخصيات الذكورية خمسة في مقابل اثنين التي تتكرر أصواتها وحدها على نحو يدل على هيمنتها. وأحسب أن هذه الملاحظة الشكلية تدنو بنا من إدراك وجود نزعة هيمنة ذكورية تنطقها الرواية، سواء في غلبة أصوات الرجال في القرية، أو ممارسة كل منهم طقوس البطريركية المهيمنة للذكر على الأنثى، أو غلبة الوعي بالتبعية المطلقة للرجل على طريقة: "ضِلّ راجل ولا ضِل حيط" من المرأة التي لا تفارق مراحل الوعي الإمبريقي الذي دافع عن نفسه بإقصاء المرأة الأجنبية التي هددت سكونه. وتقود هذه الملاحظة إلى ما يتصل بها من عدم استماعنا إلى صوت سيمون التي تتحرك كل الأحداث حولها، والتي تتحدث عنها - وإليها أحياناً - كل الشخصيات وتستجيب إليها سلباً أو إيجاباً، وتبدأ الأحداث بحضورها وتنتهي بتغيبها عن الحضور، وذلك على نحو تغدو معه سيمون بمثابة المحور الذي تدور حوله كل الأحداث. وأتصور أننا لا نسمع صوتها الخاص، لأن طبيعة السرد لم تشأ أن تجعل منها شخصية حية واقعية، بل أرادت لها أن تؤدي دور الرمز التمثيلي الذي لا يفارق معاني الأمثولة. ولذلك تحرك سيمون الأحداث ولا تتحرك بالأحداث، ولا تبدو شخصية متعددة الأبعاد، نامية، بمصطلحات النقد التقليدي للرواية، وإنما شخصية ذات بُعد واحد، لا تملك القدرة إلا على الظهور في اتجاه واحد مقصود، يبدأ وينتهي بدورها المرادف للصدمة الحضارية التي يخلقها حضورها المباغت وسط عالم مناقض تماماً للعالم الذي جاءت منه.