يعبر الموقف من ابن القيسراني عما يمكن أن تؤدي إليه الروح الدوغمائية في التفكير من أضرار جسيمة على تنامي المنهج العلمي في الاستدلال وإشاعته بين المجتهدين. وكذلك إسقاط المجتهد نفسه إذا خالف الموقف المتوارث المشاع عن الدين الذي ينطلق من فرضية مسبقة هي نزوع الدين إلى مجافاة كل ما يتعلق بالتسرية والإلهاء والترفيه، على أساس أن التدين هو توجه نحو الآخرة بعيداً عن متعلقات الدنيا، وإن كنا من جهتنا نرى أن التدين هو إقامة التوازن بين المتطلبات الروحية والمادية للإنسان من أجل ابتغاء الدار الآخرة، ولكن ما نرمي إليه في هذا المقال هو كشف جناية المواقف المسبقة على إعمال المنهج العلمي، ومن ثم الدوران في حلقة مفرغة يتحتم على المجتهد فيها أن يعود إلى النقطة نفسها التي ينطلق منها وإلا تعرض لإطاحته خارج دائرة الاجتهاد الإسلامي. قدم ابن القيسراني أحد أعلام القرن الخامس الهجري مناقشة رائعة لموضوع الغناء الذي هو موضوع الفن عموماً ليس فقط من باب التسري واللهو والترفيه وإنما تعبيراً عن إحدى الحاجات الضرورية للإنسان، بل وفوق ذلك أحد أخطر الوسائل الفعالة - خصوصاً في العصر الراهن - لنشر الدين نفسه. وبدلاً من مناقشة دلائل ابن القيسراني وحججه تم إسقاطه بالكامل على أساس كونه ليس ثقة، فإذا تم التساؤل: ولماذا هو غير ثقة؟ قيل لأنه أباح الغناء كما قال صاحب "الشذرات": قال ابن الناصر: "كان حافظاً مكثراً جوالاً ولولا ما ذهب إليه من إباحة السماع لانعقد على ثقته الإجماع". وهكذا ندور في الحلقة المفرغة إلى لا شيء. ويحدد منهجه كالآتي: "ليس لأحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعد الخلفاء الراشدين الذين أمر بالاقتداء بهم والاتباع لسنتهم أن يحرّم ما أحله الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم إلا بدليل ناطق من آية محكمة أو سُنّة ماضية صحيحة أو إجماع عن الأمة على مقالته، فأما الاستدلال بالموضوعات والغرائب والأفراد من رواية الكذبة والمجروحين الذين لا يقوم بروايتهم حجة وبأقاويل من فسّر القرآن على حسب مراده ورأيه فحاشا وكلا أن يُرجع إلى قولهم. ويسلك طريقهم، إذ لو جاز ذلك لم يكن قول أحد من الناس أولى من قول غيره". ويعرض ابن القيسراني أفكاره بذكر أدلته على إباحة الغناء على الإطلاق، أي من غير آلة موسيقية ثم ذكر الموقف من الغناء مع الآلات الموسيقية ثم ذكر أدلة المحرمين، ومناقشتها. ومن بين الأحاديث الشهيرة التي يوردها في إباحة الغناء ما يروي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: "دخل عليَّ أبو بكر وعندي جاريتان من جواري الأنصار تغنيان بما تقاولت به الأنصار يوم بعاث يوم من أيام العرب قالت وليستا بمغنتين. فقال أبو بكر: أمزمار الشيطان في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم! وذلك في يوم عيد فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن لكل قوم عيداً وهذا عيدنا" متفق عليه. وعن عائشة أيضاً أنها قالت: "زفت امرأة إلى رجل من الأنصار فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم: يا عائشة ما كان معكم لهو؟ فإن الأنصار يعجبهم اللهو". رواه البخاري. وما يضيفه ابن القيسراني أنه يروي بسنده أثاراً عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب والإمام مالك والإمام الشافعي والإمام أحمد بن حنبل في إباحة الغناء من دون آلة. أما عن آلات الغناء فيقول عنها: "أما ضرب الدف والاستماع إليه فنقول إنه سُنّة سمعه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمر بضربه لا ينكره إلا جاهل مخالف للسنة". وبالنسبة إلى اليراع المزمار يذكر ما يحتج به المحرمون فيما يروي عن ابن عمر أنه سمع مزماراً فوضع أصبعيه على أذنيه ونأى عن الطريق وقال: "كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فسمع مثل هذا فصنع مثل هذا". فيقول عنه إنه حديث منكر ويروي ذلك عن أبي داؤد وعن الإمام الحافظ المقدسي. وأما الأوتار فيقول عنها: "قد صح عند سائر الفقهاء أن سماع الأوتار مذهب لأهل المدينة". أما ما يحتج به محرمو الغناء فيقول ابن