لم تكن الحكومية اليمنية تضع في أولوياتها، او حتى في حساباتها قبل حوادث الحادي عشر من ايلول سبتمبر الماضي القيام بحملة اعتقالات واسعة النطاق تطاول المئات من "الإسلاميين" المشتبه في علاقتهم بتنظيم "القاعدة" وأسامة بن لادن. ولم تكن تتوقع ان تخوض قوات الأمن والجيش مواجهات مسلحة اثناء البحث عن عناصر متشددة تحتمي بالمناطق القبلية النائية تشتبه في انتمائها الى تنظيم "القاعدة" وفقاً لمعلومات امنية وقوائم لا تزال تقدمها واشنطن للسلطات اليمنية عبر سفيرها الجديد في صنعاء أدموند هول، الذي يمتلك تجربة في مكافحة الارهاب وكان خبيراً ومنسقاً في مكافحة الارهاب في الخارجية الاميركية قبل مجيئه الى اليمن من بضعة اشهر. ذلك ان الحكومة اليمنية، وتحديداً اجهزة الأمن والاستخبارات، كانت لديها خطة لمكافحة الجماعات والعناصر المتطرفة والحد من نشاطها وتحديداً منذ مطلع عام 1996، منها "الأفغان العرب" وغيرهم من عناصر التيارات الاسلامية المتشددة الذين قدموا الى اليمن خلال سنوات ما بعد انسحاب القوات السوفياتية من افغانستان وانتهاء "الجهاد" في ذلك البلد. وإذا كانت الولاياتالمتحدة اخذت على عاتقها مهمة مواجهة الارهاب في افغانستان بأسلحتها الخاصة وبالتحالف المؤيد لها هناك، فإن حربها امتدت الى بلدان اخرى في شكل غير مباشر. وتضغط واشنطن وحلفاؤها على كثير من الدول، ومنها اليمن، لكي تبرهن على صدقية التزاماتها حيال محاربة الارهاب والقضاء على اعضاء "القاعدة" وأنصار بن لادن وتجفيف منابع الارهاب والتيارات التي تصفها بالارهابية النائمة. وكانت صنعاء أعلنت صراحة بعد الاحداث الاخيرة استعدادها للتعاون مع الولاياتالمتحدة في حربها على الارهاب. واعتبرت ان ذلك يأتي في اطار سياستها المناهضة لكل اشكال الارهاب وصوره، والمطالبة بتجفيف منابعه. ونجحت في اقناع واشنطن بالتعاون الثنائي في ملاحقة العناصر المطلوبة والتحقيق معها واعتبار اليمن شريكاً في الحرب على الارهاب بدلاً من استهدافه في الحرب التي تشنها على الارهاب، خصوصاً ان وسائل الاعلام والصحافة الاميركية والغربية لم تتوقف عن اتهام اليمن باعتباره احدى الدول التي تؤوي العناصر الارهابية المتطرفة. وذهبت واشنطن الى ابعد من ذلك حين تحدثت في غير مناسبة بعد حوادث الحادي عشر من ايلول عن وجود معسكرات للارهابيين في مناطق يمنية نائية لا يصل اليها نفوذ الحكومة، اضافة الى تلميحات خطيرة تتهم مسؤولين بالتواطؤ مع عناصر يشتبه في انتمائها الى تنظيم "القاعدة" توفر لهم الحماية في اليمن، بينهم عناصر من جنسيات عربية، اضافة الى "اليمنيين الأفغان" سواء الذين شاركوا في الحرب الأفغانية ضد الجيش الأحمر السوفياتي أم الذين التحقوا في السنوات الاخيرة بمعسكرات تدريب يقودها أسامة بن لادن في افغانستان. وأثارت اتهامات الصحافة الاميركية والبريطانية المخاوف لدى الحكومة اليمنية بعد ان تناولت الدور اليمني في التحقيقات المتعلقة بحادث الهجوم الانتحاري على المدمرة "كول" في مرفأ عدن العام الماضي، معتبرة انه لم يكن متعاوناً بما فيه الكفاية مع الجانب الاميركي في التحقيقات، على رغم تصريحات المسؤولين