على رغم حرص الحكومات العربية على مسايرة الثورة التكنولوجية الهائلة في الاتصال والمعلومات والتي برزت في المجال "السمعبصري" حيث غطت الفضائيات العربية كل ركن، من سماواتها واخترقت شبكة الانترنت الدولية معظم البيوت العربية الميسورة، غير أن المشهد الإعلامي في العالم العربي يطالعنا بالمتطلبات التالية: أولاً: إن الإعلام العربي يدين في مجمله بتبعية شبه مطلقة للحكومات. ويلاحظ أن السيطرة الحكومية على وسائل الإعلام العربية أدت إلى هيمنة الطابع الرسمي على الممارسات الإعلامية، يتجلى ذلك في الصحف التي لا يتسع أغلبها إلا لوجهات النظر التي ترضي الحكومات العربية وتدعم نفوذها السياسي وسلطتها الإيديولوجية، والشيء نفسه يحدث بالنسبة للإعلام المرئي والمسموع، إذ نادراً ما يسمح بإذاعة برامج خاصة بأحزاب المعارضة أو تحمل رؤية نقدية للحكومات. ثانياً: باستقراء قوانين الصحافة والمطبوعات في 15 دولة عربية اتضح أن هناك ثلاث مجموعات رئيسية، الأولى وتشمل ليبيا والعراق والسودان، تمارس رقابة كاملة على وسائل الإعلام، وليس لهذه الحق بحكم القانون أن تعبر عن آراء تتعارض مع وجهات النظر الرسمية. والمجموعة الثانية تشمل دول الخليج وتونس وسورية وإلى حد ما الكويت، وعلى رغم اختلاف نظمها السياسية إلا أنها تتقاسم موقفاً مشتركاً تجاه وسائل الإعلام التي تغلب عليها التوجهات الحكومية، وإن كان يوجد في هذه الدول صحف خاصة تتمتع بالاستقلال القانوني، لكنها تعمل على تحقيق أهداف ومصالح مالكيها من دون أن تسهم بصورة جادة وفعالة في خلق تعددية فكرية أو ثقافية. وتتألف المجموعة الثالثة من الدول التي تستفيد من هامش الحرية النسبية، بما فيها حرية الصحافة وتشمل مصر ولبنان واليمن، وبدرجة أقل الكويت والمغرب والجزائر. وهناك أربع دول فقط تتضمن قوانينها ودساتيرها نصوصاً تحمي حقوق الصحافيين في الحصول على المعلومات تشمل مصر والأردن واليمن والجزائر. لكن جميع الدول العربية، بما فيها هذه الدول الأربع تفرض السرية على كثير من المعلومات التي يمكن تلخيصها في تسعة أنواع تشمل المعلومات التي تتعلق بالأمن القومي الاستخبارات ووزارات الدفاع والمعلومات الخاصة بالمصالح العليا للدولة وهي مصطلحات مطاطة غير محددة، وتلك التي تتعلق بملوك ورؤساء الدول العربية والدول الأجنبية والاتفاقات والمعاهدات والجلسات المغلقة للبرلمانات وأنباء التحقيقات والمحاكمات، والمعلومات التي تمس الحياة الخاصة للمواطنين، وكل ما يتعلق بالاقتصاد الوطني من ناحية السياسات وإفلاس البنوك، والمعلومات التي تمس المنظومة القيمية والأخلاقية السائدة في العالم العربي. ثالثاً: يلاحظ على السياسات الإعلامية في العالم العربي تركيزها على الجوانب السياسية والدعائية والتحرك في دائرة الحكام وتسليط الأضواء على نشاطاتهم وخطبهم السياسية وتنقلاتهم، ما أدى إلى إهمال الوظائف الأخرى للإعلام العربي، وخصوصاً التثقيف والتوعية القومية والاجتماعية. رابعاً: يغلب على أسلوب الخطاب الصحافي في العالم العربي الطابع الدعائي الإقناعي الانفعالي التقليدي، علاوة على استمرار أنماط الكتابة الصحافية التي تميل إلى الإثارة والمبالغة والمعالجة الجزئية ذات الطابع السطحي للقضايا والأحداث. هذا في الوقت الذي تشهد فيه الصحافة كمهنة - وكمهارة نوعية - نقلة عالمية بحيث أصبحت تعتمد بشكل أساسي على المعلومات والتحليل والاستقصاءات والحوارات الموسوعية وسائر السمات التي لا تزال مفتقدة وغائبة عن الصحافة العربية. خامساً: