بنو خلدون عرب من حضرموت دخلوا الاندلس مع الجماعات الاولى التي وصلت البلاد بعد الاستيلاء العربي على شبه جزيرة ايبريا في القرن الثاني هجري الثامن ميلادي. واستقروا، بادئ الامر، في المثلث الواقع بين اشبيلية وقرطبة وغرناطة. ثم انتقلوا الى اشبيلية حيث كان للجماعة دور في ايام الخلافة الاموية هناك وفي ايام ملوك الطوائف في القرن الخامس ه/ الحادي عشر الميلادي. في النصف الاول من القرن السابع ه / الثالث عشر الميلادي هاجرت اسرة ابن الاندلس، اذ رأوا ان الهجرة الى الشمال الافريقي اولى بهم. كانت ثمة هجرات واسعة النطاق من قبل الى الشمال الافريقي. لكن القرن السابع ه / القرن الثالث عشر م، كانت الهجرات فيه على اساس جماعات صغيرة او حتى اسر. وكان الانتقال الى تونس، اذ كان الحفصيون اقاموا دولتهم 625 / 1228 وحيث كانت جماعات اندلسية من المهاجرين السابقين تقوم هناك بنشاطات ثقافية وتجارية مهمة. في تونس ولد ابن خلدون في اول رمضان سنة 732 / 27 آيار مايو 1332. هناك تلقى علومه الاولى، وبدأ، وهو في العقد الثالث من عمره، نشاطه التعليمي وعمله السياسي. وانتقل الى البلاط المريني في فاس قامت دولة المرينيين في فاس سنة 592 / 1196. وباختصار ظل ابن خلدون في الشمال الغربي من افريقيا الى سنة 784 / 1382، حين انتقل الى مصر، ولم يعد الى شمال افريقيا قط. وتوفي في القاهرة في شوال 809 / آذار مارس 1406. في الفترة التي قضاها في الشمال الافريقي عمل ابن خلدون في التدريس والقضاء والسياسة وبين الاعراب من البدو نيابة عن الحفصيين وسواهم. وزار اسبانيا بين 764 و767 / 1362 و1365، واصبح رجلاً يشار اليه بالبنان. لم يعرف عنه انه كان متخصصلً بارزاً في نوع من العلوم التقليدية كالتفسير او الحديث او الفقه. ولكنه كان واسع الاطلاع عميق التفكير ثاقب النظر في ما يتناوله من بحوث او في ما يعهد اليه من مهمات. ومن المؤكد ان اضطراب المسرح السياسي في تلك المنطقة ايام اقامته فيها اكسب ابن خلدون الكثير من المعرفة حول المشكلات السياسية والادارية. قضى ابن خلدون ثلاث سنوات وبعض السنة 776 - 779 / 1374 - 1377 في قلعة بني سلامة. ويبدو ان الفترة الاولى من هذه السنوات صدفها في امعان النظر في شؤون مجتمع كان جرى في الحضارة شوطاً طويلاً نحو ثمانية قرون لكنه جرى الشوط الى آخره. فخبرته وقراءاته ونظره الثاقب انتهى به الى وضع "المقدمة" المشهورة في خمسة اشهر، وهو في القلعة المذكورة سنة 779 / 1377. العلم الجديد المقدمة هي بحث مستوف مستفيض في شؤون العمران، اذ يستقصي المؤلف شؤون المجتمع الذي عرفه مباشرة ويبحث في تطوره ومشكلاته ويفسر تقلباته على تنوعها ويتابع اصوله. وهو في ذلك كله ينظر الى القضايا جميعها من زاوية علاقة الانسان بالكون، العلوي منه والسفلي. ولكنه يعطي الدور الاول من عنايته للاحوال الطبيعية والبيئية ونمو المجتمع وانفصاماته. وتسميته هو نفسه لموضوعه انه بحث في شؤون العمران، وكان يعرف