من السجالات النظرية التي وقعت في القرون الخمسة الأولى بين الفقهاء والعلماء من جهة والمتكلمة والفلاسفة من جهة أخرى كان حول موضوع المعرفة ومصادرها. وتركز النقاش على السبب والمسبب والعلة الأولى وهل يكتفي الإنسان بما أُنزل ام أنه بحاجة الى معارف عقلية تعتمد التجربة للبرهان على الخطأ والصواب. وقبل هذا السجال تسربت الفلسفة من طريق الترجمة فاستخدم الفلاسفة نظريات اليونان الإغريق للدلالة على صحة توجهاتهم بينما ساجل الفقهاء ضدها للتأكيد على تعارض نصوصها مع الوحي. إلا أن النقاش تطور بعد القرنين الهجريين الأول والثاني وحصل ما يشبه التداخل بين حقل الفقه وحقول الفلسفة، فاتجه فريق الى تغليب الشريعة لاحتواء نظريات الفلاسفة بينما اتجه الفريق الآخر الى التشديد على التعارض بينهما. واتفق الطرفان على تحديد معايير واقعية للنقاش تعتمد على فكرة التجربة المعرفة التجريبية ودورها في توسيع الدراية وتثبيت الرواية. واتجه فريق من المعتزلة الجاحظ مثلاً الى تقليد كتب اليونان كتاب الحيوان نموذجاً وإضافة بعض معارفه الحسية التي اعتمدت التجربة للبرهان على صحة الأمر أو انحرافه عن الصواب. الى الجاحظ قام البيروني المؤرخ بسلسلة تجارب للتأكد من صواب بعض الروايات والأساطير عن بعض المعادن والجواهر والحيوانات والنباتات. إضافة الى المتكلم الجاحظ والمؤرخ البيروني حصلت عشرات التجارب الكيماوية قام بها كبار الفلاسفة والعلماء الرازي الطبيب مثلاً حاولت التقريب بين العقلي والعلمي معتمداً التجربة كمقياس برهاني على صحة النظري. وعلى خلفية التطور العقلي - العلمي تجددت النقاشات وأعيد صوغ الكثير من المفاهيم لتناسب التقدم الفكري الذي أفرزته الاختراعات والاكتشافات. واستغلت الفرق الإسلامية تلك التطورات واستقوت بالفلسفة لتسجل النقاط في مرمى الخصم الأمر الذي دفع الفقهاء والعلماء الى شن هجوم معاكس لكسر تطرف تلك الفرق وتحديداً الاتجاهات الباطنية التي اعتمدت بعض نظريات الفلسفة الإغريقية وتفرعاتها للتشكيك بالتوحيد ونفي الصانع والقول بقدم العالم وليس حدوثه. تركز الهجوم المعاكس على أكثر من حقل معرفي وجبهة سياسية وانتقل لاحقاً الى الفلسفة عينها ليس لكونها بدعة ضارة بل لأنها مسروقة أصلاً عن العرب وحضارتهم قبل نزول الدعوة الإسلامية. فالهجوم انتقل من رفض مقولات الفلسفة عينها الى القبول بصحة بعض نظرياتها انطلاقاً من كونها منحولة أولاً ولا جديد عقلياً فيها ثانياً وأنها تمت بالتجربة ثالثاً. وأبرز العلماء الذي أشار الى هذه المسألة الجديدة فعلاً كان الإمام عبدالقاهر البغدادي القرن الخامس الهجري حين اتهم فلاسفة اليونان بسرقة أفكارهم عن عرب الجاهلية وأن معظم مقولاتهم العقلية توصل إليها العرب قبلهم من طريق التجربة والمعاينة والبرهان. وبذريعة أنها ليست جديدة على العرب فإنه يمكن الاستغناء