لم يكن مفاجئاً ما تناقلته وكالات الأنباء في الاسبوع الماضي عن عزم دول الاتحاد الاوروبي تمويل أبحاث خلايا المنشأ STEM CELL . ولم يعترض على تخصيص موازنة بليوني دولار لتمويل تلك الأبحاث خلال السنوات الخمس المقبلة، سوى الإيطالي فرانشيسكو فيوري، المعروف بميوله اليمينية المتشددة. والمثير ان بقية ممثلي اليمين في أوروبا لم يناصروا فيوري، ورأوا في خلايا المنشأ مشروعاً مهماً، فأعلنوا موافقتهم على اجراء تجارب على أجنّة البشر، وهو أمر عارضوه طويلاً. ومع ذلك لاحظ الاتحاد الاوروبي انه لا يوافق على استيلاد أجنّة جديدة من اجل الحصول على خلايا المنشأ، وفي ذلك اشارة صريحة الى رفض الاستنساخ الذي قامت به شركة "أدفانسد سيل تكنولوجيز" الاميركية في مطلع ذلك الاسبوع. وبغض النظر عن النيات، فإن التشريع يفتح الباب "موارباً" أمام تجارب الأجنّة. وفي المناطق الرمادية من الاشياء، فإن الفصل بين ما هو استنساخ وما هو من غير ذلك، يصبح أمراً أقل وضوحاً. والأرجح ان التحوّل في المواقف لم يقتصر على أوروبا، بل ابتدأ في الولاياتالمتحدة، وربما كان ذلك مدخلاً مناسباً لرصد تطور هذه المسألة برمتها. ففي مطلع الاسبوع نفسه، أعلنت شركة "أدفانسد..." الاميركية عن اول استنساخ معلن لكائن بشري في التاريخ. وبررت الشركة هذا الحدث بأنه استنساخ علاجي يهدف الى الحصول على خلايا المنشأ. استنساخ أم خلايا منشأ؟ ما الذي فعلته تلك الشركة؟ أعلنت انها استنسخت جنيناً بشرياً عبر طريقة نقل النواة Nuclear Transfer، وهي التقنية نفسها التي استخدمها الاختصاصي الاسكتلندي ايان ويلموث في استنساخ النعجة "دوللي" 1997. والمعلوم ان الجنين يتكوّن في الحال الطبيعية من لقاء بويضة الأنثى مع حيوان منوي من الذكر، وكل منهما يحمل نصف العدد المطلوب من المكوّنات الوراثية اللازمة لتشكل جنيناً عادياً. ويؤدي لقاء النصف مع النصف الى "واحد" تام، أي البويضة الملقحة التي تتكاثر وتنمو لتصبح جنيناً ثم وليداً. ولهذا السبب، تحتوي كل خلية في نواتها، ولدى كل شخص، على هذا "الواحد" التام من مكوّنات الوراثة. وفي الاستنساخ تؤخذ بويضة من الانثى وتفرغ من نواتها، أي ان محتواها من مكونات الوراثة يكون "صفراً". ثم تحضر نواة من اي خلية، وفيها "واحد" تام من مكوّنات الوراثة، وتدخل الى الخلية الفارغة، ثم تُنَشَّط بويضة الاستنساخ، بواسطة صعقات كهربائية، فتبدأ في التكاثر. وعند عمر ستة أيام تقريباً، تكون بويضة الاستنساخ تحولت الى كيس فيه تجمع خاص من خلايا متشابهة تماماً ونشطة جداً خلايا المنشأ. هذه الخلايا هي بيت القصيد في كل هذا الصخب، لأن كل منها تتخصص لاحقاً في صنع أنسجة وأعضاء الجسم المختلفة كلها. وهذا معناه ان اي خلية من خلايا المنشأ لديها المقدرة على صنع اي نوع من الانسجة والأعضاء التي تؤلف الجسم، سواء كانت لحماً، أو عظماً، أو كلية، أو كبداً أو أعصاب دماغ ...الخ. وهنا ينفتح سوق الأعضاء البديلة على مصراعيه، والبديهي ان الأعضاء التي يُحصل عليها استنساخاً من احد الاشخاص، لا يرفضها جسمه لأنها نسخة طبق الأصل منه! وهنالك خلاف قوي على عدد كبير من المسائل المتعلقة بهذه العملية، فالاستنساخ مسألة تجريبية وأسسها العلمية غير معروفة على نحو كافٍ. ومن اللافت ان ويلموث، الذي انجز الاستنساخ الأول، هو من أشد معارضي استعمال طريقة نقل النواة في نسخ الانسان، بسبب غياب الأسس العلمية المتينة عن هذه العملية. وحتى ما أتمّته الشركة الاميركية كان موضع تشكيك واسع في الأوساط العلمية، بل نشرت مجلة "نايتشر" العلمية المعروفة مقالاً مطولاً على موقعها في الانترنت عن انتقاد علماء الولاياتالمتحدة وأوروبا ما قامت به شركة "أدفانسد..."، انطلاقاً من ضعف أسسها العلمية. الأجنّة مصدر الأعضاء البديلة! وعلى رغم الرفض اللفظي للرئيس الاميركي جورج بوش، الذي دعا الكونغرس الى نقاش معجل لهذا الموضوع، إلا ان بوش نفسه سبق ان "عدّل" مواقفه حيال التجارب على الأجنّة البشرية التي تهدف الى الحصول على تلك الخلايا. ففي مطلع آب أغسطس الماضي، اعلن بوش موافقته على تمويل ابحاث خلايا المنشأ، شرط استخدام خطوط الأجنّة المتوافرة فعلياً في مختبرات الولاياتالمتحدة، من مخلفات عمليات التخصيب الاصطناعي. وحينها، أثار هذا الاعلان حفيظة اليمين الاميركي الذي وعده الرئيس اثناء حملته الانتخابية ألاّ يوافق على هذه الابحاث. وحدث التحوّل الأكثر اثارة في الكونغرس نفسه، إذ فوجئ الرأي العام بأن عدداً من ممثلي اليمين الاميركي أبدوا حماسة لتجارب خلايا المنشأ. ويعبّر موقف عضو الكونغرس أرلين سبكتر، عن هذا الأمر. ووقف سبكتر على المنصّة ليقرأ من جريدة تعبير "استنساخ علاجي" كوصف لما قامت به شركة "أدفانسد..."