أثار اغتيال كابيلا عدداً من الأسئلة، أقلها من الذي دبّر لاغتياله، وأهمها ما أثر اغتياله على مستقبل الصراع في الكونغو؟ والقلق على مستقبل الكونغو له - في نظرنا - أسباب مشروعة في مقدمها أن هذا الصراع ورّط على الأقل ثلاث دول عربية. وجدت نفسها في الخندق نفسه مع ثلاث دول افريقية أخرى وتعاطف دولة افريقية رابعة، التفّت جميعها حول كنشاسا كلٌّ لأسبابه ودواعيه الخاصة، وذلك في مواجهة تحالف مضاد يضم إلى جانب الثوار أوغندا ورواندا وبوروندي. وهذه التحالفات المتضادة التي تؤثر على خُمس عدد الدول الافريقية في حرب لا نعرف لها نهاية واضحة لا شك تصرف القارة عن أهدافٍ أهم وأولويات أكثر إلحاحاً، كما أن اختلاط الأوراق العربية الافريقية سيؤثر بلا جدال على مستقبل التعاون العربي - الإفريقي، ومن ثم كان هناك محل وجيه للعناية بدراسة مستقبل الصراع. وأما السبب الثاني للقلق على مصير الكونغو فهو أن شعب هذا البلد ومن ورائه شعوب معظم الدول الداخلة في هذا الصراع يعاني مأساة متصلة الحلقات بدأت - لسوء الطالع من دون محاولة للربط - مع استقلال الكونغو عام 1960 حيث التهمتها دوامة الحرب الباردة وسجلت الكونغو أولى الضحايا الافريقية لأتون هذه الحرب في واحدة من أكثر فصولها حدة وشراسة على الأرض الافريقية يوم كانت افريقيا تنظر بأمل إلى تحقيق الاستقلال وتظنه الطريق إلى الوحدة. فكانت الكونغو هي أولى نماذج الإحباط تجاه كل من الاستقلال والوحدة بعد أن زجت بها الاقدار إلى حرب أهلية بعد انتهاء أزمتها الدستورية باغتيال لومومبا في سجنه وخمود انفصال كاتنغا، فإذا بها ترى وحدتها القومية والاقليمية في قبضة تحديات الانفصال والحرب الأهلية، واستغلال قبائل البانيا مولينغي حول بحيرة كيفو في الشرق من جانب موبوتو مقابل منحهم الجنسية الكونغولية وتطبيع ولائهم لأرض أجدادهم بعد أن بعد البوْن بينهم وبين أصولهم الرواندية المبكرة. ولابد أن المراقبين لمأساة الكونغو قد أدركوا أن السنوات الأربع من 1960 حتى 1964 تتضمن كل عناصر مسرح الأحداث الحالي وشخوصه: كابيلا ذو النزعة القومية الافريقية المفتون بتيار الوحدة وأنصار لومومبا، قبائل التوتسي التي تشكل عصب التمرد في شرق البلاد، طوائف المعارضة السياسية القومية الرافضة للفوضى والانقلاب وانتهاكات حقوق الإنسان والتآمر على البلاد واقتطاع أراضيها تحت أي مسمى وهذه العناصر جميعها هي نفسها التي صاغت تاريخ الصراع المتصل في تحالفات وصراعات وفق منطق المصلحة لكل منها. وثالث أسباب القلق أن حال الكونغو أصبحت حالاً نمطية لموقف الغرب وشركاته الكبرى التي يهمها الإثراء بأي ثمن حتى ولو كان هذا الثمن هو التلهي بمصير شعوب الكونغو والدول المتورطة في الصراع. وليس سراً أن إسرائيل تقوم بمد الثوار والحكومة بالأسلحة وربما بالمشورة العسكرية حتى تستمر فصول المأساة مقابل حصولها على الماس المعروف بماس الأزمات، وهي ظاهرة تنبه لها مجلس الأمن وحذر إسرائيل وغيرها من أن أطماعها في الماس الذي يشكل 27 في المئة من صادرات إسرائيل الإجمالية تحبط كل مساعي التسوية. فإذا كانت أسباب القلق على مصير الكونغو واضحة