حدث ذلك في "المقهى الكبير" الواقع في "الجادات الكبرى" وسط باريس الصاخبة اللاهبة ذات الطابع الكوزموبوليتي الذي لا يضاهى في ذلك الحين: مجموعة من الجالسين في المقهى، وقد دفع كل منهم فرنكاً واحداً على وعد ان يشاهد، مقابل "فرنكه" ما لم يكن أحد شاهده في تاريخ البشرية": صوراً تتحرك على الجدار أمامه. بعض الحضور كان لديه فكرة ما عما سيعرض، لكن الأكثرية كانت هناك مترقبة مندهشة، يخامرها كثير من الشك وهي تعتقد ان ما ستراه خدعة ساحر ما. فجأة أطفئت الأضواء وخيم سكوت عميق الى جانب الظلام. وراحت تتتابع على الجدران مشاهد عائلية لا يزيد طول الواحد منها على ثوان، ثم تتابعت مشاهد من "الحياة الواقعية"، عند باب المصنع، قرب شاطئ البحر... وحتى هنا كانت صيحات الاعجاب هي السائدة، وتبدى من خلال الصراخ المندهش ان الحضور ادركوا ان ليس ثمة خدعة في الأمر. هناك اختراع جديد طريف، يشهدون هم ولادته ولكن من دون ان يخامر احدهم شعور بأن ذلك الاختراع سوف يكون ذا شأن في العقود المقبلة من السنين، إذ عدا عن الدهشة التي أثارتها المشاهد، لم تتمكن هذه الأخيرة من نقل أي انطباع حاد الى المتفرجين: شعروا كأنهم جالسون أمام صور فوتوغرافية تتتالى. ولكن فجأة، حدث ما لم يكن أحد يتوقعه: ظهرت على "الشاشة" صورة لسكك حديد امتدت من زاوية الصورة العليا، الى الزاوية السفلى المقابلة لها من الناحية الثانية، واقترب القطار عابراً خط السكة آتياً من عمق الصورة، ومع اقترابه "السريع" - في مقاييس ذلك الزمان - تراجع المتفرجون في الصالة وهم يصرخون رعباً. لقد خيل اليهم ان القطار سوف يتابع مساره حتى يدهسهم. نسوا فجأة انهم امام صورة، أو صور، لا أكثر. وكانت تلك واحدة من أعظم اللحظات المؤثرة في تاريخ الفن لأنها كانت لحظة الرعب الأولى. سوف تتبعها لحظات كثيرة، ولن تكف السينما عن ارعاب المتفرجين واثارة وجدانهم، لكن تلك اللحظة - على ما قد يبدو فيها اليوم من سذاجة، ستظل اللحظة الأكثر فاعلية، وربما الأكثر تعبيراً - على الدوام - عن علاقة السينما بجمهورها. تلك العلاقة التي رسمت ونظمت جزءاً كبيراً من أخلاقيات وسلوكيات ومشاعر القرن العشرين. طبعاً لم يكن الاخوان لوميار، صاحبا الفيلم، وصاحبا العروض السينمائية العلنية الأولى في التاريخ، يدركان في تلك اللحظات انهما، أكثر من اختراعهما فن السينما فهما في نهاية الأمر لم يكونا مخترعيه الحقيقيين، كانا المؤسسين الحقيقيين لتلك العلاقة الحميمة التي قامت دائماً بين المتفرج والفيلم. ولعلها كانت العلاقة الأكثر حميمية وغرابة التي قامت بين أي فن وجمهوره في تاريخ البشرية. لاحقاً، بعد سنوات طويلة سيقول لويس لوميار، أحد الأخوين انه "منذ البداية" كان يريد من اختراعه ان "يعيد انتاج الحياة". ومن هنا كان هو "وبكل فخر" أول "سينمائي تمكن من التقاط صورة الحياة والطبيعة ميدانياً". هذا صحيح، لكن الأصح منه ان لوميار، الأخوين، لم يكونا واعيين بهذا البعد في ذلك الحين. السينما كلها احتاجت لعقود قبل ان تدرك دورها، لكن هذه حكاية أخرى بالطبع. يبلغ طول الفيلم، وعنوانه "وصول القطار الى محطة لاسيوتا" خمسين ثانية، وهو صور عند نهاية العام 1895 ليعرض في كانون الثاني يناير من العام التالي. ولكي يلتقط