بتعاون بين رئاسة "الجماعة الاسلامية" في البوسنة ومؤسسة "الفرقان للتراث الاسلامي" في لندن صدر حديثاً الجزء الأول والثامن من المشروع الضخم "فهرس المخطوطات العربية والتركية والفارسية والبوسنوية" الذي يكاد العمل فيه يستغرق حوالى القرن من الزمن. بدأ العمل في فهرسة مخطوطات مكتبة الغازي خسرو بك الباحث البوسنوي محمد خانجيتش بعد عودته من القاهرة 1937، حين وضع أكثر من ألفي بطاقة وصف فيها قسماً لا بأس به من مخطوطات المكتبة بغرض وضع فهرس شامل لها ولكنه توفي 1944 قبل إكمال عمله. وبعد الحرب العالمية الثانية تابع المشروع حازم شعبانوفيتش، الباحث المعروف والمستشار العلمي لمعهد الاستشراق الذي أسس في ساراييفو سنة 1950. ونشر بعض النماذج من عمله في مجلة "غلاسنيك" خلال 1950-1953، ولكن انشغالات شعبانوفيتش حولت العمل الى الباحث قاسم دوبراتشا الذي استمر فيه حوالى عشر سنوات تتوجت باصدار الجزء الأول في ساراييفو 1963 بعنوان "فهرس المخطوطات العربية والتركية والفارسية". وعلى رغم الصدى الطيب الذي تركه الاصدار تعثر العمل بسبب المصاعب. المالية، ولم يصدر الجزء الثاني الذي انجزه قاسم دوبراتشا إلا في 1979 في ساراييفو والقاهرة، بينما تأخر صدور الثالث الذي أعده زينل فاييتش حتى 1991. وهكذا استغرق اصدار الأجزاء الثلاثة الأولى حوالى ثلاثين سنة 1963-1991، وتعقد الأمر أكثر مع حرب البوسنة 1992-1995 اذ نجت المكتبة بمعجزة بعد ان نجح القصف الصربي المتعمد في تدمير المكتبة الوطنية ومكتبة معهد الاستشراق في ساراييفو خلال 1992. إلا ان العمل تسارع بعد استقرار الوضع في البوسنة 1995 وتبنى مؤسسة "الفرقان للتراث الاسلامي" في لندن هذا المشروع، فصدر في لندن ساراييفو خلال 1998 الجزء الرابع الذي أنجزه فهيم علي ناميتاك. وصدر في 1999 الجزء الخامس الذي أعده زينل فاييتش والجزء السادس الذي أنجز مصطفى يحيتش، وصدر في عام 2000 الجزء السابع الذي أنجزه حاسو بوبارا وزينل فايتش، والجزء الثامن الذي أنجزه مصطفى يحيتش، كما صدر من جديد الجزء الأول بعد ان أصبحت نسخة نادرة كالمخطوطات. وتشير أغلفة هذه الأجزاء الثمانية الى تاريخ العمل، فالجزء الأول صدر في ساراييفو بعنوان "فهرس المخطوطات العربية والتركية والفارسية" من قبل "مشيخة الجماعة الاسلامية في جمهورية بوسنة وهرسك الاشتراكية"، وصدر الثاني بالعنوان ذاته في ساراييفو والقاهرة سنة 1979، وصدر الثالث في ساراييفو سنة 1991 عن "مشيخة الطائفة الاسلامية في جمهورية بوسنة وهرسك"، بينما حملت بقية الأجزاء ابتداء من الجزء الرابع عنوان "فهرس المخطوطات العربية والتركية والفارسية والبوسنوية"، بعد ان أصبحت "البوسنة" تعتبر لغة مستقلة بعد استقلال الدولة. وأصبح الناشر الآن "رئاسة الجماعة الاسلامية في البوسنة والهرسك" ومؤسسة "الفرقان للتراث الاسلامي" التي أسسها الشيخ احمد زكي اليماني. وتنبع أهمية هذا الفهرس من قيمة المخطوطات التي تراكمت عبر القرون في مكتبة الغازي خسروبك. وكانت هذه المكتبة التي حملت اسم والي البوسنة الغازي خسروبك أسست في 944 ه 1537 لتكون مكتبة لمدرسته المعروفة التي بناها قرب جامعه المشهور في ساراييفو وكانت وقفية المدرسة توضح