احتلت التربية والتعليم موقعاً مميزاً في التراث الاسلامي فتعددت الطروحات والنظريات في هذا الحقل تعدداً خلاقاً، ولكن هذا التعدد لم يخرج من أطر النهج الاسلامي فكان متوافقاً مع ثوابت الشرع الاسلامي ومنهجيته، من هنا أخذت هذه المفاهيم التربوية خصوصيتها وتمايزها. وسنتناول بإيجاز مفهوم التربية والتعليم عند كل من "أخوان الصفا" و"ابن خلدون" لنستخلص من خلالهما بعض معالم الفكر التربوي في التراث الاسلامي من جهة، ولكونهما من جهة اخرى تناولا هذا الموضوع بالعمق. - اولا: النظرة التربوية. اهتم "اخوان الصفا" بالعلم انطلاقاً من قناعتهم ان مصير النفس من شقاء وسعادة بعد مفارقتها الجسد يتوقف على مقدار ما أحرزت من علم في هذه الحياة الدنيا، وهم وإن لم يكونوا من الذين تولوا التدريس والتعليم بمعناه الذي نعرفه اليوم، إلا أنهم كانوا أصحاب مذهب ديني معين، عملوا جاهدين لايجاد أنصار لهم تعتقد آراءهم، وتعمل على تحقيقها، وحتى يؤمن الناس بقضيتهم ويكون عندهم من العلم والحصافة لتقبل فكرتهم، كان لا بد من أن يعتمدوا على آراء تربوية تعليمية تخدم هذه الغاية، وهذا كان الدافع لهم لوضع رسائلهم التعليمية لتلقينها الى الذين سيكونون دعاة لفكرتهم في جميع الأمصار، وبالتالي وجهوا آرائهم التربوية لهؤلاء الدعاة والأنصار، لتعينهم في استقطاب الناس للأخذ بدعوة "أخوان الصفا" وبث أفكارهم. - دور المعلم. ان أول ما يلفت النظر في الآراء التربوية لأخوان الصفا تأكيدهم الحاجة الى المعلم واشتراط صفات خاصة في هذا المعلم، ثم الاشادة بقيمته ومنزلته وتركيزهم على أهمية العلم ودوره في تكوين الوعي لدى الجماعة وفي هذا يقولون: "لأن أعمال النفس الانسانية المكتسبة خمسة أنواع: علوم ومعارف، وأخلاق وسجايا، وآراء ومعتقدات، وكلام وأقاويل، وأعمال وحركات، وتوصف هذه الأشياء بالخير والشر من وجهين عقلي ووضعي، فالوضعي هو كل شيء أمر به الشرع أو حث عليه أو مدحه، فيسمى ذلك خيراً، وكل شيء نهى عنه أو كرهه يسمى شراً. أما العقلي فهو كل شيء إذا فعل منه ما ينبغي، في الوقت الذي ينبغي، من أجل ما ينبغي يسمى ذلك خيراً، ومتى نقص من هذه الشرائط واحد يسمى ذلك شراً، ومعرفة هذه الشروط ليس في وسع كل انسان في أول مرتبته الا بعد ان تتهذب نفسه ويترقى في العلوم والآداب... ومن أجل هذا يحتاج كل انسان الى معلم... في تعلمه وتخلقه وأقاويله واعتقاده وضائعه". لقد أعطى "أخوان الصفا" للعلم أهمية كبيرة "فليس من فريضة من جميع ما فرضته الشريعة أوجب ولا أجل، ولا أشرف ولا أنفع للانسان ولا أقرب له، من العلم وطلبه وتعليمه، لأن العلم حياة القلب من الجهل - وهذا ما نسميه في عرف التربية الحديثة "التربية العقلية" لأن العرب كانوا يعتقدون ان القلب هو مركز الفكر - وفي الآية الكريمة -: لهم قلوب لا يفقهون بها - ومصابيح الأبصار من الظلم - وهذه هي التربية الخلقية - وقوة الأبدان من الضعف - وهذه التربية الجسمية - ولأن العلم أمام العمل والعمل تابع له - وهذه هي "التربية العملية" -". وذكر "أخوان الصفا" في اطار حديثهم عن المعلم ما نسميه في التربية الحديثة "الاختبار الشخصي للمعلم وذلك عند كلامهم عن الداعية الذي رغب ان يتلقى العلم عنهم فوجهوا الخطاب اليه قائلين: فلو وصلت ايها الأخ السعيد الينا واطلعت علينا وامتحناك