بدأ اهتمام الباحثين والعلماء الأوروبيين بالمشرق العربي عموماً وبفلسطين خصوصاً في وقت مبكر وكان الرحالة والمبعوثون والحجاج أول المهتمين بالأرض المقدسة، فقاموا بجولات فيها، ونشروا انطباعاتهم عنها. ففلسطينوالقدس تحظى بمكانة متميزة، نظراً لأهميتها الدينية، ولمكانتها المقدسة لدى اتباع الديانات السماوية الثلاث، اضافة الى الموقع الاستراتيجي لفلسطين، الذي جعلها، منذ الفتح الاسلامي وحتى يومنا هذا حلقة وصل بين مسلمي بقاع آسيا وافريقيا، وبين جناحي الوطن العربي. فهي في موضع القلب من العالمين العربي والاسلامي ناهيك عن مكانتها الروحية عند المسيحيين. وفي روسيا يقترن الاهتمام بالحضارة العربية والاسلامية باعتناق روسيا الديانة المسيحية سنة 988 م إذ تضمنت كتب العهد القديم معطيات تاريخية عن الأماكن المقدسة وسكان البلاد العربية وحضارتهم العريقة في بلاد ما بين النهرين وشبه الجزيرة العربية ومصر القديمة وبلاد الشام وغيرها من الأراضي التي توالت عليها حضارات متعددة. ومنذ ان اعتنق الأمير فلاديمير عاهل امارة كييف سنة 988 م النصرانية واتخذ الارثوذكسية عقيدة له ولدولته، أصبحت المسيحية دين الدولة. شدت روحانية هذا الدين الجديد المؤمنين الى حج الأراضي المقدسة في فلسطين، ولا شك في ان اداء فريضة الحج لم يكن أمراً سهلاً، بل واجه الحجاج منذ خروجهم من روسيا وحتى وصولهم الى الديار المقدسة الكثير من المصاعب. وساهم ارتباط الكنيسة الروسية روحياً بالمراجع الكنسية في القسطنطينية في زيادة الزيارات المتبادلة بين البعثات الدينية الروسية والبيزنطية، علاوة على بعثات الحجاج التي أمّت الأرض المقدسة. وعبر العصور حفظت مدونات وتسجيلات الرحالة والحجيج الروس على شكل صحائف وملفات وكتب تضمنت معلومات جديدة عن الشرق الأدنى ومعالمه الطبيعية والحضارية، وعن صاحب الرحلة مع اشارات متفرقة الى من رافقوه في الترحال. في الواقع ليس من السهل على الباحث تتبع رحلات الروس منذ القرن الثاني عشر الميلادي وحتى منتصف القرن الثامن عشر، لا سيما أن هناك رحلات جرى تدوينها ولم يصل الينا منها الكثير، ولعل أشهر ما وصل: رحلات الراهب الروسي دانييل مطلع القرن الثاني عشر، والحاج إغريفين من سمولينسك في سبعينات القرن الرابع عشر الميلادي، والراهب فارسونوفي من كييف بين عامي 1461 و1462، والتاجر الروسي فاسيلي، والرحالة والتاجر الروسي فاسيلي غاغارا في الأعوام 1634 - 1637، والرحالة الأوكراني فاسيلي بارسكي الذي بدأ رحلته في عام 1726. وتذكر السجلات الروسية القديمة ان أول مصدر مدون وصلنا عن رحلات الروس الى بعض بقاع المشرق العربي، وتحديداً مصر وفلسطين، هو مخطوطة "المسيرة" للراهب الروسي الحاج دانييل، التي كتبها بداية القرن الثاني عشر. ويعتقد المؤرخون الروس ان الراهب دانييل كتب مؤلفه هذا قبل عام 1113م، لأن السجلات تذكر ان الحاج دانييل توفي في عام 1113م. هذا لا يعني