استراتيجيتان لا تجتمعان: استراتيجيا الوعل واستراتيجيا السياسي. الوعل تيس الجبال له قرنان قويان. وكجميع التيوس، عقل ضعيف. كلما اعترضت طريقه صخرة نطحها بدل الالتفاف عليها. وقد شخص شاعر جاهلي عواقب هذا السلوك الوخيم: كناطح صخرة يوماً ليوهنها/ فلم يهنها وأوهى قرنه الوعل. استراتيجيا السياسي هي نقيض هذه الاستراتيجيا العبثية لأنها، كما يقول الجنرال بوفر: "تضفي طابعاً واعياً ومحسوباً على القرارات التي تهدف الى ترجيح سياسة ما". فما الذي يرجح سياسة على أخرى؟ كيفية صنع القرار. هل يصنعه الارتجال والانفعال أم العلم؟ هل تصنعه الأمزجة والمبادئ التي لا أساس سياسيا لها أم معطيات الوضع الموضوعية الموظفة في خدمة أهداف تتوفر وسائل واقعية لتحقيقها؟ صنع القرار اليوم جماعي تتضافر عليه جهود مؤسسات عدة. القرار الاسرائيلي تشترك في صنعه مؤسسة رئاسة الحكومة، الخارجية، الدفاع والمؤسسة الأمنية التي تتعاون مع عدة معاهد علمية متخصصة في صنع القرار. اما القرار الفلسطيني فيصنعه ويتخذه عرفات. أما في القيادات الاسلامية فلكل زعيم قراره الخاص. ليس من الصعب إذاً توقع السياسة التي تنقلب على الأخرى. منذ البدء امتلك شارون استراتيجيا سياسية واضحة: حكومة وحدة وطنية ضرورية للحرب، تجنب الصدام مع واشنطن، تقويض السلطة الوطنية تدريجياً وتدمير اتفاق اوسلو الذي أعطاها شرعية دولية. فما هي الاستراتيجيا الفلسطينية المضادة؟ لا شيء سوى الارتجال وملاحقة الاوهام والاسترحام عندما توضع السكين على الرقبة. عرفات أراد بالانتفاضة اسقاط باراك وانتخاب شارون على أمل اسقاطه بدوره فجعله أكثر رؤساء الحكومات منذ بن غوريون شعبية. الاسلاميون سعوا بالعمليات الانتحارية الى اسقاط عملية السلام وأوسلو فالتقوا موضوعياً مع استراتيجيا شارون! هذا العجز عن فهم السياسة فضلا عن ممارستها تجلّى على نحو فاجع في عدم فهم مستجدات ما بعد 11 أيلول سبتمبر خصوصاً اعتبار كل عنف مبرمج ضد المدنيين الأبرياء ارهاباً لا يغتفر. ولم يدركوا تالياً ان الانتفاضة بما هي عنف أعمى وعمليات انتحارية باتت مرفوضة دولياً. لم تع القيادات الفلسطينية هذه المتغيرات الهائلة فواصلت الانتفاضة وكأن شيئاً لم يكن. لأنها حسب تعريفها الخاص ليست ارهاباً بل عمليات استشهادية جائزة نقلاً وعقلاً، وان اسرائيل "لا يوجد فيها مدنيون" فجميع سكانها كباراً وصغاراً "مستوطنون ومحتلون ومحاربون لا أمان لهم". كيف يصل العمى السياسي الى هذه الدرجة؟ لأن المتعصب الذي جنَّ بفكرته الثابتة يفتقد حس الزمن وهذا ما يجعله يعيش خارج التاريخ في ضباب الميتافيزيقا وعلى أوهامها الخطرة. المتعصب يفتقد أيضاً حس الآخر، أي العجز عن وضع نفسه موضع الآخر لفهم وجهة نظره وعند الضرورة تفهمها بالتجاوب معها. هذا الجمود الذهني ملحوظ في أقوال وأفعال القادة الاسلاميين. "الحق في الاستشهاد، يقول خالد مشعل، مطلق رغم كل الذرائع والضغوط". وككل مطلق لا يقيم وزناً لضرورات الزمان والمكان ولا لمتطلبات السياسة التي لا تعرف المطلق ولا تعترف به. يقول مشعل أيضاً: "فلسفة المقاومة هي استنزاف طاقات العدو الى درجة تصبح معها كلفة الاحتلال أعلى مما يحتمل"، متناسياً ان للعدو أيضاً فلسفته الخاصة لجعل كلفة مقاومته بالعمليات الانتحارية لا تحتمل. يقول حماسي آخر: "ليذق اليهود جزءاً مما اذاقوه لنا على مدى نصف قرن ... ولا يهم ماذا يحدث بعد تنفيذ عمليات حماس الاستشهادية". تماماً كما صرح "علماء طالبان": "سواء حطمنا تماثيل بوذا أم لم نحطمها فالعالم دائماً ضدنا". أنا الغريق فما خوفي من البلل! أين السياسة في هذه السياسة اليائسة والانتحارية؟ في سياق منطق العجز عن وضع النفس موضع الآخر يتساءل الرنتيسي، مستنكراً، "عن السبب وراء الصمت العالمي عن الارهاب الذي يمارس على الفلسطينيين في حين تقوم الدنيا كلها عندما نقوم بعمليات ضد اليهود"! فقط النرجسية المتفجرة تجعل المرء يتوهم أنه وحده على حق ضد الدنيا كلها! قطعاً آذان الشارع الفلسطيني صاغية لشعارات حماس الانتحارية لأنها تقول لها ما تود ان تسمعه لا ما يجب أن تسمعه. وعندما يفكر بعض زعماء حماس في تعليق العمليات الانتحارية يرسل حسين نصرالله صيحة الفزع: "ان القاء السلاح والتخلي عن المقاومة تحت أي سبب أو عنوان يعني تسليماً للعدو بأنه انتصر واننا هزمنا"، مبشراً من حيث لا يدري بالاستراتيجيا الانتحارية التي تبناها "الزيلوت" الحماسيون اليهود بالقتال حتى الرمق الأخير دفاعاً عن قلعة ماسادا ضد الرومان! متناسياً أن احفادهم لم يقيموا الدولة اليهودية الا لأنهم قطعوا مع "روح المسادا" وتبنوا استراتيجيا واقعية. اما أحفاد صانع "صلح الحديبية"، النموذج المحمدي للسياسة العقلانية، فقد تنكروا لروح الحديبية لصالح روح الماسادا! ما افتقدته الساحة الفلسطينية حتى الآن هو القيادة الحديثة أي الكفوءة، ذات الرؤيا التاريخية والاستراتيجيا التفاوضية. ربما كان أمثال سري نسيبه تباشير تلك القيادة التي لا تنحني لمشاعر الناس في لحظة يأس ومناخ ثأر... بل تخاطبهم بلغة الحقيقة. معلقون كثيرون لفت انتباههم الخدمات المتبادلة بين شارون وحماس وتساءلوا عن خلفياتها. مثلاً تدميره 7 في المئة من بنية السلطة التحتية خصوصاً الأمنية، وعدم المساس ببنية حماس والجهاد الاسلامي التحتية، أراد به "تساهال" تحسين حظوظ الاسلاميين في صراعهم مع السلطة. بعد العمليات الانتحارية الأخيرة لم ينبس شارون بكلمة ضد حماس والجهاد بل وجه سبابة الاتهام لعرفات واجهزته الأمنية. لماذا؟ تجيب افتتاحية "لوموند" 26/12/2001: "منع عرفات من حضور قداس بيت لحم يأتي في اللحظة التي اتخذ فيها عرفات قرارات شجاعة ضد الاسلاميين ... معظم نخبة الدولة العبرية العسكرية والسياسية لم تعد تعتبر عرفات شخصية رسمية. شارون أعلنه "خارج اللعبة". لكن لا شك ان نتانياهو هو الذي عبّر جيداً عن رأي جزء مهم من القادة الاسرائيليين عندما صرح الاسبوع الماضي: "صعود حماس الى السلطة يعطي لاسرائيل هامش مناورة أكثر اتساعاً". بوضوح تواصل الافتتاحية: اذا جسدت حماس بدلا من منظمة التحرير الحركة الوطنية الفلسطينية فإن سحق هذه الحركة سيكون أسهل". لم يقصّر الاسلاميون بدورهم في تقديم خدمات لليمين وأقصى اليمين عندما جعلوا خطابه ضد الفلسطينيين جديراً بالتصديق في العالم: الفلسطينيون لا يبتغون بناء دولة فلسطين بل تدمير دولة اسرائيل. لولا العمليات الانتحارية لسقط شارون منذ شهور. كل عملية انتحارية تؤخر ساعة الحقيقة بالنسبة له: ساعة اصطدامه بالولايات المتحدة والمجتمع الدولي. يأخذ تقديم هذه الخدمات المتبادلة احياناً شكلا استفزازياً. كتبت الاسبوعية "جون افريك" 24/12/2001: "سؤال: ما هو التنظيم الفلسطيني الذي تجرأ على نقد من أرادوا تقديم شارون الى المحاكمة عن مجازر صبرا وشاتيلا؟ جواب: حماس في افتتاحية الاسبوعية "الرسالة"، الناطقة باسمها، والتي وقّعها صالح النعيمي بتاريخ 25/6/2001 وبرّأ فيها وزير الدفاع السابق قائلا: "لقد سبقت محاكمته من لجنة". وهاجم المرتكبين الحقيقيين للمجازر "القوات اللبنانية وأوصياءهم السوريين" ناعتاً بالنفاق "مهاجمة شارون" بدلاً من مهاجمة المسيحيين والسوريين! وتذكر الاسبوعية نماذج من الخدمات التي قدمتها حماس لليمين الاسرائيلي: حماس هي الحليف الثمين ل"ليكود"، فلولاها ما انتصر نتانياهو على شمعون بيريز الذي كان يحمل مشروع سلام اسرائيلي عربي شامل. كما ان شارون بخطاباته الحربية وباذلال الفلسطينيين وترويعهم وتجويعهم يغذي يأسهم ويدفعهم الى المشاركة في العمليات الانتحارية أو التعاطف معها ويقدم لخطباء حماس في المساجد الدعاية الضرورية لتجنيد الأنصار لها". ما هو اذاً القاسم المشترك بين مشروعي شارون وحماس؟ هو منع قيام الدولة الفلسطينية. تذكر جون افريك بهذا الصدد هذه الواقعة: "في كانون الأول ديسمبر 1993، بعد أيام من عودة عرفات الظافرة الى غزة صرح الجنرال دورون الموغ، حاكم القطاع العسكري، بأن قادة حماس يفضلون استمرار الاحتلال الاسرائيلي على رؤية كيان سياسي فلسطيني علماني. قبل أن يغادر الجنرال الموغ غزة سلّم لقادة حماس مقرات ادارية أكثر مما ترك منها لمنظمة التحرير". عندما أسس أحمد ياسين "التجمع الاسلامي" سنة 1967 كان هدفه دينياً خالصاً: "اعادة أسلمة المجتمع الفلسطيني" تطبيقاً لفكرة سيد قطب عن تكفير المجتمعات الاسلامية التي ارتدت الى "جاهلية القرن العشرين". وعندما تحول "المجتمع الاسلامي" سنة 1987 الى "حماس" لمنافسة الجهاد الاسلامي، تبنت حماس مشروع "تحرير فلسطين حتى آخر ذرة تراب" المستحيل التحقيق. لماذا لا يكون هذا التحرير الاشكالي ليس مطلوباً لذاته بل مجرد ذريعة لخدمة هدف آخر طويل النفس هو أسلمة المجتمع، إذ كلما طالت معركة فلسطين استطاع الاسلاميون التقدم الى هدفهم الحقيقي؟ تحويل تحرير فلسطين الى قميص عثمان معاصر هو ما يوصي به أيمن الظواهري الاسلاميين في كتابه الأخير: "على الحركة الجهادية ان لا تقتصر على خوض المعركة ضد العلمانيين تحت شعارات الحاكمية والولاء والبراء فقط، لأن هذه الشعارات - للأسف - ليست مفهومة لدى جماهير الأمة التي لا تجد نفسها مستعدة للتضحية من أجل شعارات لا تفهمها ... حتى يؤتي هذا الفهم ثمرته بين جماهير الأمة فلا بد من الانتظار... وقتاً طويلا. من الواضح ان اعداءنا لن يمهلونا كل هذا الوقت الذي نحتاجه لتربية الأمة. لذا علينا أن نضيف الى شعاراتنا العقائدية الخالصة شعارات أخرى مفهومة لدى جماهير الأمة المسلمة ... وبدلاً من ان نعتبرها شعارات من الدرجة الثانية في الأهمية يجب أن ندفع بها الى الأمام ... والشعار الذي تفهمه الأمة جيداً هو الدعوة الى الجهاد ضد اسرائيل" فرسان تحت راية النبي، 327. قد يكون هذا التكتيك هو التفسير المعقول لخلفيات الحلف الموضوعي الواضح بين قيادتي "حماس" و"الجهاد الاسلامي" وصقور "ليكود" ضد مشروع الدولة الفلسطينية.