بحيث نراك، كمن يمتحن مثلك ممن يصل الينا ويرد علينا ورأيناك. وعددوا "اخوان الصفا" بالتفصيل الصفات التي يجب على المعلم ان يتميز بها. وزادوا اليها بعض النصائح ذات البعدين المهني والاخلاقي. وأشاروا الى حقوق المعلم على تلاميذه قائلين: واعلم ان المعلم... أب لنفسك، وسبب لنشوئها وعلة حياتها كما ان والدك أب بجسدك وكان سبباً لوجودك... فوالدك أعطاك صورة جسدية ومعلمك أعطاك صورة روحية... وما دام المعلم في منزلة الأب، بل أعلى منزلة لأنه مربي الروح، فبديهي أن يعظمه ويجله ويحرص على رضائه ويحتفي به أين وجده ويقعد بين يديه كل تلميذ أو طالب من طلابه. وحرص "أخوان الصفا" ان يكون التلميذ الذي ينشدون تلقينه المعرفة السليمة من الأحداث الذين لم تلوث افكارهم بمعتقدات فاسدة وآراء غير صحيحة "ان مَثَل أفكار النفوس قبل أن يحصل فيها علم من العلوم، واعتقاد من الآراء كمثل ورق أبيض نقي لم يكتب فيه شيء، واذا كتب فيه شيء، حقاً كان أم باطلاً شغل المكان ومنع ان يكتب فيه شيء آخر". ولذلك ركزوا تعليمهم على "الشباب السالمين الصدور، الراغبين بالأدب المبتدئين بالنظر في العلوم". وقد فطن "اخوان الصفا" الى ان بعض العلوم يصلح لها صنف من الناس من دون غيرهم وان يختار التلاميذ الصالحون لكل علم بحسب استعدادهم وميلهم حتى لا يضيع على المتعلم وقت ثمين في تحصيل موضوع لا يرغب به. "فإن الله خلق لكل نوع من العلوم أمة من الناس، وجعل في جبلة نفوسهم محبة معرفتها" والعمل على طلبها وتعلمها. وضع "أخوان الصفا" اسس واضحة لتقسيم العلوم الى أربعة أقسام مع الاشارة الى اعتبارهم ان الفلسفة هي المدخل لكل علم من العلوم. وجاء تقسيمهم على النحو الآتي: 1 - رياضية تعليمية - كالعدد والهندسة والموسيقى والكلام والجغرافيا والمنطق. 2 - جسمانية طبيعية - كالزمان والمكان، السماء والعالم، والهيولي والصورة، وكيفية تكوين المعادن وأجناس النبات والحيوان. 3 - نفسية عقلية - كالمبادئ العقلية وماهية العشق، ونشأة العالم وأقسام النفس. 4 - رسائل ناموسية شرعية دينية، كالكلام في الآراء والمذاهب والمعتقدات وأنواع السياسات. وقسموا الناس الذين يشتغلون بالعلم في عصرهم ثمانية أصناف: حفظة القرآن - رواة الحديث - طلاب الفقه - الغزاة والمدافعون عن الشعور - الزهاد والوعاظ - الملوك والحكام - وأخيراً الفلاسفة. - طريقة تحصيل العلوم. وضع "اخوان الصفا" منهجية لطرق تحصيل العلوم تستند على الحواس ثم العقل، ثم البرهان وقالوا في ذلك ان أول طريق التعلم هي الحواس، ثم العقل ثم البرهان، فلو لم يكن للانسان الحواس لما أمكنه ان يعلم شيئاً، لا المبرهنات ولا المعقولات ولا المحسوسات البتة ويقولون في موضع آخر "من الواجب طلب العلوم من ثلاث طرق فإحدى الطرق التي تنال بها النفس العلوم قوة الفكر الذي به تدرك النفس الموجودات المعقولات والطريق الآخر السمع الذي تقبل به النفس معاني الكلمات واللغات.. والآخر طريق النظر الذي به تشاهد النفوس الموجودات الحاضرة والاقتصار على طريق واحدة من هذه الطرق "مثله كمثل المريض الذي ليس له من ماله إلا الثلث لأن المريض واقف بين رجاء الحياة وخوف الممات. ان نظرة "اخوان الصفا" التربوية تعطي صورة واضحة عن عمق تفكيرهم وحدود اهتمامهم بازدهار العلم وتقدمه في عصرهم. * كاتب لبناني.