تناول ابن خلدون في مقدمته موضوع العلم والتربية من منظار له علاقة مباشرة بالواقع الاجتماعي وربط بين العلم والتربية والبيئة العمرانية وما تشهده من تمدن أو تخلف بعلاقة سببية. وبالتالي انطلق من معطيات مغايرة للمعطيات التي انطلق منها "أخوان الصفا" في تناولهم لموضوع التربية، ويعود سبب ذلك الى وجود فاصل زمني طويل ما بين العصر الذي ظهر فيه "أخوان الصفا" والعصر الذي ولد فيه ابن خلدون. وهذا التباين في البيئة والعصر من الطبيعي ان ينتج تبايناً في المفاهيم والطروحات ما بين "أخوان الصفا" وابن خلدون وان تكون افكار الأخير أكثر تقدماً من تلك تحدث عنها الأخوان في عصرهم وزمنهم. ان أول ما أكد عليه ابن خلدون عند حديثه عن العلم هو الاشارة "ان العلوم ظاهرة اجتماعية طبيعية، تتعلق مباشرة بطبيعة العمران الذي تنشأ فيه. والعلوم على أنواع منها ما هو ضروري للانسان ضرورة الخبز والماء والهواء، ومنها ما هو من مظاهر الترف في الحياة الاجتماعية، وهو من جملة الصنائع". "وهذه لا يتقنها الا اهلها المختصون بها". والصنف الأول موجود لكل انسان في كل مجتمع، بدوياً كان أم حضرياً، ولا يمكن أن تكون حياة اجتماعية من دونه، وهو عبارة عن اللغة، ومبادئ الصناعات البسيطة التي نحتاج اليها في حياتنا اليومية. غير ان تعلم اللغة من طريق السمع والتواتر هو غير اتقانها والبحث في أصولها وفروعها وطريق اعرابها. فالصنف الأول موجود لكل عمران، وأما الصنف الثاني فلا وجود له إلا في العمران الحضري. وسبب ذلك بنظر ابن خلدون هو "ان تعليم العلم من جملة الصنائع وعلى نسبة عمرانها في الكثرة والقلة، والحضارة والترف تكون نسبة الصنائع فيها في الجودة والكثرة لأنها أمر زائد على المعاش... واعتبر هذا في حال بغداد وقرطبة والقيروان والبصرة والكوفة لما كثر عمرانها في صدر الاسلام واستوت فيها الحضارة، كيف زخرت فيها بحار العلم، وتفننوا في اصطلاحات التعليم وأصناف العلوم واستنباط المسائل والفنون حتى أَربَوا على المتقدمين... ولما تناقض عمرانها انطوى ذلك البساط بما عليه جملة. وفقد العلم والتعليم وانتقل الى غيرها". من هذا المنظار نستخلص ان ابن خلدون يعتبر العلم والتعليم ظاهرة اجتماعية لا ظاهرة فردية يرعاها قلة من العلماء النابغين... فالعلم مرتبط بعجلة العمران البشري. ويصنف ابن خلدون العلوم من وجهين: ناحية كيفية تحصيلها، وناحية الفائدة المرجوة منها. وهي من ناحية تحصيلها صنفان: عقلية، ونقلية. والعلوم العقلية بنظره هي التي يهتدى اليها بالفكر وهي طبيعية له وتتناول العلوم الحِكمية الفلسفية وهي التي يمكن أن يقف عليها الانسان بطبيعة فكره ويهتدي بمداركه الى موضوعاتها وانحاء براهينها انها نتيجة للاختبار الحسي، أو المنطق العقلي او الاثنين معاً. أما العلوم النقلية فقد سميت كذلك لأنها "كلها مستندة الى الخبر، ولا مجال للعقل إلا في إلحاق الفروع منها بالأصول" وتضم "العلوم اللسانية" على أنواعها و"العلوم الشرعية" المتعلقة بقضايا الدين والأخلاق والتشريع الاجتماعي. ولا مجال في نظره للاستنباط العقلي والعمل الفردي في هذه العلوم إلا ضمن حدود ضيقة جداً. أما من ناحية الفائدة المرجوَّة فالعلوم على صنفين أيضاً: 1 - العلوم الآلية: وهي التي تكون واسطة لتحصيل غيرها، كالمنطق للعلوم العقلية وقواعد اللغة للعلوم اللسانية والشرعية. 