أذكر جيداً عيد الجلاء الأول عام 1946 فلقد كنتُ آنذاك فتياً مراهقاً، ثم أذكر السنوات التالية حتى ختام الخمسينات كأزهى ما تمثل هذه الذكريات في خطها البيانيّ الصاعد للفرح والاعتزاز والأمل، ثم كيف شرع هذا الخط ينكسر عاماً بعد عام حتى استقر في قاعٍ مُحزن من الابتذال والرخاوة، ولم يعد الى الصعود بعدها أبداً إلاّ في مخيلات الأجيال التي استيقظت على أجراسه وعاشت مهرجاناته أمداً جميلاً من العمر لم يتكرر. أذكر في تلك السنين أنَّ دمشق بأكملها، بل لماذا لا أقول سورية كلَّها، كان أهلها يستعدون لمناسبة الجلاء كما يتهيؤون لأعياد رأس السنة والفطر والميلاد والفصح المجيد، فيشترون له الجديد من الملابس، ويتعاهدون على اللقاء والزيارة والاشتراك في الخروج مبكرين صباح العيد للحصول على مكان "مناسب" عند ضفّة بردى لمشاهدة الاستعراض الشعبي والعسكري الكبير الذي كان يبدأ في العاشرة صباحاً قادماً من داخل المدينة في اتجاه خارجها نحو "الربوة" عبر شارع القوتلي فكانت ضفتا بردى تكتظان بالبشر المتلهفين والمتجمعين قبل موعد الاستعراض بثلاث ساعات على أقل تقدير. هذه اللهفة التي كانت تدفع الى تجمعٍ بشري خارقٍ منذ دقائق الصباح الأولى في مكانٍ واحد، هذه الظاهرة هي التي كانت تمنح لعيد الجلاء امتيازاً لم يكن للأعياد الدينية، وإلا فأي عيد منها كان يشغل الناس بمثل هذا الاستنفار الكبير لشعب بأكمله رجالاً ونساءً وأطفالاً ومن جميع الطوائف، فلم يكن يلازم البيوت سوى المرضى والطاعنين في السن، ولمدة أربع وعشرين ساعة تبدأ مع الفجر ولا يهدأ صخبُ مهرجانِها الا في الهزيع الأخير من الليل. تخرج اذاً الأسرة بأكملها من اطلالة الصباح تحمل زوّادة الطعام والشراب لنهار كامل، الأب والأم والأولاد والأقارب، فترى الجيران عند الباب يخرجون منها أو قبلها، فيتبادلون تحايا الصباح والتهنئة بالعيد وهم يكادون يشتعلون حميّةً وابتهاجاً... بماذا؟ لم يكن هناك سوى المناسبة، والوقت المبكر، والخروج الجماعي، وامتلاء الشوارع بالناس يتراكضون في اتجاه واحد نحو مدخل دمشق عند ضفة النهر قرب جسر "التكية" أو "جسر فيكتوريا"... يتراص البشر إذاً على الضفتين ويكون الطقس، كما أذكر، أميلُ الى البرودة في السابع عشر من نيسان قبل أربعين أو خمسين عاماً. ولكن الناس كانوا يتخففون من ملابسهم مع ارتفاع الشمس ليس بسبب سخونة الضحى وانما بسبب هيجان القلوب والمخيلات وهي تترقب وصول الاستعراض الكبير. ولا بأس في هذا الهيجان الجميل من ان يسترق شاب نظرةً فرحةً الى شابةٍ تجاوره أو تقابله فترد عليه بمثلها، وأن يصنع صنيعه آلاف الشبان، وأن ينفتح للغرام في ما بعد دفتر ضخم كالجلاء نفسه. وما تكاد الطبول تقرع والأبواقُ تصدح ويصلُ دويها من بعيد معلناً تحرك مواكب الاستعراض، حتى يُجَنَ جنون الجالسين في المنصات الطويلة المنصوبة على الضفة اليسرى للنهر، فإذا بهم يثبون على أقدامهم، وإذا بالواقفين يتقافزون، ويتدافعون من دون ان يزعج أحدهم الآخر، وتعلو الهمهمة والأصوات: ها هُم وصلوا!... ويصل الجنود كتائب كتائب براقة الثياب، مشدودة القامات، موزونة الخُطا يمثلون مختلف الأسلحة والاختصاصات. وقد تسمع من مكانٍ ما صرخة امرأة، تقول: - ها هو سليم... انظروا اليه... انه معهم! ويهتف رجل بصوت معتّزٍ فخور، مشيراً الى أحد الجنود أو الضبّاط - لعيونك أبو حاتم! وقد يكون هناك "سليم" و"أبو