، وتساءل عن مدى صحة هذا الوصف، مكرراً حجة معروفة بأن جنيناً عمره ستة ايام لا يعتبر ... جنيناً، بل مجرد كيس خلايا. فإذا كانت هذه الخلايا تحمل حلولاً علاجية لأمراض مستعصية، بما في ذلك الأعضاء البديلة، فلماذا نرفضها؟ تلك كانت خلاصة مداخلة سبكتر الذي عرف طويلاً بتشدده الأخلاقي حيال مسائل الإجهاض وتجارب الأجنّة البشرية وما إليها. والأرجح ان الموقف الاميركي اضحى اكثر "رمادية" حيال مسألة خلايا المنشأ واستنساخ البشر من الموقف الأوروبي. ولعل هنالك جذراً مشتركاً لكلا الموقفين، يمكن تقصّيه في بريطانيا التي تملك اكثر القوانين تساهلاً حيال ابحاث خلايا المنشأ والاستنساخ. فقد صرّح سايمون ويست، رئيس شركة "اردانا بيوساينس" ان قراراً أوروبياً إيجابياً أبلغ الى شركات الصناعة الطبية، وتحدث بوضوح عن الاستثمارات الهائلة والسوق الكبيرة المرتبطة بهذه الابحاث. اذاً، علا صوت المال على ضفتي الأطلسي فوق كل اعتبار، ولا ريب ان سوقاً من الاعضاء البديلة وبيع البويضات الجاهزة للتلقيح وغيرها من الاحتمالات، قد انفتح تواً وبقوة. وتشكل الأمور الآنفة الذكر جزءاً من اقتصاد البيولوجيا. وربما انضم استنساخ البشر، سواء علاجاً للعقم عند الموسرين أو غير ذلك، قريباً الى هذا الاقتصاد الذي بات موضع تنازع دولي. لماذا الحديث عن مناطق رمادية وتشديد النبرة على المصالح؟ هناك اسباب بسيطة جداً، منها انه توجد طرق عدة اخرى للحصول على خلايا المنشأ من دون اللجوء الى الاستنساخ، ولا تهتم الشركات بها. ومن مزايا الاستنساخ، سواء من طريق نقل النواة او غيره، السهولة النسبية وانخفاض التكاليف الى ادنى حد ممكن في هذا النوع من العمليات. ولعل هذه من مناطق التمايز بين الموقف المعلن للاتحاد الاوروبي والموقفين الاميركي والبريطاني. وإذا استُغلت امرأة من اجل الحصول على بويضاتها، من يضمن انها "تطوعت" أم ان الحاجة دفعتها الى بيع خلاياها؟ وهل من السهولة فعلاً رسم خط فاصل بين استنساخ جنين للحصول على خلاياه، او اكمال هذه العملية الى آخرها، اي زرعه في رحم "متطوعة" للحصول على انسان مستنسخ؟ في غيبة الفلسفة وعقلها يسهل القول ان كل ما أثير من اعتراضات، إنما دار على تفاصيل علمية، أو اعتراضات أخلاقية محضة. فمعارضو الإجهاض لن يقبلوا بتجارب على أجنّة بشر، بغض النظر عن أي تفصيل آخر. وعلا صوت الاعتراض الديني من هذا التلاعب غير المسؤول بأسس الحياة البشرية برمّتها، والذي يطاول كل المفاهيم والقيم المرتكزة إليها، بدءاً بالأبوّة والأمومة والأسرة ووصولاً الى هوية الكائن الانساني وما الى ذلك. وأثارت بعض اطراف الحركة النسوية مسألة حق الجنين، وهو شكل آخر من اشكال الاعتراض على الإجهاض. وتمسك كثيرون بالنقاش عن الوضع الديني والأخلاقي ل"كيس خلايا عمره ستة أيام" وهل هو جنين أم لا؟ واستحضر كثر من المعترضين صور المخلوقات المشوّهة التي ينتجها العلم المنفلت من عقاله، وهو اعتراض يستند الى مركوز ما هو متخيل عن "فرانكنشتاين". وتحدث البعض بأسى عن العلم الذي يدمر البشر، وشُبِّهَ الاستنساخ بالقنبلة الذرية التي ابتدأت بأبحاث تحاول الوصول الى نوع عظيم من الطاقة، وكانت نتيجتها الرعب والدمار. والأرجح ان هذا الاعتراض الأخير هو شكل آخر من استحضار متخيل "فرانكنشتاين"، الوحش الذي صنعه العلم اعتداداً بمقدرته، ثم صار قاتلاً لصنّاعه. هل تصلح كل هذه الاعتراضات، وما شاكلها، لتكون اخلاق زمن الاستنساخ والجينوم وصعود البيولوجيا؟ ربما نعم، وربما لا، ولعله ليس من الشطط القول ان صوت الفلسفة ما زال ضعيفاً وأقرب الى الغياب، منه الى الإمساك بهذه اللحظة المذهلة من علاقة الإنسان بالعلم وبنفسه وبالكون، وأعمال العقل فيها. هل انه استنتاج متطرف؟ ربما. فلننتظر ونرَ.