تعيش الحكومة الجزائرية منذ سنوات ما يشبه "حالة الطوارئ" بسبب إنتقال عدوى عنف الجماعات الإسلامية المسلحة إلى بقية المؤسسات الحكومية، وليستقر أساساً في الملاعب والمدارس الجزائرية. وتشير تقديرات غير رسمية إلى إمكان بقاء هذه الظاهرة عقود أخرى في حال فشل مساعي الدولة في تخليص هذه المؤسسات التربوية من أثار العنف المسلح الذي يهز البلد يومياً والذي يطرح نفسه كبديل مكمل لعنف الجماعات مستقبلاً. وتنامي أحداث العنف في المدارس أثار ذهول الحكومة ووضعها في حرج شديد إزاء تزايد نسب العنف في هذا الوسط من دون قدرة على تشديد "القمع" سواء على الطلبة أو المعلمين على رغم مأسوية بعض الأحداث التي هزت الرأي العام الوطني خلال الفترة الأخيرة. وبادرت وزارة التربية الوطنية، الأسبوع الماضي، إلى عقد ملتقى وطني حول "محاربة العنف والآفات في الوسط المدرسي" خصص لبحث أفاق معالجة هذه الظاهرة التي تهدد باستمرار ثقافة العنف في الوسط المدرسي والمجتمع ككل. وتؤكد التقارير التربوية أن ظاهرة العنف في المدارس الجزائرية في ارتفاع مستمر على رغم الترسانة القانونية التي وضعت منذ الاستقلال سنة 1962. وجاء الاعتداء الجسدي على الفتاة بكير رزيقة، قبل شهرين، من طرف أحد المدرسين وبقاءها في حالة الإغماء أكثر من شهر ليثير زوبعة سياسية وإعلامية حول ظروف تمدرس الطلبة في المؤسسات التعليمية. وتصف أوساط يسارية المدرسة الجزائرية ب"الكارثة" وتتهمها بالسبب في تخريج جيل جديد من الشباب مثل عنتر الزوابري أمير الجماعة الإسلامية المسلحة وحسان حطاب وآخرين بالنظر إلى ضعف التأهيل وعدم التوازن في المنظومة التربوية الأساسية التي وضعت مطلع الثمانينات. وتشهد ظاهرة العنف في المدارس تنامي سريع منذ السنوات الماضية لأسباب متعددة لها صلة مباشرة بالتطور الاجتماعي الذي تعرفه البلد وتزايد حدة العنف المسلح في الشارع والذي هز أركان المجتمع وأفرز طبقة جديدة تدعى عائلات ضحايا الإرهاب تتكون أساساً من اليتامى والأرامل والثكالى. 3106 حوادث عنيفة في المناطق الحضرية ويلاحظ أن ارتفاع نسبة العنف في المدرسة مرتبط إلى حد بعيد بالحوادث التي تقع في المجتمع. وكشفت إحصاءات قدمتها مديرية الشرطة القضائية التابعة للأمن الوطني الجزائري عن ارتفاع قياسي لأحداث العنف في الوسط الحضري. فسنة 2000 فقط شهدت 3106 حوادث عنيفة سجلت خلالها 30 حالة وفاة بعدما كانت هذه النسبة سنة 1999 في حدود 2857 منها 53 حالة أدت إلى الوفاة. وتشير هذه الإحصاءات من جانب أخر إلى تعرض 3425 فرداً إلى العنف الجسدي والعنف الجنسي وتعدٍ مفضٍ إلى القتل خلال سنة 2000 منها 1243 حالة كانت ضحيتها فتيات في الوقت الذي "عرفت" سنة 1999 تعرض 3231 فرداً إلى العنف الجسدي والجنسي وتعد مفض إلى القتل، منها 1023 حالة كانت ضحيتها فتيات مع الإشارة أن هذه الحالات هي تلك التي أحيلت على الشرطة القضائية والخاصة بالوسط الحضري باعتبار أن الحالات الخاصة بالوسط الريفي تبلغ مصالح الدرك. مساع حكومية لتطويق عنف المدارس وفي خطوة من الحكومة للتحكم في هذه الظاهرة بادرت وزارة التربية الوطنية سنة 1992 إلى إصدار قرار وزاري وجهته إلى مختلف المؤسسات التربوية جاء في مادته الأولى: "يهدف هذا القرار إلى منع استعمال العقاب البدني والعنف تجاه التلاميذ منعاً باتاً في جميع المؤسسات التعليمية بمختلف مراحلها". وخصت في المادة الثانية بعض مظاهر العنف: "جميع أشكال الضرب والشتم والتمثيل وكل ما من شأنه أن يلحق ضرراً مادياً أو معنوياً بالتلاميذ". وحثت المعلمين إلى "دعم علاقات الثقة والاحترام المتبادل وتعزيز روح التعاون بينهم وبين تلاميذهم". ولتفادي تحميل الحكومة مسؤولية أي خطأ في ما يتعلق بالعنف في المدارس أشار القرار الوزاري الى أنه "تعتبر الأضرار الناجمة عن العقاب البدني خطأ شخصياً يتحمل الموظف المتسبب فيه كامل المسؤولية المدنية والجزائية ولا يمكن لإدارة التربية أن تحل محل الموظف في تحمل تبعاتها". وفي 15 كانون الثاني يناير 1994 وجه وزير التربية الأسبق السيد أحمد جبار توصية إلى مديري المؤسسات التربوية والثانوية حذرهم بشدة من مواصلة