انه يقوم بنوع من العلم جديد المقدمة، تاريخ العلامة ابن خلدون، المجلد الاول ط2، بيروت، مكتبة المدرسة للطباعة والنشر، 1961 ص 66. والاشارات الواردة في ما بعد تكون لهذا المجلد. ويوضح ابن خلدون طبيعة بحثه وتفكيره ونظريته في عبارات واضحة. ففيه ما يعرض للبشر في اجتماعهم من احوال العُمران في الملك والكسب والعلوم والصنائع. والانسان يتميز عن سائر الحيوانات بخواص اختص بها. فمنها العلوم التي هي نتيجة الفكر، ومنها الحاجة الى الحكم الوازع والسلطان القاهر، ومنها السعي في المعاش والاحتمال على تحصيله، ومنها العمران وهو التساكن. ومن هذا العمران ما يكون بدوياً، ومنه ما يكون حضرياً. ويرى ان الاجتماع الانساني ضروري. فالغذاء والدفاع مثلاً لا يتمان الا بالاجتماع والتعاون لانتاج انواع الغذاء اللازمة لحفظ النوع البشري، كما ان آلة الدفاع لا تصلح ان لم يَكن ثمة تعاون لانتاجها واتحاد لاستعمالها. وهذا الاجتماع اذا حصل للبشر، وتمّ عمران العالم بهم فلا بد من وازع يدفع بعضهم عن بعض. ويكون هذا الوازع واحداً منهم يكون له عليهم الغلبة والسلطان واليد القاهرة، وهذا هو معنى المُلْك. وهذا لا يتم للانسان الا بمقتضى الفكرة والسياسة. المقدمة، ص 69 - 72. المعاش وأنواعه وسبل كسبه يرى ابن خلدون ان تحصيل الرزق وكسبه اما ان يكون بأخذه من يد الغير وانتزاعه بالاقتدار عليه، على قانون متعارف ويسمى مغرماً وجباية، واما ان يكون من الحيوان الوحشي بأخذه ورميه من البر أو البحر ويسمى اصطياداً، واما ان يكون من الحيوان الداجن كاللبن والحرير والعسل او ان يكون من النبات في الزرع او الشجر ويسمى فُلْحاً، واما ان يكون من الاعمال الانسانية وهي الصنائع والتجارة. المقدمة، ص 682. وفي رأيه ان الخدمة ليست من المعاش الطبيعي. ومن انواع الخدمة هذه الجندية والشرطية وكتابة الأمير. كما ان الخدمة في المنازل داخلة فيها المقدمة، ص 684. ومثل ذلك يقال في ابتغاء الاموال من المدافن والكنوز لان اصحابها يقومون بها للعجز عن طلب الوجوه الطبيعية للكسب المقدمة، ص 687. وثمة ملاحظة لابن خلدون حرية بامعان النظر اذ يقول: "إن القائمين بأمور الدين من القضاء والفتيا والتدريس والامامة والخطابة والأذان ونحو ذلك لا تعظم ثروتهم في الغالب،... لان صاحب الدولة يهتم بهم وباقامة مراسمهم... فيقسم لهم حظاً من الرزق على نسبة الحاجة اليهم" المقدمة، ص 701. وفي كلامه عن الصنائع ثمة امور يبديها حرية باهتمامنا لانها توضح وجهة نظره، وتدل على عمق تفكيره في شؤون الصنائع على انها ليست لكسب المعاش فحسب، لكن لها اهمية حضارية. فالصناعة عنده "هي ملكة في امر عملي فكري، والملكة صفة راسخة تحصل عن استعمال ذلك الفعل وتكرره مرة بعد اخرى حتى ترسخ صورته". المقدمة، ص 713. و"الصنائع منها البسيط ومنها المركّب. والبسيط هو الذي يختص بالضروريات، والمركب هو الذي يكون للكماليات". وهذه اي المركبة "يُخرج الفكر اصنافها ومركباتها من