الأميركيين المغايرة لما ذهبت اليه الصحافة، وهو ما دفع الرئيس اليمني علي عبدالله صالح الى القيام بزيارة رسمية لواشنطن في 27 تشرين الثاني نوفمبر الماضي على رأس وفد ديبلوماسي وأمني وعسكري رفيع المستوى معرجاً على ألمانيا وفرنسا في طريق عودته الى اليمن، حيث اعلن في مدينة الحديدة ان محادثاته في واشنطن مع الرئيس جورج بوش في البيت الابيض وكبار المسؤولين في الادارة الاميركية كانت ناجحة وأسهمت في اقناع الادارة الاميركية بسلامة الموقف اليمني المناهض للارهاب وصدقية التزامات الحكومة اليمنية لجهة مكافحة الارهاب وتجفيف منابعه، مؤكداً "اننا أبعدنا اي اذى قد تتعرض له بلادنا في ظل الانفعال الاميركي جراء الهجمات الارهابية على نيويوركوواشنطن". ولم تتوقف نتائج زيارة علي صالح واشنطن عند هذا المستوى، وإنما حصلت على تأكيدات اميركية بتقديم مساعدات وتقنيات متطورة تدعم الجانب الأمني في اليمن في مكافحة الارهاب ومساعدات في المجالات الانمائية وتسهيل الحصول على مساعدات وقروض من البنك الدولي وصندوق النقد لدعم الاقتصاد اليمني، وكلها خاضعة لمدى تعاون صنعاء في تلبية المطالب الأميركية ذات الصلة بحربها على الارهاب وملاحقة الناشطين في تنظيم "القاعدة" والتسهيلات اليمنية للمحققين الأميركيين في التحقيق مع هذه العناصر وقضية "كول". وفي هذا السياق، كانت الحكومة اليمنية رحّلت نحو 25 ألفاً من الأجانب والرعايا العرب خلال السنوات القليلة الماضية لعدم حصولهم على وثائق دخول الأراضي اليمنية والإقامة غير القانونية، بينهم المئات وربما الآلاف من "الأفغان العرب" وعناصر التيارات الاسلامية، وقبضت على العشرات من عناصر تنتمي الى تنظيم "الجهاد" من "الأفغان اليمنيين" وقدمتهم الى المحاكمة بتهم التخريب والخطف ونفذت في حقهم احكاماً صارمة. وأوقفت العشرات من المشتبه في انتمائهم الى تنظيم "القاعدة". ووسعت من دائرة التحقيقات في حادث المدمرة "كول" ووضعت المئات تحت المراقبة الأمنية المشددة. وعززت من نفوذ اجهزة الأمن في المناطق التي تعتقد بوجود عناصر اسلامية لجأت اليها وتحظى بحماية القبائل. غير ان توسيع نطاق الاجراءات التي شرعت في تنفيذها قوات الأمن والجيش لملاحقة عدد من المشتبه فيهم، خصوصاً بعد زيارة الرئىس علي صالح واشنطن وبرلين وباريس اخيراً واجه مقاومة عنيفة من جانب القبائل في محافظاتمأرب والجوف وشبوه ومناطق اخرى بسبب رفض هذه القبائل تسليم ابنائها المطلوبين واعتقادها أن السلطات تنفذ أوامر اميركية لا تقتصر على مجرد التحقيق معهم ومن ثم الافراج عنهم في حال ثبتت براءتهم من اي تهم ذات صلة بالارهاب، خصوصاً أن بعض هؤلاء أوقفوا في اوقات سابقة وأطلق سراحهم لعدم ثبوت أدلة ضدهم بارتكاب نشاط يتجاوز القانون. والحاصل ان معظم المشتبه في انضمامهم الى معسكرات تابعة لبن لادن في افغانستان خلال السنوات الاخيرة هم من ابناء القبائل الذين عادة ما يلجأون الى قبائلهم ومناطقهم طلباً للحماية ومؤكدين براءتهم من اي تهم، وأن المقصود من ملاحقتهم هو تنفيذ الحكومة اليمنية أوامر واشنطن التي يعتقدون أنها غير مستعدة لتبرئة احد من هؤلاء، حتى