إلى هذا الحد، فإن السؤال الملح يتصل مباشرة بمصير الصراع بعد اغتيال كابيلا، وانشغل العالم كله منذ اغتيال كابيلا بهذا السؤال، والإجابة تدور حول احتمالات ثلاثة: الاحتمال الأول: أن يتمكن الكونغو تحت زعامة جوزيف كابيلا من التوصل إلى تسوية في الميدان على أساس اتفاق السلام الموقع في تموز يوليو 1999 في لوساكا عاصمة زامبيا. ولهذا الاحتمال وجاهته من وجوه عدة، أولها أن اختفاء شخص كابيلا على هذا النحو المأساوي التقليدي في افريقيا، أزال عقبة كبرى مع الأممالمتحدة التي لم يكن الرئيس الراحل على وفاق معها حول ملفات عدة أهمها انتهاكاته لحقوق الإنسان وقتل مئات الآلاف من الهوتو والتوتسي ورفض التعاون للتحقيق في هذه المذابح، وشروط كابيلا لتنفيذ اتفاق لوساكا ونشر القوات الدولية التي قرر مجلس الأمن إرسالها لمراقبة وقف إطلاق النار، كما أزال اختفاء كابيلا عقبة كبرى أخرى بين الثوار وحكومة كينشاسا، في ضوء ملابسات التحالف بين الثوار وكابيلا خلال زحفه في ما عرف بحركة تحرير الكنوغو ثم ملابسات القطيعة بين الطرفين بعد شهر عسل استمر قرابة عام واحد. ولعب كابيلا في مرحلتي التحالف والتنافر مع الثوار ورقة خطرة للغاية هي الورقة العرقية التي جعلته في البداية قاتلاً للهوتو ثم أصبح الثأر محققاً بينه وبين التوتسي الذين لا ينسون أن كابيلا هو الذي أطلق صرخة العداء للأجانب التوتسي وحاول بناء تحالف وطني ضدهم ما فتح جرحاً قديماً سبق لموبوتو هو الآخر أن عبث به خلال رحلته السياسية الطويلة من دون أن يقدر مخاطرها. وأما الفرصة الثالثة التي تعزز هذا الاحتمال فهي أن البلاد أنهكت وأن الحكم الجديد، وكذلك حلفاء كابيلا والغرب عموماً، يدعون إلى المصالحة على أساس اتفاق لوساكا. الاحتمال الثاني: هو أن تنحسر فرص التسوية السياسية وتزداد الحرب ضراوة بين الطرفين. يعزز هذا الاحتمال شعور الثوار بضعف خليفة كابيلا وعدم قدرته على جمع الصفوف خلفه والمحافظة على تحالفات والده مع الدول الأخرى، ولا شك أن الثوار سيتحينون كل فرصة - مهما طال الزمن - للانقضاض على كينشاسا والسيطرة على البلاد. وسبب ذلك أن الأمن في رواندا وأوغنداوبوروندي ضد الهوتو يعتمد على إحباط محاولات تجمع الهوتو وثوارهم مرة أخرى حول بحيرة كيفو. فضلاً عن أن قبائل البانيا مولينغي تطمع في تطبيع وضعها هذه المرة بشكل نهائي بعد أن كاد هذا الأمل يتحقق على الأقل مرتين خلال الأربعين عاماً الماضية، بل إنه تحقق فعلاً عندما سيطر التوتسي على الحكم في كينشاسا خلال الفترة من آيار مايو 1997 حتى 27 آب أغسطس 1998، خامرهم خلالها أمل كبير في إنشاء إمبراطورية التوتسي على أن يكون عصبها الكونغو وحواشيها، دول البحيرات العظمى الأخرى. يعزز هذا الاحتمال أيضاً تقدير الثوار والدول الثلاث المتحالفة معهم أن مجرد تعزيز المواقع في شرق الكونغو وسيطرة قوات الدول الثلاث على قواعد لها فيها لا يكفي وأن الحل السعيد لأمن النظم التوتسي في كل من بوروندي ورواندا لا يتأتى إلا بالسيطرة التامة على شرق الكونغو على الأقل. وقد يسند هذا الاحتمال تقدير الثوار أن تحالفات كابيلا لن تستمر بزوال شخص