القوة الى الفعل بالاستنباط... حتى تكمل ولا يحصل ذلك الا في اجيال واجيال... ولهذا تجد الصنائع في الامصار الصغيرة ناقصة ولا يوجد منها الا البسيط، فاذا تزايدت حضارتها ودعت امور الترف فيها الى استعمال الصنائع خرجت من القوة الى الفعل" المقدمة، ص 712 - 3. ومعنى هذا ان الصنائع انما تكمل بكمال العمران الحضاري وكثرته. ورسوخ الصنائع في الامصار انما هو برسوخ الحضارة وطول امدها. وهذا هو الحال في الاندلس في عصره. فصنائع تلك البلاد مستحكمة وان كان عمرانها تناقص لان الحضارة في الاندلس رسخت من ايام القوط وبرسوخ الدولة الاموية ودولة الطوائف. ويرى ان مثل هذا قائم في العراق ومصر والشام، على ما نُقِل، وذلك بسبب طول آماد الدول فيها المقدمة، ص 714 - 18. والصناعة تكسب صاحبها عقلاً وخصوصاً الكتابة والحساب المقدمة، ص 767 - 8. اصناف الصنائع ومع ان ابن خلدون يعالج التجارة بعد تحدثه عن امهات الصنائع الاخرى، رأينا ان نبدأ بها ثم نعود الى سواها. فهي في رأيه محاولة الكسب بتنمية المال بشراء السلع بالرخص وبيعها بالغلاء، اما بانتظار حوالة الاسواق، او نقلها الى بلد هي فيه انفق وأغلى او بيعها بالغلاء على الآجال. ويرى ان التجار، بما انهم يلجأون الى المكايسة فهم بعيدون عن المروءة. واهل الطبقة السفلى من التجار يلجأون الى المماحكة والغش والخلابة وتعاهد الايمان الكاذبة. وباختصار فان ابن خلدون لم يكنّ للتجار مركزاً مرموقاً في التحدث عنهم خصوصاً انهم يمارسون الاحتكار المقدمة، ص 703 - 709. لكنه يوصي، ولو بشيء من الشفقة، التاجر البصير بألا ينقل من السلع الا ما تهم الحاجة اليه، وعليه ان ينقل الوسط من السلعة، فالغالي الراغبون فيه قلة المقدمة، ص 706- 7. والصنائع التي يتحدث عنها الآتية: الفلاحة والبناء والتجارة والحياكة ومعها الخياطة والتوليد واليها صناعة الطب والخط والكتابة والوراقة والغناء وتعليم العلوم. وهذه الامور عالجها في الصفحات 722 - 777 من المقدمة. وما ننوي عمله هنا هو ان تقتصر على رأي ابن خلدون في كل من الصنائع ومعناها وفائدتها في العمران، ولن نأتي على التفاصيل. فالمؤلف اظهر انه خبير في التفاصيل العملية المتعلقة بالصنائع، فهو لا يكتفي بالقول العام عن الصناعة الواحدة، بل يذكر جزئيات العمل فيها وادواتها مثل الذي نجده عنده عن صنائع البناء والتوليد والغناء وارتباط هذا بالموسيقى. يقول: "إن الصنائع في النوع الانساني كثيرة، لكثرة الاعمال المتداولة في العمران. فهي حيث تشذ عن الحصر ولا يأخذها العد. الا ان منها ما هو ضروري في العمران وما هو شريف بالموضوع، فنخصها بالذكر ونترك ما سواها. فاما الضروري فكالفلاحة والبناء والخياطة والتجارة والحياكة، واما الشريفة بالموضوع فكالتوليد والكتابة والوراقة والغناء والطب المقدمة، ص 722. الزراعة هي القيام على اثارة الارض وازدراعها وعلاج نباتها حتى يؤتى ثمره. وهي اقدم الصنائع، وهذه الصناعة بدوية لا يقوم عليها الحضر ]باعتبارهم سكان المدن[ ولا يعرفونها المقدمة، ص 723 - 724 وراجع ايضاً ص 919 - 920. وينتقل الى صناعة البناء، التي يعتبرها اول صنائع العمران الحضري. وهي صناعة اقامة البيوت وبناء الاسوار واقامة المعاقل والحصون. هنا تبدأ المدينة. وهذه تختلف المساكن فيها باختلاف الثروة والجاه فتبنى القصور والمصانع العظيمة الساحة. وفيها تعد المطامير والاصطبلات. وقد تحتاج الى الهياكل المرتفعة. وهذا البناء الضخم يزخرف، من حيث تنجيد الحجارة او استعمال الاجر. وهنا يصف ابن خلدون طريقة البناء بالتراب بشيء من التفصيل يدل على انه خبر الامر او على الاقل راقب البنائين. ومثل ذلك قوله في استعمال الرخام والجص للتنميق والحصول على الرونق. ويشير الى اهمية النسب الهندسية في كل ما يقام من ابنية المقدمة، ص 724 - 730. النجارة - مادتها الخشب، وفي ابسط حاجات الناس يصنع النجار من الخشب العصي والسقوف والابواب. لكن عندما تعظم الحضارة ويأتي الترف ويتأنق الناس تتنوع مهارات النجار في سبيل اتخاذ الاثاث المونق والباب المقرنصة طاقاته وما الى ذلك. ثم نجد ان النجارة يدخل فيها صناعة المراكب، وهنا، اكثر من العمل في زخرفة البيوت، يدخل امر التخطيط الهندسي لمقاومة الماء واختراقه وقدرة المركب على حمل الناس او البضائع. ولان هذه الصناعة تحتاج الى قدر كبير من الهندسة، لانها تعتمد اخراج الصور من القوة الى الفعل، فقد كان ائمة الهندسة اليونانيون كلهم أئمة في هذه الصناعة، فكان افلدوس صاحب كتاب الاصول في الهندسة نجاراً" المقدمة، ص 730 - 732. الحياكة والخياطة - الاولى تعنى بإحكام الغزل والثانية، وهي بالحضارة ألصق، تلائم المنسوج حيث يصبح ثوباً على البدن بشكله وتعدد أعضائه واختلاف نواحيها. وهذا كله من مذاهب الحضارة وفنونها. وهنا يلفت انتباهنا الى "سر تحريم المخيط في الحج، لما ان مشروعية الحج مشتملة على نبذ العلائق الدنيوية كلها والرجوع الى الله تعالى... حتى لا يعلق العبد قلبه بشيء من عوائد ترفه، لا طيباً ولا نساء ولا مخيطاً ولا خفّاً" المقدمة ص 734. التوليد والطب ان مما يدل على ادراك ابن خلدون لدقائق الصناعات ما وصفه، في صناعة التوليد، من الطلق واخراج الجنين والمخالطات التي قد ترافق التوليد وما يتبع ذلك من دقائق الصناعة حتى تخال كأن المتحدث كان قد عمل في مكان للتوليد المقدمة، ص 735 - 737. وصناعة الطب - صناعة حضرية. وأصل الأمراض كلها انما هو من الأغذية من حيث الانتقال بها من صفتها الطبيعية الى صفتها المركبة بالطبخ وخلط الأغذية بالتوابل والبقول والفواكه. "فربما عددنا في اللون الواحد من ألوان الطبخ أربعين نوعاً من النبات والحيوان فيصير للغذاء مزاج غريب. وربما يكون بعيداً عن ملاءمة البدن وأجزائه". والرياضة مفقودة لأهل الأمصار... فكان وقوع الأمراض كثيراً في المدن والأمصار. وعلى قدر وقوعه كانت حاجتهم الى هذه الصناعة المقدمة ص 739 - 742. ويعود الى التحدث عن الطب والمرض