لمجرد انهم قاموا بزيارات لأفغانستان او باكستان خلال السنوات الأخيرة. وتواجه السلطات اليمنية صعوبات في اقناع القبائل بتسليم المطلوبين عبر وسطاء يحملون ضمانات كافية بعدم تجاوز القوانين اليمنية حيالهم وأنهم مطلوبون لمجرد التحقيق او الحصول على معلومات والتأكد من سلامة موقفهم القانوني. ولما فشلت محاولات الوسطاء لم تتردد السلطات في اطلاق يد قوات الأمن ودعمها بقوات من الوحدات الخاصة المدربة على ملاحقة الارهابيين وقوات من الجيش لتتولى مهمة القبض على المطلوبين الذين لا يتجاوز عددهم بضع عشرات، خصوصاً أن معظم هؤلاء المطلوبين وردت اسماؤهم في قوائم اميركية تسلمتها السلطات اليمنية، فيما اعلنت الأخيرة أنهم من المشتبه في انتمائهم الى تنظيم "القاعدة" استناداً الى معلومات لدى اجهزة الأمن والاستخبارات اليمنية التي يتفق بعضها مع ما ورد في القوائم الأميركية. وأسفرت المواجهات الأخيرة مع رجال القبائل الذين رفضوا تسليم المطلوبين عن مقتل وجرح نحو 70 شخصاً من الجانبين في محافظة مأرب في 18 الشهر الجاري. هذا اضافة الى الخسائر الفادحة في الأرواح وحال التوتر التي تخيم على هذه المناطق وإصرار قوات الأمن والجيش على تنفيذ مهمتها والقبض على المطلوبين، وبينهم شخص يدعى ابو الحسن المصري يعيش في حماية احدى قبائل مأرب وكان فقد احدى ذراعيه وإحدى قدميه خلال مشاركته في الجهاد في افغانستان. غير ان القبيلة تصرّ على براءته وعلى انه يقوم بتدريس ابنائها ولا يمارس نشاطات ارهابية. وتؤكد مصادر متطابقة ان ابو الحسن المصري مطلوب اميركياً، الى جانب عدد كبير من العناصر القبلية المرموقة لعلاقته بأسامة بن لادن وتنظيم "القاعدة" ولأنهم ضمن العناصر الارهابية النائمة. وتشير هذه المصادر الى ان اجهزة الأمن وقوات الوحدات الخاصة لديها صلاحيات مطلقة من الرئيس علي عبدالله صالح في اتخاذ الاجراءات المناسبة بكل الوسائل المتاحة للقبض على المطلوبين والمشتبه بانتمائهم الى جماعات اسلامية متطرفة او تنظيم "القاعدة"، بما في ذلك استخدام القوة، على اعتبار ان هذه الاجراءات استثنائية تتطلب صلاحيات استثنائية. وكانت اجهزة الأمن نجحت في توقيف اكثر من ألفي شخص بحسب مصادر متطابقة منذ حوادث اميركا الاخيرة، بينهم بضع عشرات لا يستبعد انتماؤهم الى "القاعدة". وحصل المحققون اليمنيون على معلومات مهمة تساعد على ملاحقة الآخرين والحد من أي نشاط ارهابي لهذه العناصر داخل اليمن، حيث حصلت دوائر الاستخبارات والتحقيق الاميركية على معلومات مهمة من الاجهزة اليمنية في اطار التعاون القائم في مجال مكافحة الارهاب، على رغم عدم التوقيع على اتفاق امني كان متوقعاً خلال زيارة علي صالح لواشنطن اخيراً. وتشير معلومات حصلت عليها "الحياة" من مصادر مطلعة في صنعاء الى ان السفير الاميركي الجديد في صنعاء ادموند هول فاجأ الوفد الأمني اليمني الذي رافق الرئيس صالح بتقديم اضافات لم يكن اطلع عليها من قبل وطالب بإدراجها ضمن الاتفاق اليمني الذي كان مزمعاً التوقيع عليه في واشنطن، لكن الوفد اليمني تحفظ عن ذلك وتم احتواء الخلاف خلال محادثات القمة بين الرئيسين بالاتفاق على