المشهد عمد المصور الى وضع الكاميرا بشكل يمكنها من التقاط الصورة ككل، وتصوير القطار قادماً بحجمه الهائل وكأنه وحش مفترس. ما وصل هنا هو "سحر الحركة" حيث ان ذلك المشهد/ الوثيقة الذي لا يبدو اليوم أكثر من لقطة شديدة العادية، اتخذ على الفور طابع الملحمة الخيالية، وذلك لأن الفيلم، وبحسب المؤرخ فنسان بينال، تمكن - للمرة الأولى في تاريخ الفنون البشرية - من الجمع بين عناصر ثلاثة أساسية: واقعية الصورة متخلية في عمقها: القوة الدرامية للمشهد المؤلف من لقطة واحدة" وأخيراً عنصر التصوير المباشر الذي يترك لدى متفرجيه شعوراً بإمكان توقع الصدفة، على عكس ما يحدث حين يكون المشهد مصوراً انطلاقاً مما هو تمثيل. هنا يمكن للمتفرج أن يتوقع أي شيء بما في ذلك الكارثة. ويقيناً ان هذه العناصر الثلاثة التي اتسمت ببراءتها كلها في ذلك الحين، سوف تطبع أجيالاً عديدة من المتفرجين. لكنها في الوقت نفسه، وللسبب نفسه، سوف تلقي في وجه فناني السينما قفاز تحد جبار: ان عليهم، من ناحية ان يعبروا خلف مشاهد الحياة بحيث يكون العنصر الأساس فيها عنصر "الإيهام بالحقيقة"، وعليهم من جهة ثانية ان يدفعوا المتفرج الى نسيان حقيقتين: أولاهما، ان ما يشاهدونه ليس ما حدث، بل صورته ما يذكر بلوحة ماغريت الشهيرة التي صور فيها غليوناً كتب تحته "هذا ليس غليون" - بل صورته، تقول واحدة من تفسيرات اللوحة، وان الحدث - حتى لو كان حقيقياً - جرى منذ زمن" وثانيهما ان ثمة من يصور ما يحدث وبالتالي ليس المتفرج وحيداً في مواجهة ما يشاهده، بل ان هناك وسيطاً. والحال ان السينما الكبيرة تمكنت دائماً من دفع متفرجيها الى عالمها، عبر دفعهم الى نسيان تينك الحقيقتين والحال، أيضاً، ان هذا حدث باكراً، مع "وصول القطار". على رغم ان المؤرخين الفرنسيين يحبون دائماً اعتبار الأخوين لوميار "مخترعي فن السينما" فإن الواقع يقول لنا ان ذلك الفن اخترع قبلهما، في الولاياتالمتحدة وفي بريطانيا وفرنسا، لكن الأخوين كانا مبتكري فن الاستعراض السينمائي بما في ذلك من ريب. ومن هنا موافقة مؤرخي السينما للفرنسيين على اعتبار الأفلام العديدة التي صورها وعرضها الاخوان لوميار، أواخر القرن الفائت البداية الحقيقية للسينما كفن استعراضي والاخوان لوميار هما أوغست 1862 - 1954 ولويس 1864 - 1948، الأول ساهم مع أخيه في بدايات السينما ثم انصرف الى الانهماك في بحوث طبية رأى انها أكثر جدوى من متابعة الاهتمام بفن السينما، أما الثاني، وهو يعتبر المؤسس الحقيقي لفن "السينماتوغراف" فإنه تابع الاهتمام بالسينما وظل له باع طويل فيها، ويعتبر المسؤول الأساسي عن عشرات الأفلام التي صورت وعرضت باسمه وباسم أخيه. ولئن كان فن السينما يدين الى الأخوين لوميار بكل الازدهار الذي عرفه، فإن المخرج الكبير جان - لوكا غودار، كان واحداً من قلة التقطت جوهر هذا الدين، بعيداً عن حدثيته، وحتى عن تأثيره في المتفرجين، إذ كتب يوماً عن لويس لوميار يقول: "ان لويس لوميار، عبر انتمائه الى الفنانين الانطباعيين، يمكن اعتباره متحدراً مباشرة من غوستاف فلوبير، كما من ستاندال، لأنه يبدو واضحاً وكأنه في تجواله في الطرقات والتقاطه للمشاهد، كان يحمل مرآة هذين ويعكس عبرها مشاهد الحياة في تلك الطرقات".