عن مدارسها اليونانية واستبدالها بأمثلة العرب وحكمهم وشعرهم الذي ورد فيه ما يعتبره الفلاسفة "خصوصية" يونانية. وهنا نص مقال البغدادي الذي ورد في كتاب "الفَرق بين الفِرق" مؤكداً فيه على أسبقية العرب وأهمية المعرفة التجارب. ... كيف يكون زعماء الباطنية مخصوصين بمعرفة علل ذلك. وقد ذكرته الأطباء والفلاسفة في كتبهم وصنف أرسطاطاليس في طبائع الحيوان كتاباً وما ذكرت الفلاسفة من هذا النوع شيئاً إلا مسروقاً من حكماء العرب الذين كانوا قبل زمان الفلاسفة من العرب القحطانية والجرهمية والطسمية وسائر الأصناف الحميرية. وقد ذكرت العرب في أشعارها وأمثالها جميع طبائع الحيوان ولم يكن في زمانها باطني ولا زعيم للباطنية. وإنما أخذ أرسطاطاليس الفرق بين ما يلد وما يبيض من قول العرب في أمثالها: كل شرقاء ولودٌ وكل صكاء بيوضٌ: ولهذا كان الخفاش من الطير ولوداً لا بيوضاً لأن لها أذناً شرقاء. وكل ذات أذن صكاء بيوضٌ كالحية والضب فرخ التمساح والطيور البائضة. وذكر ابو عبيدة معمر بنُ المثنى وعبدالملك بن قريب الأصمعي أن العرب قالت بتحريمها في الجاهلية. أن كل حيوان لعينيه أهداف على الجفن الأعلى دون الأسفل إلا الإنسان فإن أهدابه على الجفن الأعلى الأسفل. وقالوا كل حيوان ألقي في الماء يسبح فيه إلا الإنسان والقرد والفرس الأعسر فإنه يغرق فيه إلا أن يتعلم الإنسان السباحة. وقالوا في الإنسان إنه إذا قطع رأسه وألقي في الماء انتصب قائماً في وسط الماء. وقالوا كل طائر كفه في رجليه وكف الإنسان والقرد في اليد. وكل ذي أربع ركبتُه في يده. وركبتا الإنسان في رجليه. وقالوا ليس للفرس غُددٌ ولا كرشٌ ولا طحال ولا كعب. وليس للبعير مرارة. وليس للظليم مخٌ. وكذلك طيرُ الماء وحيتان البحر ليس لها ألسنٌ ولا أدمغة. وقد يكون حوت النهر ذات لسان ودماغ. وقالوا إن السموك كلها لا رئة لها كذلك ولا تتنفس. وقالت العرب من تجاربها أن الضأن تضع في السنة مرّة وتفرد ولا تتيمُ. والماعز تضع في السنة مرتين وتضع الواحدة والاثنتين والثلاثة. والعدد والنماء والبركة في الضأن أكثر منها في الماعز. وقالوا أيضاً إذا رعت الضأن نبتاً وفصيلاً نبت ولا ينبت ما يأكله الماعز لأن الضأن تقرضه بأسنانها والماعز تقلعه من أصله. وقالوا إن الماعز إذا حملت أنزلت اللبن في أول الحمل الى الضرع والضائنية لا تنزل اللبن إلا عند الولادة. وقالوا إن أصوات الذكور من كل جنس أجهر من أصوات الإناث إلا المعزى فإن أصوات إناثها أجهر من أصوات ذكورها. ومن أمثال العرب في الحيوان فهو لهم كل ثور أفطس وكل بعير أعلم وكل ذي ناب أفرج. وقالوا بالتجربة إن الأسد لا يأكل شيئاً حامضاً ولا يدنو من النار ولا يدنو من الحامض وقالوا إن حمل الكلب ستون يوماً فإن وضعت حملها لأقل من ذلك لم تكد أولادها تعيش. وقالوا إن إناث الكلاب يحضنَ لسبعة أشهر. ثم