حسابياً، لن ينتهي القرن العشرون اليوم. إذ لا يزال باقياً له، في عمر الزمن، عام بأكمله، ومع هذا ثمة عرف عام يقضي بأن تحتفل البشرية في هذا اليوم بالذات، بنهاية تاريخ وبداية تاريخ آخر. يقيناً اننا سوف نستيقظ صباح غد، الأول من الشهر المقبل، والعام المقبل، لنجد ان ليس ثمة أي تغير حقيقي في حياتنا اليومية. ويقيناً أن كثيرين سوف يضحكون وكثيرين سوف ينتظرون عاماً آخر لكي يحتفلوا الاحتفال الحقيقي. ومع هذا، اذا كان ثمة ما يمكننا ان نقوله منذ الآن عن القرن العشرين، الذي يعيش أزمانه الأخيرة، فإن هذا الشيء هو، وفي ما يعنينا هنا، ان هذا القرن كان - بين أمور أخرى - عصر السينما، واكثر من هذا، عصر الصورة بشكل عام. صحيح ان الصورة فيه لم ينسف وسائل التعبير الأخرى، وصحيح ان السينما لم تحل كلياً مكان الفنون السابقة عليها. غير ان السينما، بشكل خاص، كانت - وفي الحسابات كافة - عنصر التأثير الأكبر الذي اشتغل على البشرية، ذوقاً وأخلاقيات وطبيعة ومزاجاً، طوال هذان القرن. ففي تاريخ البشرية لم يسبق لفن من الفنون ان لعب الدور الذي لعبته السينما. وفي تاريخ البشرية لم يسبق لفن من الفنون ان وحد البشرية الى الحد الذي وحدتها فيه السينما. وحين نقول السينما، هنا، لا نحب ان نتوقف عند حدود قومية أو نوعية أو اسلوبية لها، بل عند السينما ككل. ذلك الفن السحري الذي حين حرك الصورة، أواخر القرن الماضي فتح أمام البشرية، على مختلف انتماءاتها ومشاربها وتوزعها الجغرافي والعرقي، آفاق تعارف وتلاقي نكاد نقول انها كانت هي ما خلق بذور ما يسمى اليوم ب"العولمة". ترى، منذا الذي كان في وسعه، يوم عرض الاخوان لوميار صورهما البسيطة الأولى، ان يخمن ان تلك الصور المرتجفة السوداء البيضاء الشاحبة ستكون الأب والأم الشرعيين، لألوف الأشرطة التي مرت على الشاشات الفضية والبيضاء، قبل ان تصل الى شاشات التلفزة والانترنت، مداعبة في طريقها مخيلة مئات الملايين من البشر، مؤثرة في حياتهم وفي وجودهم، كاشفة لهم خفايا الروح البشرية وخفايا الكواكب وخفايا التاريخ والفن؟ لقد قدمت السينما لمتفرجيها أي للبشرية قاطبة طوال قرن من الزمن، ألوان الفنون والعواطف، احتضنت المسرح والواقع، الشعر والموسيقى، الرسم والغناء، الفواجع والهزليات، ورسمت للتاريخ صوراً، حتى في تناقضها والسجال من حولها عرفت كيف تتحول الى واقع ثاني، صار هو الواقع الأول. نقول هذا وفي ذهننا ممثلون اعاروا ملامحهم على الشاشة لأبطال الواقع والتاريخ، فاختفت سمات هؤلاء الحقيقية خلف القناع الذي صار هو الحقيقة. والسينما التي نقلت الى الشاشة، الروايات وحياة الناس، كانت هي التي ساهمت، ولا تزال في غزو الفنون كلها عقول البشر، وفي جعل التاريخ مؤلفاً أو حقيقياً جزءاً من الوعي العام لهؤلاء البشر. والسينما ساهمت في تزويد الناس بالأساطير الجديدة: النجوم، في زمن قيل عنه دائماً انه كان، في الأصل، زمن نسف الأساطير. والسينما صارت، في الصالات العتمة أو المفتوحة، في النوادي أو غيرها، مركز التجمع الأكبر والأفضل والأرحب والأكثر ترفيهاً لمئات ملايين البشر. وهي خلقت في طريقها ملايين الوظائف ومليارات ساعات العمل وثروات لا تحصى. فعلت السينما هذا كله، وفعلت غيره مما يضيق المجال عن حصره. وهي - وهذا هو الاساس - لا تزال تفعله حتى اليوم، وسوف تظل تفعله لأجيال من الزمن قادمة. ذلك ان السينما، التي لطالما تنبأ كثيرون بموتها، اثبتت مع نهايات هذا القرن، أنها لا تزال حية ترزق، بل اكثر من أي نشاط انساني آخر. هذا ما تقوله الأرقام والنجاحات التي لا تتوقف. وهذا ما يقوله تأثير السينما الثابت والمتنامي على أجيال تتابع من البشر، ومع نهايات هذا القرن ها هي السينما لا تزال تعيش اكبر انتصاراتها. تعيشها أولاً، بالطبع، على شكل أفلام تُشاهد من قبل مئات الملايين. وتعيشها أيضاً على شكل شرائط تُقدم عن طريق ابتكارات جديدة، وتحديداً من نوعية تلك التي قيل ذات يوم انها في طريقها لأن تقضي على السينما. صحيح ان هذه الصورة الزاهية تحمل نقائضها ايضاً. ونقاط ضعفها. اذ، مع حلول نهاية قرن السينما الأول، ها هي سينما أمة واحدة تكاد تكون، وحدها، المسيطرة، ونعني بها السينما الاميركية، فيما تضمحل سينمات اخرى. ومع حلول نهاية قرن السينما الأول، ها هي الصالات السينمائية نفسها تكف عن كونها المكان الوحيد والمميز الذي تعرض فيه الافلام. غير ان هذه الأمور، على أهميتها، تظل تفصيلية امام الانتصار الكبير والحاسم الذي حققته السينما وتحققه. هذا الفن الذي صار بالتدريج خلاصة الفنون، كل الفنون، بعدما كان فناً سابعاً وحسب. هذا الفن الذي أسبغ سماته على العصر كله، وطبعه بطابعه، فاستحق القرن العشرون ان يسمى أيضاً، عصر السينما.