وأسبابه وعلاج الأمراض بالتوازن بين المرض والغذاء والعلاج. وهنا يضيف فقرة مهمة عن طب البادية إذ يقول: "وللبادية من أهل العمران طب يبنونه في غالب الأمر على تجربة قاصرة على بعض الأشخاص، ويتداولونه متوارثاً عن مشايخ الحي وعجائزه، وربما يصح منه البعض، الا انه ليس على قانون طبيعي، ولا عن موافقة المزاج. وكان عند العرب من هذا الطب كثير، وكان فيهم أطباء معروفون كالحرث بن كَلَدَة. والطب المنقول في الشرعيات من هذا القبيل، وليس من الوحي في شيء، وانما هو أمر كان عادياً للعرب المقدمة ص 918 - 919. الخط والكتابة والوراقة والغناء الخط رسوم وأشكال حرفية تدل على الكلمات المسموعة الدالة على ما في النفس. وهو صناعة شريفة، إذ الكتابة من خواص الانسان... وأيضاً فهي تطلع على ما في الضمائر وتتأدى بها الأغراض الى البلد البعيد... ويُطَّلع بها على العلوم والمعارف وصحف الأولين... فهي شريفة بجميع هذه الوجوه والمنافع. وخروجها في الانسان من القوة الى الفعل إنما يكون بالتعليم. وعلى قدر الاجتماع والعمران والتناغي في الكمالات والطلب لذلك، تكون جودة الخط في المدينة إذ هو من جملة الصنائع... ونجد تعليم الخط في الأمصار الخارج عمرانها عن الحد أبلغ وأحسن وأسهل طريقاً، لاستحكام الصنعة فيها. كما يحكى لنا عن مصر لهذا العهد، وان بها معلمين متنصبين لتعليم الخط... وليس الشأن في تعليم الخط بالأندلس والمغرب كذلك المقدمة ص 744 - 745. وينصرف بعد ذلك الى تطور تاريخ الكتابة والخط على نحو ما وصلت اليه معرفته المقدمة، ص 745 - 754، وليس كل ما ذكره مما يتفق مع ما توصل العلم اليه في يومنا. فالرجل كتب المقدمة قبل ستة قرون ونيّف. ويعنى ابن خلدون بالوراقة فيقول: "كانت العناية قديماً بالدواوين العلمية والسجلات في نسخها وتجليدها وتصحيحها بالرواية والضبط. وكان سبب ذلك ما وقع من ضخامة الدولة وتوابع الحضارة. وقد ذهب ذلك لهذا العهد بذهاب الدولة وتناقص العمران، بعد ان كان منه في الملّة الاسلامية بحر زاخر في العراق والأندلس، إذ هو كله من توابع العمران واتساع نطاق الدولة ونفاق أسواق ذلك لديهما. فكثرت التآليف العلمية والدواوين، وحرص الناس على تناقلهما في الآفاق والأمصار، فانتسخت وجلدت... ولما طما بحر التآليف والدواوين... استعمل الكاغد... وبلغت الاجادة في صنعه ما شاءت المقدمة، ص 755 - 756. وفي الصفحتين التاليتين من المقدمة يتحدث عن تطور الرواية العلمية والوراقة وانحدارهما الى ايامه المقدمة 756 - 757. يقول ابن خلدون عن الغناء: ان "هذه الصناعة هي تلحين الأشعار الموزونة، بتقطيع الأصوات على نسب منتظمة معروفة، يوقع كل صوت منها توقيعاً عند قطعة فيكون نفحة. ثم تؤلف تلك النغم بعضها الى بعض على نسب متعارفة فيلذ سماعها لأجل ذلك التناسب، وما يحدث منه من الكيفية في تلك الأصوات. وذلك لأنه تبين في علم الموسيقى أن الأصوات تتناسب المقدمة، ص 758. ويعدد الآلات الموسيقية التي ترافق الغناء