تعتبر "قصيدة افريقيا" المطولة التي كتبها الشاعر والمفكر الانساني بترارك بين العامين 1338 و1342، واحدة من أولى القصائد اللاتينية التي أسست لما سيعرف لاحقاً ب"الأدب النهضوي الانساني" ذلك الأدب الذي ظل اسم بترارك مرتبطاً به، باعتباره مؤسسه الأول، وتحديداً بفضل "افريقيا". وللوهلة الأولى يبدو الأمر غريباً بعض الشيء، لمن يقرأ القصيدة، او اجزاء منها على أي حال، لأن الكتاب في النهاية كتاب حرب يصف بالتحديد المعارك التي خاضها شيشرون الافريقي ك"ممثل للحضارة الرومانية الراقية"، ضد هنيبعل الفينيقي ك"ممثل للحضارة القرطاجية الافريقية الهمجية". في "افريقيا" يبدو بترارك وكأنه يمجد الحرب، ويمجد انتصار الرومان على القرطاجيين تمجيداً لا يخلو مما قد نعتبره في ايامنا هذه "نزعة عنصرية". ويزيد من حدة هذا ان بترارك لم يكن يجهل، في زمنه، أن حضارة قرطاجة لم تكن على الهمجية التي كان يمكن له ان يتصورها ويصفها في كتابه. غير ان هذا الواقع يجب الا يحجب عنا واقعاً أكثر أهمية: وهو أن بترارك لم يكن ليتوخى من قصيدته الطويلة التي تعتبر من عيون الأدب اللاتيني، أن يصف حرباً أو يحط من شأن حضارة: كان يتوخى ايصال رسالة واضحة، الى قرائه المعنيين بتاريخهم. وهذه الرسالة تتعلق بشخصية شيشرون، لا بشخصية هنيبعل. ولعل هذا الأمر يتضح في شكل أساسي، حين يصل بترارك، في جزء من قصيدته الى وصف الحرب نفسها وتجابه شيشرون وهنيبعل فيها، هنا يبدو واضحاً أنه لا يكتب بسهولة، ولا يتمكن من ولوج الحرب وتفاصيلها عبر لغة صافية تعبر عنه حقاً. انه يبدو مرتبكاً ولقد لاحظ الدارسون هذا الارتباك وفسروه تفسيرات شتى، ولا سيما اذ ربطوه بالايجابية التي يصف بها بترارك تحرك شيشرون واحلامه ومراميه، في مقابل السلبية - وربما الحيادية - التي يصف بها مواقف هنيبعل. من المؤكد ان بترارك الذي جاءته فكرة القصيدة حين كان يتجول في غابات الفوكلوز الفرنسية، ثم كتبها بعد ذلك في فترات متفرقة، كان همه، اذ يحاول كتابة ما يضارع "الالياذه" أو "الاوديسة" أن يركز اهتمامه على البطل التاريخي والشعبي شيشرون. وكان همه ان يضفي عليه صفات تدخل في صلب اهتماماته هو: فشيشرون يجب الا يبدو هنا نصف إله ولا بطلاً استثنائياً. "بطل النزعة الرومانية الكامل" يجب أن يخرج تحت قلم بترارك مجرد انسان شجاع مليء بالنزعة الانسانية، واقعياً وورعاً، بسيطاً ومثقفاً. والحال ان بترارك حقق بغيته هذه، اذ لم يقتصر إلا على نسف الصورة القديمة لشيشرون وإثارة الشك من حول ألوهية للأبطال، كانت راسخة في اذهان الناس، بل عرف في طريقه كيف يرسم أول صورة واقعية في تاريخ الثقافة الغربية لبطل ينتمي الى عصر الانسان، الى عصر ال"هنا وال"الآن". وفي سبيل ذلك كان كل شيء ممكناً بالنسبة الى بترارك بما في ذلك استخدام حس شعبي عريق واللجوء الى تاريخ نصف واقعي/ نصف اسطوري. وبالنسبة الى بترارك كان لا يمكن للنزعة الانسانية ان تبتدع إلا بالتواكب مع