شهدت مرحلة ما بعد الاستقلال سقوط النظام الإعلامي العربي في أسر التبعية الإعلامية للغرب أوروبا وأميركا والتي شملت مصادر الأخبار وكالات الأنباء وتكنولوجيا الاتصال المطبوع الورق والأحبار والمطابع أو تكنولوجيا الأقمار الاصطناعية وأجهزة الكومبيوتر وبنوك المعلومات، كذلك تجلت مظاهر التبعية في أسوأ صورها في البرامج الإخبارية والدراما والمنوعات والأفلام والمسلسلات والتي استهدفت ترويض العقل الجمعي وقولبة أنماط السلوك والقيم، ما أسهم في النهاية في تزييف الوعي لدى الرأي العام العربي تجاه القضايا الوطنية والقومية والاجتماعية والثقافية، علاوة على تشويه الصورة الذهنية عن العالم العربي وقضاياه وثقافاته، إذ قام الإعلام الغربي بترويجها في مختلف أنحاء العالم في إطار سلبي مغرض. وأظهرت التغطية الإعلامية الدولية لحرب الخليج خصوصاً من خلال شبكة CNN مدى اعتماد العالم العربي بصورة شبه مطلقة على التكنولوجيا الغربية في مجال الإعلام والاتصال. سادساً: لا تزال وكالات الأنباء الغربية تمارس تأثيرها الملحوظ على الإعلام العربي، ويعزى ذلك إلى أنها تأسست وتوطد نفوذها في العالم العربي قبل ظهور وكالات الأنباء الوطنية، لذلك خلقت أنماطاً لسريان الأنباء وأرست تقاليد للعمل الإعلامي، ما جعلها تتمكن من فرض سيطرتها غير المباشرة حتى على أساليب العمل داخل الوكالات العربية ذاتها. وعلى رغم وجود 22 وكالة أنباء عربية، إلا أن وكالات الأنباء الغربية لا تزال تستأثر بالساحة العربية بسبب انشغال العربية بالترويج للحكومات التي تتبعها والانشغال بمعاركها اليومية ضد قوى المعارضة المحلية، وضد الحكومات العربية الأخرى. وما يجدر ذكره أن غالبية الوكالات العربية ليس لها مراسلون في معظم أنحاء العالم العربي والعالم الخارجي ما يجعلها في حال اعتماد على وكالات الأنباء العالمية في متابعة الأحداث الدولية والاقليمية. وما يجدر ذكره أن جميع المحاولات التي قامت بها اليونيسكو فشلت لإقامة وكالة الأنباء العربية فانا اسوة بوكالة الانباء الافريقية بانا والوكالة الآسيوية ووكالة أميركا اللاتينية والكاريبي وجميعها تعمل على مستوى اقليمي. وقد تعددت صور العجز والقصور الذي تعاني منه وكالات الأنباء العربية، خصوصاً أثناء الكوارث والنكبات التي شهدها الوطن العربي في السنوات الأخيرة، ولعل أبرزها حربا الخليج الأولى والثانية والحرب الأهلية في لبنان. سابعاً: تسود المركزية الشديدة النشاطات الإعلامية في العالم العربي، إذ يتركز الانتاج الإعلامي في العواصم، ما يؤدي إلى حرمان وعزلة سكان الريف الذين يشكلون 80 في المئة من إجمالي السكان، وجاءت الثورة التكنولوجية في الاتصال والمعلومات كي تخلق فجوة جديدة بين المستفيدين من الخدمات الإعلامية الحديثة وبين المحرومين منها، إذ أصبح استخدام القنوات الفضائية المحلية والدولية وشبكات المعلومات مقصوراً على الأغنياء والقادرين، وأصبحت تكنولوجيا الاتصال القديمة من نصيب الفقراء. ما أدى إلى تعميق فجوة المعلومات والمعرفة وبين أولئك الذين لا يستطيعون امتلاكها واستخدامها، ويمكن القول إن الثورة التكنولوجية أضافت تصنيفاً جديداً للخريطة الإعلامية في العالم العربي فأصبح هناك إعلام الأغنياء وإعلام الفقراء، سواء كانوا من المتعلمين أو الأميين في الريف أو الحضر، فضلاً عن الإعلام المقروء، أعني الصحافة العربية التي تخص المتعلمين فقط. ثامناً: أدى احتكار الحكومات لصناعة الإعلام والمعلومات إلى إعاقة نمو تكنولوجيا اتصالية ومعلوماتية