واصفاً لها مبيناً دور كل منها في الصوت التي تخرجه وكيفية ضبط ذلك مثل الشبّابة والمزمار والبوق الذي قال عنه انه من أحسن آلات الزمر لعهده وآلات الأوتار مثل البربط والرباب والقانون المقدمة، ص 758 - 760. ومن حيث اللذة الناشئة عن الغناء فإنه يرى ان اللذة هي ادراك الملائم، فإذا كانت مناسبة للمدرك كيفية فإنها ملذوذة. والحسن في المسموع أن تكون الأصوات متناسبة لا متنافرة. فالصوت لا يجب أن يخرج الى مدّه دفعة بل بتدريج. والأصوات يجب أن تكون على تناسب في الكيفيات كي تكون ملذوذة. ويجب أن يكون التلحين ملائماً للكلام والوزن الشعري. والغناء يحدث في العمران اذا توافر وتجاوز الحد الضروري الى الحاجي ثم الى الكمالي، وتفننوا فيه، فتحدث هذه الصناعة المقدمة ص 760 - 763. بعد ذلك يتحدث حديثاً مقتضباً عن الغناء عند العرب المقدمة، ص 764 - 767. تعليم العلوم يرى ابن خلدون ان الحذق في العلم والتفنن فيه والاستيلاء عليه انما هو بحصول ملكة في الاحاطة بمبادئه وقواعده والوقوف على مسائله واستنباط فروعه من أصوله. وما لم تحصل هذه الملكة لم يكن الحذق في ذلك الفن المتناول حاصلاً... والملكة انما هي للعالم أو الشادي في الفنون دون سواهما. والملكات كلها جسمانية سواء كانت في البدن أو الدماغ، من الفكر وغيره. والجسمانيات كلها محسوسة فتفتقر الى التعليم. ولهذا كان السند في التعليم في كل علم أو صناعة يفتقر الى مشاهير المعلمين فيهما. وتعليم العلم اختلاف الاصطلاحات فيه. فلكل امام من الأئمة المشاهير اصطلاح في التعليم يختص به، شأن الصنائع كلها المقدمة 770 - 771. يلي ذلك بحث مقتضب في حال العلم في أيامه في الأندلس والمغرب مع مقابلة مع المشرق المقدمة، ص 771 - 779. أوردنا، في ما سبق، جماع آراء ابن خلدون في الصنائع وبيّنا انه تحدث عنها من خلال نظرته العامة الواسعة في العمران من شتى نواحيه، وأظهر ارتباط الصنائع بتقدم العمران واتساعه، وتوقفها عند انحسار العمران عن قطر من أقطار عالمه وبالنسبة لتاريخ هذا العالم و"عمرانه". والسؤال: هل مثل هذا الحديث يدخل في الموضوع العام للندوات السابقة واللاحقة؟ إذا اقتطع الموضوع من أصله، فالجواب قطعاً "لا". لكننا نظرنا الى ما ارتآه في الصنائع لا من حيث طبيعتها منفصلة عن محيطها، بل عن انها جزء أساسي من نظرة الرجل الى العمران، ومن حيث انها ركن من أركان هذا العمران والحياة الحضرية وما تؤديه من وظيفة اجتماعية وكونها سبيلاً الى خلق ملكات في اطار أعم. من هذه الناحية يمكن لهذا البحث المقتضب ان يعتبر، في الاطار العام، جزءاً من البحث في التفكير العلمي عند ابن خلدون، وهو، بذلك، يمكن اعتباره ناحية من نواحي تاريخ العلوم بالمعنى الأوسع عند العرب. والله أعلم. * أستاذ التاريخ في الجامعة الاميركية سابقاً، والبحث ألقي في "الندوة العالمية لتطور العلوم عند العرب" المنعقدة في العين دولة الامارات في مركز زايد للتراث والتاريخ بالتعاون مع جامعة حلب.