2 - العلوم الغائية وهي التي تطلب لذاتها وفائدتها الخاصة، كالطب في العلوم العقلية، والفقه في العلوم النقلية. وبالنتيجة نستخلص مع ابن خلدون "ان كل علم يوصف بصفتين فيكون إما عقلياً آلياً، أو عقلياً غائياً، أو نقلياً آلياً، أو نقلياً غائياً. وعندما تناول ابن خلدون بالبحث وسائل التعليم وقواعده كان تركيزه فقط على الكتب المدرسية وما ينبغي ان تتصف به. وقسم هذه الكتب الى ثلاثة أصناف: الكتب الكثيرة التطوير، والكتب الشديدة الاختصار، والكتب المتوسطة من حيث الإسهاب والايجاز مفضلاً الصنف الأخير. أما لجهة القواعد التي يجب الأخذ بها في العمل التعليمي، اعتمد ابن خلدون على الأصول الآتية: أ - التدرج ومراعاة استعداد الطالب في أن يكون التعليم "شيئاً فشيئاً، وقليلاً قليلاً، يلقى عليه أول مسائل من كل باب من الفن... ويراعى في ذلك قوة عقله". وأهم ما كرسه في هذه القاعدة مراعاة استعداد وقدرات الطالب والبعد عن التجريد والرجوع الى الأمثلة الحسية لترسيخ المعلومات في عقل الطالب. ب - الفصل بين المواد "فلا ينبغي للمعلم أن يزيد متعلِّمه على فهم كتابه الذي أكبّ على التعلم منه بحسب طاقته وعلى نسبة قبوله للتعليم، مبتدئاً كان أو منتهياً، ولا يخلط مسائل الكتاب بغيرها حتى يعيه من أوله الى آخره". ج - المقاربة بين الدروس "فملكة العلم إنّما تحصل بتتابع الفعل وتكراره". د - ترك التوسع في العلوم الآلية: فالعلوم الآلية ليست سوى وسيلة لغاية، وبالتالي يجب ألا توسع فيها الأنظار، ولا تفرع المسائل. وينتقد عن حق أهل زمانه الذين يتشددون في تفريع المسائل في العلوم الآلية كالنحو والمنطق والبلاغة وأصول الفقه... ويصف ذلك بأنه "من نوع اللغو". ه - الحذر من مساوئ الشدة: حيث "ان ارهاق الحد بالتعليم مضر بالمتعلّم، سيما في أصغار الوُلد، لأنه من سوء الكلمة. ومن كان مرباه بالعَسْف والقهر من المتعلمين أو المماليك أو الخدم سَطَا به القهر، ودعاه الى الكسل، وحمل على الكذب والخبث، فينبغي للمعلِّم في متعلِّمه والوالد في ولده، ان لا يستبدّا عليهما في التأديب" فالترغيب أجدى من الترهيب. و - الرحلة في طلب العلم: وهذه من القواعد المميزة في المفهوم التربوي "الخلدوني" وفيها يفسّر ضرورة الرحلة بالتذكير بأن التعليم النظري من قراءة الكتب "لا يمكن أن يبلغ في دقته وعمقه واتساعه، التعلُّم عن طريق المحاكاة والتلقين" وهو بهذا يردم الهوة بين العلم النظري والعلم التطبيقي، كما انه يشير الى اختلاف العوائد والاصطلاحات ما بين بلد وآخر وهذا لا يمكن معرفته إلا من طريق الاختلاط. الأمر الذي يتيح لطالب العلم الاطلاع على علوم وثقافات مختلف الحضارات. ان هذا العمق في تناول الظاهرة التربوية عند كل من "اخوان الصفا" والعلامة "ابن خلدون" وان من مواقع متباينة احياناً يعكس حقيقة بديهية واحدة تدل على حدود غنى التراث الفكري الاسلامي وشموليته لحقول المعرفة الانسانية. * كاتب لبناني.