منذ البداية ان الكتب هي للعموم وليست للعاملين في المدرسة فقط، و"يستفيد منها من يطالعها من المستفيدين ويستنسخ من يستنسخها من المحصلين". وعلى رغم ان المكتبة دمرت مع غيرها خلال الهجوم النمسوي على ساراييفو في 1697 الا انها تأسس من جديد، وتطورت منذ 1864 فاستقلت في مبنى خاص في جوار الجامع حتى سنة 1935 ثم انتقلت الى مبنى أوسع مقابل جامع السلطان. ومن سنة 1864 الى 1935-1991 تضخمت المكتبة بضم عشرات المكتبات الخاصة لكبار المثقفين في البوسنة، الذين اهتموا بجمع المخطوطات واشتغلوا في التراث الشرقي للبوسنة، الى بعض مكتبات الجوامع والمدارس في البوسنة حتى أصبحت "المكتبة المركزية" للمخطوطات الشرقية في البوسنة وفي يوغوسلافيا السابقة. ونتيجة لهذه الظروف تجمعت في المكتبة حوالى تسعة آلاف مخطوطة ما بين كتاب ورسالة في اللغات الشرقية العربية والتركية والفارسية واللغة البوسنوية، إضافة الى السجلات الشرعية والوقفيات والوثائق التاريخية والمصادر المطبوعة في اللغات الشرقية والأوروبية. واعتبرت هذه المجموعة من أغنى المجموعات في أوروبا الشرقية، وتعتبر بعض المخطوطات فيها من أقدم النسخ المحفوظة في المكتبات العالمية لأنها نسخت في حياة مؤلفها أو بعد وفاتهم بوقت قصير. ومن ذلك مثلاً مخطوطة "الايضاح في علم المعاني والبيان" للقزويني التي نسخت في خوارزم سنة 751 ه 1350 م أي بعد 12 سنة فقط من وفاة المؤلف، و"حاشية" الجرجاني على "المطول" للتفتازاتي التي نسخت سنة 814 ه1411م. أي قبل وفاة مؤلفها بسنتين. وعلى رغم "استغراق" العمل في هذا الفهرس وتغير القائمين عليه والعاملين فيه الا ان الأجزاء الثمانية التي صدرت حتى الآن حافظت على الأسس نفسها التي وضعت منذ البداية لهذا المشروع وأوضحت في الجزء الأول الذي صدر في 1963. وهكذا قسمت كل مخطوطات المكتبة بحسب المواضيع الى 14 باباً دوائر المعارف، القرآن وعلومه، العقائد، الأدعية والأذكار، الفقه، الأخلاق والمواعظ، التصوف، الحكمة والفلسفة، علوم اللغة، التاريخ والجغرافيا، الطب والبيطرة، الطبيعة والحساب وأخيراً المتفرقات، ما يعني ان العمل في فهرستها قطع شوطاً كبيراً. واشتمل الجزء الثامن الذي صدر حديثاً على مخطوطات علم النحو والصرف العربي وما يتعلق بهما إضافة الى قواعد اللغة العثمانية وقواعد اللغة الفارسية. وتوقف هذا الجزء عند المخطوطة رقم 5257 من مخطوطات المكتبة، التي هي جزء من رسالة عن النحو العربي في اللغة التركية. وعلى هذا النحو أصبح هناك أمل في ان يتم اكتمال الأجزاء الباقية في العقد الأول لهذا القرن، أي قبل اكتمال القرن على بدء العمل في فهرسة مخطوطات هذه المكتبة. ويشار اخيراً الى ان ضخامة هذا المشروع انما تعود الى ان الفهرسة تقتصر على العناوين والمقدمات والنهايات في اللغات الأصلية العربية والتركية والفارسية بينما الشروحات والتعليقات في اللغة البوسنوية. فالمشروع على أهميته الكبيرة يكاد يحصر الإفادة منه لمن يعرف اللغة البوسنوية/ اليوغوسلافية. ونأمل من مؤسسة الفرقان ان تكمل مهمتها وتصدر طبعة خاصة من هذا الفهرس باللغة العربية أيضاً باعتبارها لغة عالمية توسع من دائرة المستفيدين من هذه المجموعة القيمة من المخطوطات.