لا تحتاج الورقة أو "اللاورقة" أو المبادرة المصرية - الأردنية الى من يدافع عنها، فهي عبارة عن اقتراحات ونقاط عمل ل"التهدئة"، وليست مشروعاً عدوانياً يبحث عمن يتبناه ويسوّقه. و"التهدئة" هنا تفترض في أبسط التفسيرات أمرين: وقف حرب شارون على الفلسطينيين وهو يستخدم فيها كل ما استطاعه من أنواع الأسلحة ووقف الانتفاضة... ولا شك ان مبرر وقف الحرب معروف ومفهوم، أما وقف الانتفاضة فهو مضرّ وظالم، ولكن أحداً لا يفترض ان الانتفاضة وجدت أصلاً لاستدراج الاسرائيليين الى تدمير ما كسبه الفلسطينيون على الأرض في ما كان يعرف ب"سلام أوسلو"، كما أن أحداً لا يريد أن تتحول الانتفاضة نوعاً من الانتحار الفلسطيني. لا بد من الاعتراف بالمتغيرات. كانت الانتفاضة لمواكبة المفاوضات ولتحصيل مكاسب فيها، وكان الطرفان المعنيان اسرائيل والولايات المتحدة يواجهان الانتفاضة بالقوة العسكرية لكنهما تسعيان الى إعادة اطلاق المفاوضات. وحتى اللحظة الأخيرة في عهده، كان بيل كلينتون يحاول ترويج أفكاره ل"الحل النهائي"، وحتى أيامه الأخيرة في الحكومة كان ايهود باراك يحاول انتزاع ورقة تساعده على البقاء في منصبه. ثم جاء جورج بوش فدخلت الادارة الأميركية في غيبوبة المرحلة الانتقالية، وجاء شارون على أساس برنامج لا أثر فيه للتفاوض أو للاستمرار في عملية السلام. وهكذا حصل تبديل في الموقع المقابل، شكلاً ومضموناً، وأصبحت الانتفاضة بلا أهداف منظورة تسعى الى تحقيقها، بل تلبّست هدفاً جديداً هو اسقاط رئيس وزراء اسرائيلي انتخب لتوّه وكلف الذهاب الى حرب بكل معنى الكلمة بغية القضاء على الانتفاضة نفسها. كان لا بد في تلك اللحظة من تبديل جذري في الأسلوب من الجانب الفلسطيني. لكنه لم يحصل لأسباب بعضها الكثير واقعي. أهمها ان الحصار الأمني والاقتصادي لا يتيح لأي قيادة ان تتراجع، ثم ان الطرف الآخر لم يبد أي استعداد للتجاوب مع أي خطوة للتهدئة حتى في أيام باراك. وأصبح معروفاً الآن ان الاسرائيليين يسعون، على عكس ما يظهرون، الى استمرار ما يسمونه "العنف"، لأنه يسمح لهم بالهرب من متطلبات الاتفاقات مرحلية أو نهائية. ولم يفطن عباقرة الادارة الأميركية الى نيات الاسرائيليين هذه فأعطوا شارون الضوء الأخضر للتحرك، بل منحوه نظام حماية ليخوض حربه، فلم يترددوا في استخدام "الفيتو" في مجلس الأمن، بل ساهموا بقوة في ضرب صفح على الماضي الاجرامي لرئيس الوزراء الاسرائيلي واستبقوا أي تذكير به بحملة مضادة مسبقة أعادت الى الأضواء مجدداً مصطلحات الارهاب الفلسطيني التي كان الأميركيون يستخدمونها قبل "مبادرتهم" السلمية. لا يمكن أن يتوقع أحد شيئاً مختلفاً من "المبادرة" المصرية - الأردنية، فالبلدان مرتبطان باتفاقات سلام مع اسرائيل، وهذا في حد ذاته يفرض على اقتراحاتهما هدوءاً يقرب من الميوعة. ومع ذلك، يتضح ان مقاربتهما العقلانية للوضع لا تريح شارون، اذ أن هدفها في النهاية اعادته هو نفسه الى رشده، وهو يشعر بأنه إذا فعل سيخسر. لماذا؟ لأنه جاء على أساس احياء الأفكار الصهيونية كما شرح في "معاريف" و"الفيغارو" و"جيروزاليم بوست" التي يعتبر أنها اهتزت وضعفت بفعل التفاوض والاتجاه الى السلام. ولأن شارون يجد في "المبادرة" المصرية - الأردنية خطراً، كونها مبادرة سلمية أولاً وأخيراً، فهو يسعى الآن الى اجهاضها عبر ادخال تعديلات يعرف جيداً ان حجة اسرائيل فيها ضعيفة. لذا أوفد وزيره برتبة مجرم حرب حامل نوبل للسلام شمعون بيريز في مهمة ترمي الى تعطيل هذه المبادرة واستبعادها. المشكلة ليست في التعديلات الاسرائيلية، وانما في الموقف الأميركي. صحيح ان واشنطن نبهت شارون الى أن الحل لن يكون عسكرياً، وصحيح انها أبدت تأييداً للمبادرة، لكن الصحيح خصوصاً انها ماضية في تشجيع شارون ولم تصبح جاهزة بعد لاستئناف تحركها في اطار "عملية السلام". فإذا سقطت المبادرة المصرية - الأردنية، فإن واشنطن ستكون من اسقطها وليس شارون. فهذه المبادرة لم تخترع شيئاً يمكن أن يشكو الاسرائيليون من أنه يفرض عليهم فرضاً وانما تستند الى اتفاقات وقرارات دولية معروفة.