رواية "الفتوحات" وزارة الثقافة السورية، دمشق، 2001 لوليد اخلاصي هي اشبه باستشراف جيل قديم لما يعيشه مجتمع حلب، او سورية عموماً. لكنه استشراف بلاغي، بقي على السطح ولم يقارب حقيقة الواقع، كون الكاتب ينتمي الى النخبة التي ترصد من "عل" كما يقال، فظلت الرواية نائية عن تمزقات الارواح وقساوة الشارع التي يعيشها الجيل الجديد، ويفهمها في شكل أدق وأعمق غالباً. ويتساءل القارئ اليوم عن الرواد العرب ورؤيتهم في كتابة الرواية واتقان أصولها الفنية، وهيكليتها في بناء الشخوص ونسج الأحداث وتقمص بواطن النفوس. فالملاحظ ان كثيراً منهم لم يعد يستطيع رصد حركة الواقع بروح وحيوية، بسبب البعد من الشارع والكسل الابداعي والانغلاق على افكار ازمان سابقة. إذ ان ثمة بوناً شاسعاً بين خبرات الرواد وزاوية الرؤية المعاصرة، سواء للتاريخ او للواقع اليومي. غالباً ما نجد وصفات جاهزة للأفكار، ووعظاً طويلاً عن الخير والشر والسياسة والوطنية والحب، وهذه لم تعد الذائقة الشابة تتقبلها كونها اصبحت من الماضي. والمعروف ان الرواية الحديثة كفت عن ان تكون خطاً مستقيماً للأحداث، ولا شخصياتها ذوات رؤى متماسكة وواحدة. ثمة تشظ لدى الانسان العصري اليوم، لا على الصعيد العربي فقط، نتيجة التخلف وهجوم العلم الحديث والتمزقات الاجتماعية والحضارية، بل على صعيد الانسان في اصقاع العالم أينما وجد. ذلك التشظي وتلك التمزقات، لا تعبّر عنها إلا لغة مجنونة، طالعة من طين الشوارع وغبار الدهاليز وعتمة الزنازين، في حلب المزخرفة بزواياها ولغاتها وأديانها وأحزابها، وهو ما لم تمتلكه رواية "الفتوحات"، على أي حال. يحس المتابع للروايات المكتوبة في حلب ان اعمال الشباب، على رغم ارتباكها فنياً احياناً، تعبّر عن روح المدينة وبؤرها وطبقاتها الاجتماعية، اكثر مما عبّر عنها الجيل القديم من الرواد كوليد اخلاصي مثلاً في روايته هذه، مع ان احداثها تجري على بعد امتار من القلعة، وأحياناً في المقهى المجاور لها، او في الضواحي القريبة من السوق العتيق. تلك الروايات تسائل عمق الانسان وجوهر الأمكنة وهي اقل وثوقية في احكامها. وهذه الروايات تبدع شخصيات عادية ليس فيها ما يدهش، ولا تبلور رؤية خاصة حول الحياة، وإن حدث هذا، مثلما برزت شخصية المهدي، الشقيق التوأم لبطل الرواية شاهد الشهيد، فإنما يأتي بلسان المؤلف ووجهات نظره وتأملاته الفكرية والثقافية، لا بسبب حركة الشخصية الروائية وتواشجها مع الأحداث او الشخصيات الأخرى، وهذا ما جعل الشخصيات نمطية، عامة، مألوفة ويمكن إيجادها في كل الأوقات. ويمكن القول ان انتقاءها غير مجدٍ روائياً، فما ان ينتهي القارئ من الرواية حتى ينساها تماماً ولا تخلف اثراً في ذاكرته. ليلى، حبيبة شاهد، فشلت في زواجها الأول من تاجر السجاد الحلبي لأنه كان يمارس زواج المتعة في إيران، ثم انتهى زواجها من عبدالمؤمن الشريف حين اكتشفت انه يتعامل مع الآخرين بروحية العنف فجاءت الخاتمة مأساة غير متوقعة، إذ رفع عبدالمؤمن السلاح في وجه الحكومة، ما أدى الى هزيمته وهجرته الى بلد مجاور. تزوجت ليلى ايضاً من سعد الدين الجابر، وكان سياسياً متقاعداً يحلم بتأسيس "جنة" أرضية يقودها الحزب، إلا انه توفي وترك اوراقه لشاهد وليلى كي يدوّنا تاريخ البلد. اما شاهد الشهيد فهو كاتب محبط، بعيد من تيار الحياة وناضب ابداعياً، تدور