تأجيل التوقيع وإعطاء الوقت المناسب للجانبين لدراسة بنود الاتفاق. وقالت هذه المصادر ان علي صالح أقنع الرئيس بوش "بأننا أتينا الى هنا لكي نتفق على مكافحة الارهاب وتطوير العلاقات بين البلدين ولم نكن نتوقع ان نواجه ضغوطاً او مطالب جديدة تجعلنا الطرف الخاضع او الطرف الأضعف طالما نحن متفقون على الشراكة والتعاون في مناهضة الارهاب والقضاء على منابعه بما يخدم الاستقرار والأمن في اميركا واليمن والعالم". وفي هذا السياق، كشفت مصادر حكومية يمنية وأخرى ديبلوماسية اميركية وغربية في صنعاء عن نية واشنطن تنفيذ برنامج انمائي في اليمن في اطار تعاونها مع الحكومة اليمنية لمكافحة الارهاب يعتمد اقامة مشاريع خدمات تنموية في مجال التعليم والصحة والزراعة والصناعات الصغيرة والطرق وتوفير الطاقة الكهربائية تستفيد منها المناطق القبلية المحرومة في ضوء القناعة الأميركية بأن القبائل اليمنية ترفض الخضوع لنفوذ الدولة بسبب حرمانها من المشاريع وبأن حماية بعضها لعناصر يشتبه في انتمائها الى تنظيمات ارهابية يرجع الى خلافها مع السلطات. والشاهد ان القبائل اليمنية، بما فيها تلك التي دخلت في مواجهات مسلحة مع قوات الجيش والأمن قبل ايام، لا يمكن اعتبارها ضمن نفوذ الاسلاميين المتطرفين، ولكنها تعتبر نفسها مستهدفة من الحكومة التي لم تلتفت الى احتياجاتها من المشاريع والخدمات، ولاعتبارات شخصية. ولا تقف المسألة عند حدود رفض تسليم المطلوبين الاسلاميين وإنما تأخذ في الاعتبار قضايا خطف الاجانب وحوادث تفجيرات تعرض لها انبوب النفط الذي يمر بمحاذاة المناطق القبلية عشرات المرات خلال السنوات الماضية في اطار الاحتجاجات القبلية على ما تصفه بإهمال الحكومة لمطالبها وهي المطالب التي يغلب عليها الطابع الشخصي في محاولة الضغط على الحكومة لاستنزاف هيبتها والتعريض بنفوذ القانون في هذه المناطق، الأمر الذي ترفضه الحكومة وتصرّ على بسط نفوذها مهما كانت التضحيات. ومع كل ذلك لا تزال قوات الأمن والجيش تكثف من وجودها ومطاردة المطلوبين على خلفية الاحداث الاخيرة في اميركا. ولا تزال المروحيات التابعة للوحدات الخاصة والجيش والأمن تجوب اجواء المناطق التي تعتقد بوجود المطلوبين فيها وتقصف مواقع بهدف الضغط لتسليم انفسهم او تسليمهم من جانب القبائل. كما ان حملات الاعتقال مستمرة من دون توقف، وتأكيدات الرئيس اليمني لجهة الضرب بيد من حديد، ومنحه صلاحيات مطلقة لقوات الجيش والأمن في القبض على كل المطلوبين أمنياً تعكس رغبة الحكومة اليمنية في الوفاء بالتزاماتها التي قطعتها لواشنطن والتخلص من العناصر والجماعات التي قد تُدخل اليمن في دوامة خطيرة او في دائرة التهديدات الاميركية، ومن ثم لتثبت انها قادرة على ضبط الوضع والسيطرة على المشتبه في انتمائهم الى تنظيم "القاعدة" او غيره من التنظيمات المتطرفة التي تندرج ضمن التيارات المصنّفة ارهابية اميركياً، خصوصاً ان قوائم المطلوبين لم تتوقف عن الورود من السفارة الاميركية في صنعاء. وبات على اليمن ان يحارب الارهاب الذي تلاحقه اميركا ولا تزال تبحث عن رموزه بين جبال افغانستان وكهوفها وتحت اطلالها المدمرة.