قادرة على تلبية الاحتياجات الإعلامية للجماهير العربية، ما أدى إلى حرمان المواطن من حقوقه في المعرفة والاتصال وفقدان الإعلام العربي للصدقية، ما أعطى ميزة تنافسية كبرى لوسائل الإعلام الغربية التي اصبحت تحتكر الساحة بوكالاتها وأقمارها الاصطناعية وأجهزة الكومبيوتر. وكانت لذلك تأثيراته السلبية على الأداء المهني للإعلاميين والصحافيين العرب الذين استسلموا للقيود الحكومية، إذ أصبحوا أسرى لما يعرف بالرقابة الذاتية بعد أن اصبحوا يشكلون جزءاً عضوياً من أجهزة الخدمة المدنية الرسمية. تاسعاً: يشهد العالم العربي حالياً سباقاً محموماً في مجال البث الفضائي تشارك فيه 33 قناة فضائية عربية إلى جانب حوالي 65 قناة دولية، وأدى ظهور البث المباشر في العالم العربي إلى خلق العديد من الاشكاليات والمخاوف، خصوصاً في ظل عدم التزام الدول الكبرى بالمواثيق الدولية التي نصت على ضرورة التزام البرامج المبثوثة عبر الأقمار الاصطناعية باحترام الطابع المميز للثقافات المختلفة. وأبرز هذه المواثيق إعلان اليونيسكو 1987 وقرار الجمعية العامة للأمم المتحدة 1982 والمتضمن مبادئ وقواعد تنظيم استخدامات الأقمار الاصطناعية في البث التلفزيوني. وتفاوتت مواقف الدول العربية من البث التلفزيوني المباشر وتراوحت ما بين التحكم في نوعية البرامج المستوردة مع تطوير الخدمة التلفزيونية المحلية مصر والمنع الجزئي لأجهزة استقبال البث المباشر من خلال التحكم المركزي عبر وزارات الإعلام التي تتولى الاستقبال والمراقبة واختيار البرامج المسموح بتوصيلها للمشتركين عبر شبكات الكابل قطر والأردن. أما الانفتاح الكامل مع ضوابط طفيفة فيقتصر على لبنانوالكويت والمغرب، وما يجدر ذكره أن غالبية الدول العربية التي شاركت في البث التلفزيوني الدولي أقدمت على هذه الخطوة من دون أن تضع قضية البث الفضائي في موضعها الصحيح على قائمة الأولويات الخاصة بسياستها الإعلامية الوطنية، ومن دون مراعاة المستوى وكفاءة نظمها الاتصالية وقدرتها على تلبية الاحتياجات الاتصالية داخل مجتمعاتها. ولا شك أن التنافس بين القنوات الفضائية العربية أسهم في رفع مستوى الخدمة الإعلامية، خصوصاً في مجال التغطية الإخبارية والبرامج الحوارية، إلا أنه كشف عن صعوبة تغطية ساعات الإرسال بالبرامج المحلية التي تعاني من الضآلة الكمية من ناحية والاعتماد المكثف على الانتاج المصري خصوصاً في المجالين التعليمي والثقافي من ناحية أخرى، ما أدى إلى ازدياد اعتماد القنوات الفضائية العربية على المنتج الأجنبي الوافد سواء في المسلسلات أو برامج المنوعات والأفلام. عاشراً: في إطار الجدل الدائر حول إمكان توطين التكنولوجيا الاتصالية في العالم العربي تكشف هذا الاشكالية بعض جوانب التناقض التي يزخر بها الواقع العربي الراهن، ويتمثل في أن الدول التي تملك القاعدة العلمية والبحثية والكوادر البشرية المؤهلة والقادرة على تطوير وتوطين التكنولوجيا الاتصالية مثل مصر والعراق والأردن. هذه الدول لا تملك القدرات التمويلية والاقتصادية التي تمكنها من الإنفاق على مشاريع التطوير التكنولوجي. أما الدول التي تملك الإمكانات الاقتصادية للإنفاق على مشاريع التطوير التكنولوجي، فهي تفتقر الى القاعدة العلمية والكوادر البشرية المؤهلة وتتجه سياساتها الاتصالية الى نقل التكنولوجيا الاتصالية الجاهزة مثل السعودية والكويت. وعلى رغم أن العالم العربي يعتمد بصورة إجمالية على الخامات الاتصالية المستوردة من دول الشمال المتقدمة