حاتم" أو لا يكون احد... واذا وُجدا حقاً فقد لا يميزهما سوى اللذين صرخا باسميهما، غير اننا جميعاً كنا نلتفت على النداء ونستدير نحو صاحب الاسم المنادى، ونصفق مع المصفقين وكأننا عرفناه حقاً مع أننا في ذلك الهياج لم نكن متأكيدن من أي شيء... ولكن ماذا يهمّ؟. انهم ابناؤنا واخوتنا هؤلاء الذين كانوا يمرون أمامنا!. كانت المواكب الشعبية تأتي بعد العرض العسكري وكان لمرورها نكهةٌ أخرى ومباهجٌ خاصة... كانت تتألف من طلاب المدارس والجامعة وموظفي وعمال بعض المؤسسات الرسمية من الجنسين بثيابهم الساطعة الألوان وزيناتهم المبتكرة الجميلة محمولةً على المناكب أو على العربات، وكان الهيجانُ يزداد مع مرودها وتتعالى الأصواتُ من بين جماهير المتفرجين بالتحية أو بالمناداة على الأسماء... ها هو خالد... وها هي ميسون - وهذا هو محمود... وما كان أحد منا قادراً على ان يميز واحداً من أصحاب هذه الأسماء. ولكن ماذا كان يهم؟.. لقد كان لنا جميعاً أبناء، أو أخوة أشقاء، أو أقارب في تلك المواكب الفخورة العابرة أمامنا، وبهذا المعنى كان الموكبُ يعنينا شخصياً بقدر ما كان يعيننا وطنياً. وما أن ينتهي الاستعراض، وتخلو المنصات من الرسميين وضيوفهم ومن المدعوين الآخرين حتى يبدأ المهرجان الحقيقي للمدينة اذ كانت الأسر تتوزعُ هنا وهناك، فما من رقعةٍ خضراء في "مرجة الحشيش" - كما كانت تُسمى - حيث توجد مباني معرض دمشق الدولي الآن - والضفة الأخرى لبردى، أو حتى على الأرصفة الا وكنت تجدُها مشغولةً ببساطٍ مفروش، أو خِوان ممدودٍ وأفراد الأسرة متحلقون فوقه أو حوله لتناول الطعام فإذا طعموا سرح منهم من سرح في هذا الاتجاه أو ذاك يتعارفون في علاقات جديدة، ويتواعدون، وقد يختار بعضهم محبوبةً أو خطيبةً، وما أكثر الصفقات التي كانت تُعقد والاتفاقات العائلية التي كانت تتم بين أناس لا يعرفون بعضهم بعضاً وبكثير من اليُسر والانفتاح والتوادّ... فترى كؤوس الشاي وفناجين القهوة تتراقص على الأكف يتهاداها الناس بينهم تعبيراً لطيفاً عن ابتهاجهم بمعرفة جديدة، أو تأكيدهم معرفة "قديمة"، وقد تمكثُ بعض الأسر في مكانها حتى وقت الغداء، فالى العشاء، فالى السهرة، وقد يغيرون امكنتهم، ولكنهم لا يعودون الى منازلهم الا متأخرين وكلٌّ منهم راغبٌ في الاستزادة من ذلك النبع الشعبي للفرح حتى امتلاء خزانات الروح وكأن لم تكن هناك ينابيع اخرى قادرة أن تمنحه ما كان يمنحه إياه يوم الجلاء بالزخم ذاته والسخاء نفسه! لماذا كان لعيد الجلاء كلٌّ هذه المعاني والمشاعر؟ لم يكن عيد الجلاء في تصوّر جميع فئات الشعب مجرد مناسبة وطنية كغيرها. لقد أقبل "الجلاء" عام 1946 محملاً بأصداء ذكريات تُراثٍ عريقٍ سحيقٍ من الضياع، والتمزّق والانحطاط والاستبداد. وإلاّ فكم قرناً من الزمان يجب أن نعود الى الوراء حتى نجد على صفحات تاريخنا أسماً لحكمٍ عربي مستقل بالفعل... ربما كان علينا ان نعود ألف عام حتى نصادف دولة عربية حقيقية على أرضنا، فمن المعروف أن الخلافة العباسية بدأت تضعف وتستسلم للمرتزقة من العسكر الذين جلبتهم لحمايتها، فتكاثروا، وطمعوا، ثم سرقوا السلطة الفعلية من "الخليفة" فصار منذ القرن الرابع للهجرة تجسيداً مأسوياً لأبيات المتنبي حين قال مقهوراً: وإنما الناسُ بالملوكِ وما تُفلح عُرْبٌ ملوكُها عَجَمُ لا أدبٌ عندهم ولا حَسَبٌ ولا عهودٌ لهم ولا ذمِمُ بكّلِ أرضٍ وطئتُها