الرئيس الراحل، وقد يزايل الثوار خشية أن تنتهز الدول المتحالفة مع الكونغو فرصة ضعف النظام الجديد فتقدم على احتلال الكونغو وتدخل في صراع مباشر مع الثوار له أهداف مغايرة، وبذلك يتغير وجه الصراع كما تتغير أقداره. ويعتقد الثوار أن الكونغو قد تشهد المزيد من التفكك الاقليمي والقومي مايجعل ضعف القاعدة مؤكداً وتلك فرصة تاريخية قد لاتحين للثوار في المستقبل القريب. أما الاحتمال الثالث فهو استمرار حال الجمود والتقسيم الفعلي للكونغو ولهذا الاحتمال ما يبرره. من ناحية قد يكشف أن اغتيال كابيلا تم بؤامرة للثوار يد فيها، وهذا يؤدي إلى توقد الشعور القومي ضد الثوار ما يعرض مظاهر الضعف في النظام الجديد الذي لاشك سيحتضنه أركان نظام كابيلا حرصاً على المحافظة على مكاسبهم. ومن ناحية أخرى قد يؤدي زحف الثوار خارج منطقتهم إلى مزيد من التورط العسكري للدول الحليفة لكينشاسا وبخاصة انغولا التي ربما تفكر في فتح جبهة جديدة في شمال غرب الكونغو بما يهدد قواعد ثوار أنغولا ويقطع التواصل والمساندة المتبادلة بينهم وبين ثوار الكونغو، ولكن هذه الخطوة تتطلب قدرة عسكرية لحكومة لواندا قد لا تتوفر لها في هذه الظروف. والخلاصة أن تحليل الظروف المتغيرة في الكونغو بعد اغتيال كابيلا يميل إلى الاعتقاد بأن فرص التسوية تتوازى مع احتمالات تصعيد الصراع ولكن التسوية والتصعيد قد يتحركان على قاعدة أساسية وهي أن جوهر الصراع يتصل بأطراف كونغولية داخلية. وأن استمراره يعتمد على التدخلات الخارجية التي جعلت نظام كابيلا يعيش خارج عمره الافتراضي. ولذلك فإن اهتزاز هذه التحالفات سيكون في مصلحة الثوار الذين أضافت لهم تجربة كابيلا في الصعود والانقلاب عليهم ثم الاغتيال بعداً جديداً. فقد كان ثوار الكونغو وهم في معظمهم توتسي البانيا مولينغي يستخدمون لمصلحة كينشاسا. حدث ذلك مع موبوتو ثم مع كابيلا، ولكن التوتسي بعد هذه التجربة أصبحوا قوة مستقلة لها مصالحها التي قد لا تتطابق مع رواندا وبوروندي في كل الأحوال، وإن كانت هذه التجربة ستؤكد المصير المشترك لكل التوتسي في المنطقة ما يجعل التسوية في كل من بوروندي ورواندا بين عرقيها أكثر صعوبة، وهو مايحدث الآن فعلاً في البلدين بعد تزايد هجمات الثوار في رواندا وفي بوروندي رغم اتفاق أروشا الموقع في آب اغسطس 2000. وأخيراً فإن أسباب القلق على مصير الكونغو واستقرار القارة الافريقية والعمل العربي الافريقي المشترك ودور إسرائيل، لا تزال قائمة وتدعونا إلى المتابعة الحثيثة لهذه المأساة التي تتعقد فصولها والتي نقدر أن جذورها تعود إلى عاملين جوهريين أولهما الخلل الجيوسياسي الخطير الناجم عن ضخامة مساحة ثروات وسكان الكونغو، مقابل ضعف الحكومة المركزية وعجزها عن السيطرة على حدودها ومقدراتها. وثانيهما استمرار المشكلة العرقية في رواندا وبوروندي ومشاكل أوغندا الداخلية ومع السودان ومشكلة أنغولا مايجعل الصراع في الكونغو مناسبة لتلاقي الأضداد على مسرح الكونغو الدامي، وإلى أن يتم العثور على نقطة البداية في هذه الحلقة المفرغة سيظل المسرح الكونغولي عامراً بالشخوص والأحداث المؤلمة. * كاتب مصري.