إن الكلبة تحيض في كل سبعة أيام. وعلامة حيضها ورَم أثغارها أسنانها وقالوا في الكلب إنه لا يلقي من أسنانه شيئاً إلا الثامن. وقالوا في الذئب إنه ينام بإحدى عينيه ويحترس بالأخرى. ولذلك قال فيه حميد بن ثور: ينام بإحدى مقلتيه ويتقى بأخرى المنايا فهو يقظان نائم والأرنب تنام مفتوحة العينين. وقالوا ليس في الحيوان ما لسانه مقلوب إلا الفيل. وليس في ذوات الأربع ما ثديه على صدره إلا الفيل. وقالوا إن الفيل تضع لسبع سنين والحمار لسنة والبقرة في ذلك كالمرأة. وقالوا في قضيب الأرنب والثعلب إنه عظم. وقالوا كل ذي رجلين إذا انكسرت إحداهما قام على الأخرى وعرج إلا الظّليم الذكر من النعام فإنه إذا انكسرت إحدى رجليه جثم في مكانه. ولهذا قال الشاعر في نفسه وأخيه: فانى وإياه كرجليْ نعامة على ما بنا من ذي غنىً وذي فقر يريد أنه لا غنىً لأحدهما عن صاحبه. وقالوا في النعامة إنها تبيض من ثلاثين بيضة الى أربعين لكنها تخرج ثلاثين منها تحضن عليها كخيط ممدود على الاستواء. وربما تركت بيضها وحضنت بيض غيرها. وهذا قال فيها ابن هرمة: كتاركةٍ بيضها بالعراء وملبسةٍ بيض أخرى جناحاً وقالوا في الفرج والفروج إنهما يخلقان من البياض والصفرة غذاؤهما. وقالوا في القطا إنها لا تضع إلا فرداً. وفي العقاب أنها تضع ثلاث بيضات فتخرج بيضتين وتطرح واحدة فيخرجها الطير المعروف بكاسي العظام. ولهذا قيل في المثل: أبر من كاسي العظام: وقالوا في الضب أنها تضع سبعين بيضة. ولكنها تأكل ما خرج من الحسولة عن البيض إلاّ الحسل ولد الضب الذي يعدو ويهرب منها. ولهذا قالوا في المثل: أعقُّ من ضب: والضب لا يرد الماء ولهذا قالوا في المثل: أروى من ضبٍ: وقالوا في الضب إنه ذو ذكرين، وللأنثى من الضباب فرجان من قبل. وقالوا في الحية لها لسانان ولسانها أسود على اختلاف ألوان قشرها والحيات كلها تكره ريح السذاب نبات والبنفسج وتعجب بريح التفاح والبطيخ والجرو والخردل واللبن والخمر. وقالوا في الضفادع إنها لا تصيح إلاّ وفي أفواهها الماء ولا تصيح في دجلة بحال وإن صاحت في الفرات وسائر الأنهار.وقال الشاعر في الضفدع: يدخل في الأشداق ما ينضفه حتى ينق والنقيق يتلفه يعنى ان نقيقها يدل عليها الحية فتصيدها فتأكلها. وقالوا إن الضفادع لا عظام لها وقالوا في الجُعَل نوع من الخنافس إنه إذا دفن في الورد سكن كالميت فإذا أعيد الى الروث زبل الفرس تحرك. فهذا وما جرى مجراه من خواص الحيوانات وغيرها قد عرفته العرب في جاهليتها بالتجارب من غير رجوع منها الى زعماء الباطنية. بل عرفوها قبل وجود الباطنية في الدنيا بأحقاب كثيرة ... * من كتاب "الفَرق بين الفِرق وبيان الفرقة الناجية منهم" للإمام عبدالقاهر بن طاهر البغدادي توفي 429ه/ 1037م. تحقيق لجنة إحياء التراث العربي إصدار دار الجيل، ودار الآفاق الجديدة، بيروت صفحات 294- 299.