الاعتداءات البدنية على التلاميذ. وقال في مراسلته "لقد بلغني مع الأسف الشديد أن بعض أعضاء الجماعة التربوية من معلمين وأساتذة وغيرهم لا يزالون يستعملون العقاب البدني لردع المخالفات المسجلة على التلاميذ مع أن النصوص القانونية الموجودة تمنع منعاً باتاً هذه الممارسة في التأديب". ولاحظ الوزير الجزائري في رسالته أن "كل التصرفات والأساليب المنافية لروح وأخلاقيات المهنة التربوية هي دليل على ضعف الشخصية والتكوين لدى المربين ويترجم بعدم القدرة على التحكم في زمام الأمور بالطرائق البيداغوجية والعلاج التربوي المناسب". وتأتي هذه التعليمات لتكمل ما أصدرته الحكومة الجزائرية منذ عقود من قوانين لتقليص رقعة وحدة هذه الظاهرة، ومن ذلك القانون الصادر سنة 1966 والقاضي بمنع "استعمال العنف ضد الطفل"، وقانون آخر صادر سنة 1989 وينص على "وجوب الحفاظ على حقوق الطفل وحمايته"، كما تؤكد المادة 34 من الدستور أن الدولة تضمن "عدم انتهاك حرمة الإنسان". تزايد نسبة النزوح في المدارس الجزائرية وبالإضافة إلى الأسباب الاجتماعية والاقتصادية التي تمر بها الكثير من العائلات التي تعرضت للتهميش مع التحولات التي تمر بها البلد أدى تزايد أعمال العنف وتركز المخاوف في الوسط الريفي إلى تشجيع العنف المدرسي ومضاعفة نسبة النزوح من المؤسسات التعليمية. وتؤكد إحصاءات رسمية "صادرة" عن وزارة التربية الجزائرية أنه خلال سنة 1999 شهدت المؤسسات التربوية تسرباً قياسياً للتلاميذ من مدارسهم حيث بلغ عدد النازحين في أقسام التعليم الأساسي 389713 تلميذاً من مجموع سبعة ملايين و 128 ألف تلميذ مسجل أي ما نسبته 46.5 في المئة. كما شهد التعليم الثانوي أرقاماً مذهلة حيث تجاوز عدد المتسربين من المدارس فيه. 164267 تلميذاً من مجموع مليون تلميذ مسجل أي ما نسبته 15 في المئة. العنف انتقل إلى المدرسة في الجزائر ويشدد وزير التربية الجزائري أبوبكر بن بوزيد على تبرئة المدرسة من أن تكون سبباً في تفشي ظاهرة العنف في المجتمع، ويقول "إن ظاهرة العنف انتقلت إلى المدرسة وليس العكس كون المدرسة صورة مصغرة للمجتمع"، مضيفاً "ليس من الموضوعية أن توجه أصابع الاتهام إلى المدرسة بكونها هي التي ولدت ظاهرة العنف...". تشخيص متكامل وأزمة عالقة ويُلاحظ تكامل كبير في وجهات نظر المختصين الجزائريين بشأن معالجة هذه الظاهرة فعبد الرحيم محمد نائب مدير الدراسات القانونية في وزارة التربية يرى أن "النصوص التشريعية قادرة على معالجة هذه الظاهرة لكنها غير كافية فهناك إجراءات جزائية في حال حدوث أي خطر لكن في موازاة ذلك هناك قرارات تمنع العنف بجميع أشكاله والذي يطبقه الأستاذ والمعلم بما فيه العنف الجسدي أو اللفظي"، والمهم كما يذكر "كلما زادت المشاكل تطورت المواد القانونية". أما السيد "سمار" ممثل منظمة اليونيسيف في الجزائر فيرى من جانبه أن "المشكل الذي لحق بالمدرسة والمتمثل في العنف مرده إلى إلغاء الطفل وتعويضه بالتلميذ إذ أننا تجاهلنا احتياجات الطفل كطفل له رغبات وميول معينة، وهذا نوع من أنواع العنف، وبالتالي فإن الطفل العنيف يكون قد تأثر حتماً بشكل من أشكال العنف". ورأى أن التخلص من هذه الظاهرة "يستوجب منا الالتزام بالاتفاقات الدولية حول حقوق الطفل وعدم استغلاله وقد اقترحت منظمة اليونيسيف إجراء تحقيق حول العنف في المدارس الجزائرية وذلك بالتنسيق مع عدة وزارات، على ان تقوم المنظمة بتمويل العملية". أما الأستاذ سي موسى وهو مختص في علم النفس فيعطي تشريح خاص لما يصفه ب"ظاهرة العدوان في الوسط المدرسي" من خلال وضع تحليل نفسي واجتماعي يؤكد فيه على أن هذه الظاهرة "وليدة إهمال الأسرة لجوانب تتعلق بشخصية الطفل في حد ذاته نتيجة عدم احترام رغباته ومشاعره والإصغاء له والتعبير عن مخاوفه اليومية التي يعيشها". وبالنسبة لرئيس الفيدرالية الوطنية لأولياء التلاميذ السيد دلالو فإن العنف الموجود حالياً في الجزائر "ليس بالحجم الذي هو عليه في أوروبا وأميركا"، مشيراً إلى أن "الطاقة الطبيعية التي يتوفر عليها الطفل ينبغي أن توجه وجهة سليمة حتى تجد طريقها الصحيح وتستغل احسن استغلال".