ان الروس لم يحلوا في الأرض المقدسة قبل هذا التأريخ. فالسجلات التأريخية الروسية تشير الى أن نفراً من الروس زاروا مدناً في بيزنطية وفلسطين في القرن الحادي عشر ومنهم الرحالة انطوان عام 1013م وفارلام وديمتروفسكي الذي أم الأرض المقدسة لأداء فريضة الحج، وزار المطران غيورغي القسطنطينية سنة 1073 م. وفي عام 1102 م، التقى رجل الدين الروسي فيودوسي بيجيرسكي في مدينة "كروسكي" بالحجاج العائدين من زيارة الأماكن المقدسة في فلسطين. وتتحدث احدى الملاحم الشعرية الروسية عن رحلة فاسيلي بوسلايف مع نفر من زملائه الى الأرض المقدسة للثم ضريح السيد المسيح والاغتسال في نهر الأردن المقدس. رحلة الحاج دانييل يعد الرحالة دانييل أول حاج روسي طاف في بداية القرن الثاني عشر 1106-1108م في الأماكن المقدسة في القسطنطينية وفلسطينوالاردن ومصر وبلغ مناطق شرقية لم يصلها معاصروه، ومكث فيها حوالى ستة عشر شهراً. وفي مؤلفه القيم "المسيرة" وصف دانييل ما صادفه من أماكن وما عاصره من أحداث. وفي تجواله الطويل بلغ الرحالة مناطق شرقية حساسة شهدت صدامات مصيرية رافقت وصول الصليبيين الى أرضها يومذاك. في مؤلف "المسيرة" لم يشر الرحالة دانييل الى الطريق الذي سلكه للوصول الى القسطنطينية. غير انه يذكر انه وصل القدس عن طريق ميناء يافا الفلسطيني. ومدينة يافا، في تسجيلات دانييل، تقع قرب القدس و"من يافا وعن طريق البر، وعلى بعد ثلاثين فرسخاً يمكن الوصول الى القدس". وفي "المسيرة" خصص الرحالة دانييل حيزاً كبيراً لوصف أجناس مختلفة من المقدسات المسيحية وأساطير العهد القديم، ودوّن معلومات وانطباعات عن مناطق زارها ومظاهر شاهدها تدخل اليوم في عداد الآثار المفقودة. وتحدث دانييل بشيء من التفصيل عن ثروات القدس الطائلة والمعالم الحضارية للمدينة، التي وصلها بعد سقوطها في يد الصليبيين. وعن القدس الشريف يقول: "... القدس مدينة عظيمة محصنة بأسوار متينة". ويذكر الرحالة دانييل ان لا أنهار ولا ينابيع ولا آبار للمياه بالقرب من مدينة القدس. وعلى مياه الأمطار وحدها يعيش سكان مدينة القدس والمناطق المحيطة بها. وتحدث عن الثروات الزراعية للمدينة قائلاً: "تنتج مدينة القدس وجوارها، القليلة الأمطار، خيرات كثيرة، وخصوصاً الحنطة والشعير، وتحيط بها بساتين الكروم التي تمتد حتى نهر الأردن". ولفت انتباه الرحالة دانييل كثرة الوحوش في الأردن: "يلاحظ وجود وحوش كثيرة في حوض الاردن مثل الخنازير الوحشية والنمور الرقطاء والأسود"... ووصف الرحالة دانييل معارك وقعت بين المسلمين والصليبيين، وقام بزيارة المعسكرين وحظي باهتمام الطرفين. وعبر الرحالة دانييل في كتاباته عن دهشته بما شاهده و"تلح عليّ الأفكار والولع أن أصف كل ما يتراءى لي". وزادت دهشة الرحالة الروسي بطبيعة مصر الفريدة وعالم الحيوان المدهش: "الحيوان المائي الذي يسمى التمساح، رأسه كرأس الضفدعة، عينان بشريتان بأربع