ليس من عادة الكتاب المغاربة الحديث أمام الجمهور عن مشكلاتهم مع الراتب الشهري. لكن عبدالحق سرحان لا يعاني نقصاً مماثلاً. وبينما كانت أصابعه المرتعشة تعبث بغطاء قنينة "سيدي حرازم" البلاستيكي، كانت ملامح وجهه جادة وهو يقول، في اللقاء الذي نظمته شوسبريس في مقرها، أنه لا يفهم كيف يتقاضى بعد ثلاثين سنة من التدريس وبعد حصوله على ثلاثة "دكتوراه دولة"، 12 ألف درهم لا غير! ولكن يبدو أن الراتب "الهزيل" لم يكن وحده السبب الرئيسي في هجرة صاحب "مسعودة" إلى كندا. فهو يتهم حيطان الجامعة المغربية بكونها تصيب عظام الأساتذة بالرطوبة... من دون أن ينسى سياسة التعليم الجامعي التي بحسب رأيه تصيب بالإحباط الشديد والتبلد. لذلك باع عبدالحق سرحان منزله الذي انفق بنائه هو وزوجته تحويشة العمر، وأرسل بثمنه بناته إلى كندا للدراسة... قبل أن يلتحق بهن. فهو لا يريد أن يكتب أبناؤه، عندما سيصبحون كتاباً، "مسعودة" أخرى، أو "حداد الكلاب" جديدة، وهي في المناسبة آخر رواياته... وتحكي قصة أربع فتيات يحضرن ليجتمعن حول جثة والدهن القاسي الذي طردهن من البيت، فكن مضطرات لقضاء عشر سنوات من حياتهن في التشرد... عبدالحق سرحان يكتب في "حداد الكلاب" عن أب لا يشبهه في شيء، لأنه عوض أن يترك بناته، التي رسبت إحداهن في قسم البكالوريا بسبب كتاباته المزعجة، عرضة للتشرد بين أروقة الجامعات المغربية فضّل بيع البيت وإرسال الجميع إلى كندا حيث الدراسة ليست مضيعة للوقت... ولا مجانية أيضاً! الذين حضروا هذا اللقاء المفتوح مع عبدالحق سرحان اختلط عليهم الأمر، فبدوا وكأنهم خلطوا بين دعوة شوسبريس وإحدى دعوات منتدى الحقيقة والانصاف... فعوض أن يتكلم سرحان عن روايته الأخيرة "حداد الكلاب"، فضل الحديث عن القرض العقاري والسياحي وتازمامارت وعائشة الشنة ونجاة مجيد وادريس البصري الذي قال بصدده إنه مع توظيفه في الجامعة كأستاذ براتب لا يتجاوز أربعة آلاف درهم، شرط أن يعيد للشعب ممتلكاته. وبسبب تشاؤمه الزائد عن الحد قال سرحان إنه يشعر بالخجل الشديد لأنه أسدل يديه ذات وقت فلم يتعرض للمصير الكارثي الذي تعرض له المرزوقي وجماعته ممن كانوا، بحسب صاحب "بروليتاريو الكراهية"، يريدون تغيير المغرب. لكن تشاؤمه يقف عند هذا الحد، ولا يطرح السؤال السوداوي: يغيرونه نحو ماذا؟! ليس الراتب أو جدران الجامعة الباردة أو حتى الشتائم البذيئة التي تأتيه بانتظام عبر الهاتف وحدها ما دفعه إلى تفضيل ثلوج كندا على شموس المغرب، بل إن حكاية تخليه عن منصبه كمسؤول عن التنشيط الثقافي في الجامعات المغربية لها علاقة بشيء آخر، وتحديداً بالمقالة التي نشرها في مجلة "جون أفريك" تحت عنوان "ما أنتظره من محمد السادس". عندما نشر المقال، كان هناك من طلب منه التخلي عن الكتابة إذا كان يريد الاستمرار في المنصب. وبما أن الأمر يتعلق بكاتب مغربي يتساوى عنده الربح مع الخسارة، ترك استقالته فوق مكتبه وصفق الباب خلفه بلا ندم. وهنا سيأتي دور الحكومة لتنال نصيبها من التقريع. فحسب كاتب مسرحية "كلبة تازمامارت" التي تعرض الآن في باريس، فإن وزراء حكومة عبدالرحمن اليوسفي ليسوا سوى "حفنة من الوزراء"، كما أن اليوسفي بنظر سرحان يمثل الوجه الناصع لفشل المشروع الاشتراكي في التصدي لرموز الفساد والتعذيب الذين ما زال يسمح لهم بالظهور في الأماكن والمناسبات العامة.. بعض الصحافيات والكاتبات الأجنبيات اللواتي حضرن هذا اللقاء أصابهن الرعب وهن يستمعن إلى عبدالحق سرحان يتحدث بسوداوية مفرطة عن المغرب: "هذا البلد الذي لم يعد فيه شيء جميل يستحق الوصف" على حد تعبير كاتب "شمس الظلمات"! وساورتني شكوك حول ما إذا كن سيستطعن مغادرة شوسبريس والمغامرة بالنزول مرة أخرى إلى شوارع الدار البيضاء... لكنهن كن يعرفن، ككل الحاضرين، أن سرحان يتحدث ويكتب ودوار سيدي اليماني مسيطر على مخيلته. فهو بحكم مقر سكناه وعمله سابقاً في القنيطرة، كان يمر قرب هذه الكارثة الإنسانية كل صباح ولم يكن يشاهد من المغرب سوى هذا البؤس الممتد حتى قارعة الطريق العام! فكيف يريدونه أن يكتب عن الجمال والرفاهية كما لو أنه يسكن مباشرة أمام توين سنتر... أحد المتدخلين أخذ على سرحان كونه يشتكي من برودة قاعات الدرس في الجامعات المغربية وقال إن هذا العذر غير مقبول لأن كل قاعات الدرس في جميع كليات العالم باردة. لكن سرحان بادره بقوله إنه درس في إحدى كليات كندا وكانت القاعة دافئة... وأضاف بخبث: "لا أعتقد أنهم كانوا يشغلون جهاز التدفئة فقط من أجل سواد عيون عبدالحق سرحان"!.