نزعة قومية خالصة، فالزمن كان أبكر من أن يسمح بالتفكير بنزعة كونية ستتواكب لاحقاً مع النزعة الانسانية. أيام بترارك كان لا بد من مخاطبة الشعب بلغة يفهمها، ودفعه الى "رومانية" واقعية بعيداً عن ميتافيزيقية تعطي البطولة معاني ما ورائية، ويقيناً ان بترارك نجح في هذا. قصيدة "افريقيا" الطويلة والمؤلفة اصلاً من تسعة أقسام وكتبت بلاتينية أقرب الى اللاتينية المحكية في زمن بترارك، كانت عملاً أدبياً مؤسساً، وهي التي بنت شهرة مؤلفها واعطته سمعته كمؤسس للنزعة الانسانية في الأدب اللاتيني. صحيح ان بترارك استخدم في كتابته قصيدته هذه، نصوصاً قديمة لسيليوس ايتاليكوس وأخرى لتيت - ليف، لكن المهم هنا كان اعادة تفسيره لشخصية شيشرون، حيث ان دارسين لاحقين لم يفتهم ان بترارك انما استخدم شيشرون، في "افريقيا" قناعاً خالصاً يقدم من خلاله ذاته هو وأفكاره. وبترارك نفسه كان كما وصف لاحقاً رجلاً استثنائياً في المجالات كافة. وهو لم يكن ليتردد دون ارتقاء، أعلى الجبال حتى يتمكن، مثلاً، من ان يتأمل، وحيداً، أحوال العالم والطبيعة بسلام ودعة. ويقال عنه انه حين كان يافعاً في زمن الدراسة، وجد فجأة ان اساتذته والكتب التي بها يَدرَّس، مضجرة، فترك المدرسة وقرر ان يعلم نفسه بنفسه، عبر السفر، فجال في اليونان وايطاليا وفرنسا واطلع على آداب شعوبها واهتم بالفلسفة اليونانية القديمة ودرس الأساطير والخرافات، وطلع من ذلك كله بفكرة كانت جديدة في زمنه وعلى زمنه: ان على المفكر ان يهتم بالانسان أولاً وأخيراً. لأن المفكر، منذ اطفأت جذوة الفلسفة اليونانية، ابتعد عن الانسان نفسه. وهكذا صار بترارك، مؤسس تلك الفلسفة الجديدة: الفلسفة الانسانية، تلك الفلسفة التي لا يمكن ان تقوم لها قائمة من دون تأمل العالم وأحواله، وأحوال الانسان فيه، اضافة الى اعادة النظر في ما انتجه الانسان نفسه من فنون وآداب ونصوص تاريخية وعلمية. والحال ان كتابات بترارك كلها لم تكن اكثر من محاولات في اعادة النظر في الانتاج الفكري الذي سبقه، واعادة الاعتبار لموقع الانسان فيه. وفي هذا الاطار قيل دائماً ان "أفريقيا" ليست تاريخاً لحرب روما ضد قرطاجة، بقدر ما هي اعادة تحليل لشخصية شيشرون، قد تصلح حتى نموذجاً لاعادة تحليل ابطال "الالياذة" و"الاوديسة"... ودائماً على ضوء المذهب الانساني الجديد. ولد بترارك في آرزكو بايطاليا العام 1304، ومات في آركوا قرب بادوفا العام 1374، وهو اولع بالكتابة منذ صغره ودرس، كما اسلفنا، عبر السفر والتجول. وكان لغرامه بالشابة لورا، المعادلة لبياتريس دانتي، اثر كبير في حياته، حيث ان قصائده الموجهة اليها، وما فيها من وصف مثالي للحب، تعتبر من العناصر المؤسسة لفلسفته الانسانية. ولئن كانت قصيدة "افريقيا" اشهر اعمال بترارك فإنه خلف الكثير من الكتب ايضاً، ومنها "امور لا تنسى" و"رجال شهيرون" و"جهلي وجهل كثيرين آخرين" و"سرّي" و"راحة الرهبان" و"عن حياة الوحدة". ابراهيم العريس