قوائم، كل واحدة تزيد عن الشبر قليلاً". قبل "المسيرة" كان الأدب الروسي يفتقد مثل هذا الوصف الرائع والدقيق لديار الشرق الأدنى. وتعتبر "المسيرة" وثيقة مهمة كتبها الرحالة بنفسه، وهي حدث بارز في تاريخ الأدب الروسي. وأهمية هذا الأثر الفريد لا تقتصر على الجانب الأدبي فحسب، بل هو يعد مصدراً عريقاً وأصيلاً عن تاريخ العلم الجغرافي والإثنوغرافي الروسي. وعلى مر القرون ظلت مدونات الرحالة الروسي دانييل، كمصدر تأريخي، ذات قيمة علمية مما دفع العلماء الى ترجمتها الى اللغات الفرنسية والألمانية واليونانية وغيرها. ولاحقاً، جاء في المدونات التأريخية الروسية ان المطران ميخائيل - من كييف - قام في عام 1145 بزيارة القسطنطينية. ويكتسب كتاب "الحاج" الذي ألفه المطران دوبرينين رئيس أساقفة نوفغورود اهمية فائقة، إذ قام الرحالة دوبرينين بزيارة القسطنطينية وأمضى فيها أربعة أعوام 1200-1204، وإثر عودته الى نوفغورود كتب وقائع رحلته، التي حوت وصفاً ممتعاً لهذه المدينة قبل أن ينهبها الصليبيون. واتسم الوصف بالتفصيل والدقة الأمر الذي دفع علماء الآثار الى ترجمته الى اللاتينية والفرنسية... ومن المعالم التي تحدث عنها، ميدان سباق الخيل والحمامات وشبكة المياه. ويذكر انه رأى في كنيسة صوفيا أطباقاً من الذهب الخالص. وهنا التقى مع البعثة الروسية التي أرسلها الأمير الروسي العظيم رومان الى بيزنطة، كما تحدث عن قبر البابا روسينا، الذي حج القدس ثلاث مرات. حتى منتصف القرن الرابع عشر لا تذكر السجلات التأريخية الروسية أية رحلات مهمة لروسٍ الى البلاد العربية، بل ساد انقطاع تام امتد الى قرن ونصف القرن، بسبب الغزو التتري - المغولي لأراضي روسيا وبعض بلدان المشرق العربي، واحتلال الصليبيين بيزنطية ونهبها. وكل ما تذكره السجلات في هذه المرحلة متفرقات عن رحلات قصيرة لشخصيات دينية الى القسطنطينية وأغلبها كان يتصل بتعيين أو تكريم مطران الكنيسة الارثوذكسية الروسية. ومن الحجاج الروس الذين أمّوا الأراضي المقدسة القس غريغوري من نوفغورود، الذي أصبح في نهاية القرن الثالث عشر رئيس أساقفة نوفغورود، وعرف آنذاك بفاسيلي. وفي رسالة له عن "فردوس الأرض" أشار الى رحلته الى "الأرض المقدسة"، وما يؤسف له أنه لم يدون أحداث هذه الرحلة ووقائعها. أما الرحالة الآخر فهو ستيبان، من نوفغورود أيضاً، الذي زار بصحبة صديق له القسطنطينية عام 1350م على الأرجح. وبالمقارنة مع الرحالة والحجاج الذين سبقوه لم يعر ستيبان اهتماماً كبيراً لوصف الأماكن المقدسة، بل أشد ما أثار انتباهه هو المعالم الفنية والعمرانية والحمامات والأسواق. وحوت مدونات الرحالة ستيبان وصفاً لروائع مدينة القسطنطينية، اتسم بالدقة والبراعة العالية في وصف روح ذلك الزمان. وأثار المرفأ الداخلي للقسطنطينية اعجاب ودهشة الروسي ستيبان وكذلك الاسطول البيزنطي. * أستاذ جامعي، ورئيس تحرير مجلة "روسيا والعالم العربي".