تكنولوجياً، إلا أن ذلك لا ينفي وجود محاولات لتجميع بعض هذه الأجهزة في مصر والأردن والعراق والإمارات في إطار المشاريع التي تقوم بتنفيذها الشركات العابرة للقوميات في العالم العربي. حادي عشر: تشكل الإعلانات مصدراً رئيسياً من مصادر تمويل وسائل الإعلام العربية، وتأتي في المرتبة التالية للتمويل الحكومي، وإن كانت تتفوق عليه في بعض الدول العربية مثل لبنان والمغرب وتونس والإمارات، وإذا كانت الإعلانات لعبت دوراً تاريخياً في ترويج المقولة الخاصة بحرية الصحافة في ضوء التجربة الغربية الأوروبية تحديداً فإن هذا القول لا ينطبق على وظائف الإعلانات ودورها بالنسبة إلى الإعلام العربي، فالإعلانات تشكل حالياً ما يقرب من 60 في المئة من مصادر تمويل العديد من الصحف العربية، علاوة على ضخامة الموازنات المخصصة لها في الإعلام المرئي والفضائيات. ولا يخفى علينا الآثار السلبية للإعلانات، إذا علمنا أنها تمثل الأداة الدعائية الأكثر تأثيراً ونفوذاً للشركات المتعددة الجنسية ووكالات الإعلان الدولية التي تبلغ 40 وكالة منها 30 وكالة أميركية لها ما يزيد من مئتي وكيل في العالم العربي ومن الآثار السلبية للإعلانات أنها تستأثر بالمساحة الإعلامية المخصصة للتثقيف والتوعية ما يحرم القراء من حقوقهم الإعلامية والثقافية، فضلاً "عن دورها في إفساد العديد من الصحافيين العرب وتحويلهم إلى أبواق لشركات الإعلان بتسخير المادة الصحافية لخدمة الأهداف التجارية لهذه الشركات، علاوة على ما تسهم به البرامج الإعلانية المرئية والإعلانات المطبوعة في خلق أنماط استهلاكية معادية للاقتصاد الوطني في معظم الدول العربية. ثاني عشر: كان العالم العربي أسبق من كثير من دول الشمال الصناعي المتقدم ودول الجنوب في تأسيس أول معهد عال لتدريس الصحافة ممثلاً في معهد التحرير والترجمة والصحافة الذي أنشىء في الجامعة المصرية العام 1939، ثم توالت أقسام ومعاهد الإعلام العربية منذ السبعينات حتى وصلت إلى 26 مؤسسة أكاديمية للإعلام تراوحت ما بين أقسام ومعاهد وكليات. وتنوع أداء هذه المؤسسات التي خرجت جميعها من معطف المدرسة المصرية في الصحافة وأسهمت في تأهيل بضعة الاف من الكوادر التي حملت عبء ومسؤولية الممارسة الإعلامية في مختلف القطاعات المقروءة والمرئية والمسموعة في الدول العربية. غير أن المؤسف هو أن اكاديميات الإعلام العربية تفتقر إلى التنسيق والتعاون في ما بينها، فضلاً عما تدين به من تبعية أكاديمية للمدارس الغربية. إذ يسيطر تياران رئيسيان على المناهج الدراسية في هذه الاكاديميات: تيار مرتبط بالمدرسة الاميركية ويتمتع بالغلبة ويروّج له الباحثون الإعلاميون العرب الذين درسوا في الجامعات الاميركية. وتيار ثان مرتبط بالمدرسة الفرانكفونية ويسيطر على معاهد الإعلام في دول المغرب العربي تونس - الجزائر - المغرب - موريتانيا. وهناك تيار ثالث يضم هؤلاء الذين يحاولون إرساء رؤى نقدية للإعلام أكثر ارتباطاً بالواقع الثقافي والاجتماعي العربي، وعلى رغم ضآلة أعدادهم، إلا أنهم يحاولون شق طريقهم بصعوبة بالغة. ويلاحظ في هذا الصدد غياب البحوث الإعلامية ذات الطابع الجماعي وغلبة الطابع الفردي على أغلب الدراسات والبحوث التي تجريها المؤسسات الاكاديمية الإعلامية في العالم العربي. وأدى ذلك إلى بقاء القضايا والاشكاليات الإعلامية الاستراتيجية من دون دراسة ما يعد إحدى السلبيات البارزة في العمل الإعلامي العربي المشترك على المستوى الاكاديمي. * أستاذة الصحافة في جامعة القاهرة.