القيسراني عن ذلك: "أما ما احتجوا به من الآيات، احتجوا بقوله عز وجل: "من الناس من يشتري لهو الحديث" الآية وأوردوا في ذلك عدة أسانيد إلى عبدالله بن عباس وعبدالله بن مسعود وعبدالله بن عمر فنظرت في جميعها فلم أر فيها طريقاً يثبت إلى واحد من هؤلاء الصحابة". ويعلق على ذلك بأنه من أمحل المحال أن يكون ذلك التفسير صحيحاً ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم لعائشة رضي الله عنها "أما كان معكم من لهو فإن الأنصار يعجبهم اللهو". ثم أورد الأحاديث التي يحتجون بها ومنها "لا يحل بيع المغنيات ولا شراؤهن ولا تحل التجارة فيهن وأثمانهن حرام والاستماع إليهن حرام". فذكر من بين رواته عبيد الله بن زحر ثم ذكر رأي علماء الحديث فيه ومنهم يحيى بن معين وابن حبان حيث يذهبان إلى أنه منكر الحديث. ومنها "أمرني ربي عز وجل بنفي الطنبور والمزمار" وذكر أن راويه هو إبراهيم بن اليسع قال عنه البخاري: منكر الحديث. ومنها "الغناء ينبت النفاق في القلب". وراويه هو عبد الرحمن بن عبدالله العمري ذكر ابن القيسراني أن أحمد بن حنبل قال: ليس يسوي حديثه شيئاً. وقال النسائي: متروك الحديث. ومنها "من استمع إلى قينة صُبَّ في أذنيه الآنك". فذكر من رواته عبيد بن محمد وقال عنه ضعيف. ومنها "ما رفع رجل عقيرته بغناء إلا ارتدف عند ذلك الشيطان على عاتقه حتى يسكت". وراويه مسلمة بن علي الحسيني، قال ابن معين: ليس بشيء. وقال البخاري: منكر الحديث. وهكذا يظل ابن القيسراني يتابع ذكر الأحاديث التي يحتجون بها ويذكر رأيه ورأي علماء الحديث فيها حتى يضعفها جميعاً. ويفسر ابن القيسراني موضوع الموقف من الغناء عموماً أنه "أمر لن يرد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في تحليله ولا في تحريمه نص يُرجع إليه ويعول عليه فكان حكمه الإباحة وإنما تركه من تركه من المتقدمين تورعاً كما تركوا لبس اللَّين وأكل الطيب وشرب البارد والاستمتاع بالنسوان الحسان ومعلوم أن هذا كله حلال لفاعله وقد ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم أكل الضب وسئل عنه: أحرام هو؟ قال: لا ولكن لم يكن بأرض قومي. وأخذ وأكل بين يديه صلى الله عليه وسلم. ثم جاء قوم بعد هذا الصدر فغلظوا القول فيه مخافة أن يشتغل الناس به عما هو أولى منه ثم جاء قوم بعد هؤلاء فحرموه جهلاً وتقرباً إلى العامة بالزهد والصلاح ولم يقفوا على حقيقة علمه وبدء أمره". وقبل أن ننتهي من كتاب ابن القيسراني الذي أصدره "المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية" في مصر عام 1999 بتحقيق أبو الوفا المراغي ومقدمة مهمة لرئيس لجنة إحياء التراث محمد أبو الفضل إبراهيم نريد أن نشير إلى أن ابن القيسراني لم يقف وحده هذا الموقف من الغناء بل إن هناك الكثيرين من أعلام أئمة المسلمين ذهبوا إلى الموقف نفسه. فقد قال القاضي أبو بكر بن العربي في كتاب "الأحكام": "لم يصح في التحريم شيء". وكذا قال الغزالي وابن النحوي في "العمدة" وقال ابن طاهرة في كتابه في "السماع": "لم يصح منها حرف واحد". وقال ابن حزم: "ولا يصح في هذا الباب شيء". وروى الشوكاني إباحته عن أهل المدينة ولو مع العود واليراع. وغير ذلك من الأئمة. وفي المقابل من ذلك فإن هناك عدداً من الأئمة الأعلام يذهبون إلى التحريم على رأسهم الإمام ابن القيم الجوزية الذي ذاعت في الآونة الأخيرة الأبواب التي كتبها في ذلك والتي استهدف منها أصلاً من واجهة بدع الصوفية في عصره وأهم ما يستند إليه المحرمون الحديث الذي رواه البخاري معلقاً: "ليكون قوم من أمتي يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف". وقد اجتهد الحافظ ابن حجر لوصل الحديث ووصله بالفعل من تسعة طرق ولكنها جميعاً - كما يقول عنها الشيخ يوسف القرضاوي - تدور على راوٍ واحد تكلم فيه عدد من الأئمة النقاد ذكر منهم أبو داؤد وأبو حاتم والإمام أحمد ألا وهو هشام بن عمار. وما نريد أن نقوله من كل ما سبق إن مسألة عليها كل هذا القدر من الخلاف ليس من المقبول شرعاً وعقلاً أن تكون سبباً لإسقاط الخصوم أو اتهامهم بالفسق والانحراف. * كاتب مصري.