أُمَمٌ تُرعى بعبدٍ كأنها غَنََمُ يستخشن الخزّ حين يلمُسه وكان يُبرى بظِفْرهِ القَلَمْ... هؤلاء كانوا حُكّامنا كما يَصفُهم المتنبي، ولأمدٍ طويل، فلنا إذاً ان نتصور كيف كان ينهار الوجود العربي أسوأَ فأسوأ مع حكم المماليك، ثم مع سلاطين بني عثمان، ثم مع الاحتلال الفرنسي. ألف عام أو تزيد من الحكم الأجنبي!. ثمّ... كما تمطر السماء بعد جفاف قاسٍ مديد إذا بالعرب يتجمعون في ثورةٍ تحررية واحدة طالعةً من الحجاز، فيستعيدون لأوّل مرة منذ ألف عام روحهم المتوارية، وهويتهم الضائعة خلف ألف حجاب وحجاب نزوعاً الى تأسيس الدولة العربية المستقلة... فإذا خابت الآمال مع تراجع زَخَم تلك الثورة، واعتراض الاستعمار الغربي طريقها فلقد جاء الجلاء أخيراً بعد ربع قرن من الاحتلال الأجنبي كما يسترد روح الثورة العربية المجهضة وتبزغ على الأثر شمس دولة عربية مستقلة تُدير دفتها حكومة حرة عربية بعد ألف عام من الانتظار... ذلكم هو المعنى العميق لعيد الجلاء!. كان الجلاء إذاً حدثاً خارقاً طال انتظاره... كان تعبيراً حاسماً وعظيماً في آن من معاناة تاريخية مريرة طال أمدها تنتهي ويجسدها يوم السابع عشر من نيسان عام 1946! والحق ان هذا التاريخ معنى من معاني الجلاء وليس كلَّها، فلقد كان أيضاً مشحوناً بذكريات قريبة للتضحيات الشعبية الواسعة التي قدّمت في أكثر من ثورة وتمرّد وتظاهرة وعصيان ضد الاحتلال الفرنسي، ثم تكللت بغارِ الجلاء فبدا كالرمز الأجمل والأعظم للمكافأة التي يظفر بها شعب بأكمله لقاء جهاده الرائع في سبيل الحرية. هذا الجهاد لم يكن أيضاً مقتصراً على فئة، أو حزبٍ أو جماعةٍ بعينها. اذا تذكرنا ان معركة الحرية هذه كانت شعبية شاملة ضمت جبهتُها جميع الطوائف والفئات والأحزاب أدركنا معنى آخر للجلاء ينشر عمق الفرح الجماهيري الذي تفجّر من ينابيعه في عيد الجلاء كتعبير عن حسّ المشاركة العامة، وبهذا المعنى فقد كان هذا العيد يخص الجميع بلا استثناء فهو اذاً العيد الوطني بامتياز، العيد الذي لم يكن اختياراً طائفياً، أو حزبياً، أو قبلياً، كان اختيار الجميع، وبالتالي فقد كان عيد الجميع بحق!. أين هو الآن عيد الجلاء بعد كل هذا؟ من المؤسف حقاً ان يتقلص الاهتمام بهذا العيد في العهود الأخيرة مع أننا نذكر ان الاحتفال بعيد الجلاء ظلّ الى عهد قريب محتفظاً بطقوسه التقليدية في استعراض للمواكب العسكرية والشعبية واقامة المهرجانات في كل المدن السورية وخصوصاً في العاصمة اذ كانت تجرى مراسم استعراض عظيم للقوات المسلحة النظامية والمنظمات الشعبية في الشارع العريض لأوتوستراد المزّة، فماذا حدث بعد ذلك؟. ولماذا ألغي هذا الأسلوب اللائق بمناسبة عُظمى كالجلاء واقتصر الأمر على عقد اجتماعٍ خطابي في مدرج جامعة دمشق، ونشر بعض المقالات والتحقيقات في الصحف، وتقديم بعضها في الاذاعة والتلفزيون... أما الشارع نفسه كمكانٍ لممارسةٍ جماهيرية واسعة حافلةٍ بالأفراح المحضرة أو المرتجلة... هذه الممارسة الشعبية اختفت من حياة الشارع السوري مع أننا واثقون ان كثيراً من المسؤولين عن مسيرتنا الراهنة يشاركوننا الرأي في أهمية عيد الجلاء من خلال المغزى الوطني الأكبر الذي يمثله، ويجب ان يمثله باستمرار، وبأجمل وأنشط الأساليب، ذلك لأنه العيد الذي شاركنا جميعاً في صنعه، فهو عيد الجميع بحق، وله وحده حقّ تمثيل الفرح القومي والإجماع الوطني. * كاتب سوري.