حوله تلك الشخصيات وتخرجه من عزلته عبر قصصها وأدوارها في المجتمع الحلبي، فيما يظل هو متأملاً كل ذلك، وحيداً مع قط وببغاء وشجرة جوز وبئر ناضبة... المدينة - الشبح مدينة حلب التي كانت اطاراً للأحداث، لم تتجل في الرواية إلا شبحاً غامضاً لمدينة ذات اسم يرن عالياً في الذاكرة. غابت اسواقها القديمة وشوارعها وعذابات قاعها، وحضر فقط معلمها الأشهر، ألا وهو القلعة. في مفتتح الرواية يقف شاهد الشهيد، ابن العائلة الحلبية الثرية وحيداً في بيته الفخم، مستسلماً لمصير هادئ، بعدما هاجر ابنه الى أستراليا ولحقت به زوجته. اما اخو شاهد التوأم الهادي، فصار يعيش في منعزل بعيد في الجبال، مفتشاً عن البراءة والحلم والحقيقة. وشاهد كاتب شيخ، ناضب الاهتمامات، يفتش عن جدوى حياته، فيرتكس الى الماضي، وإلى تاريخ عائلته وقد جاء الجد الأكبر من الأستانة، بعد شغب الانكشارية وفوضى الدولة العثمانية في القرن التاسع عشر. باسهاب وتقريرية مفبركة بعض الأحيان يأخذنا وليد اخلاصي الى طفولة الكاتب المحبط، وهو يفتش عن بصيص امل يعيش من اجله، يفتش كل يوم فلا يجد سوى القط والببغاء وذلك القبو المعتم وهو يضم ذكريات العائلة وصدى الأجداد والآباء والأبناء والأمهات. وكانوا يموتون او يهاجرون او يقبعون في بيوت خالية يملأ جدرانها الغبار وخيوط العنكبوت. كل شيء في المنزل يذكر شاهد بالماضي: الكراسي، المسابح الخشب، الخناجر، الحب الأول مع بنت اسمها ليلى، ثم بدايات كتابته القصة. انه يعيش في ذلك الماضي، بين رماد اجداده وكتبهم العتيقة التي وجدها في القبو، وكان واحداً منهم دوّن في مخطوطة قديمة مناماته ايام الانكشارية، وجاءت كوابيس مرعبة، على رغم ان الكاتب وحين يقص علينا تلك الكوابيس لا نجد فيها إلا صدى قراءات عامة يمكن أي شخص العثور عليها. مخطوطة جده لم تأتِ بجديد عن تلك الحقبة المرتبكة من تاريخ السلطنة العثمانية. مع ان شاهد الشهيد اكتشف ان جده سجل صوراً مفككة الأجزاء لترسم بدورها صورة شبه كاملة لمرحلة عجيبة من الحياة في المملكة العثمانية، عقب ما سادها من خوف وتمزق وذعر. فتدوين المنامات التي اعتمدها الجد كان تدويناً للذاكرة الشعبية، اعتبرها شاهد متكأ اخيراً لعجزه الابداعي والفكري، فهو شخصية لم تعد تعرف ما تريد. جلّ شخصيات وليد اخلاصي في هذه الرواية إنشائية، مصوغة من كلمات ومقولات، لا من مادة محسوسة ذات طعم ينبع من اليومي والسلوكي والمعيش. فالسياسي المخضرم سعد الدين الجابر لا يمل بعد التقائه بشاهد من الوعظ، والخطابة عن ازمان ذهبية ماضية، كان فيها مناضلاً وخطيباً وحالماً، إلا انها في الحقيقة كانت ازماناً غارقة في السذاجة والمقولات الطنانة. مقولات نخب سياسية وثقافية تافهة لم تعرف معنى ان تسعين في المئة من شعبها من الأميين. وارتكاس شاهد نحو الماضي جاء بسبب الحاضر البائس لمدينة تتقلب فيها الأحوال، فالسيئ يصبح مقبولاً، والسارق مسؤولاً، كما يقول الكاتب. يتحول الجاهل الى استاذ في الجامعة... انه حاضر يصبح فيه الكذب شائعاً بينما الصدق يثير النفور، وتكون السرقة قانوناً للشطارة، ويتزايد عدد الغشاشين فتكتظ المحاكم بجثث القوانين وهي تموت من دون رصاصة رحمة. تعوّد الناس كما يقول، الالتحاق بالمسيرات العامة تردد الشعارات من دون ان تعي معنى لها او انها تدافع عنها، ودارت سيارات فارهة في الشوارع يقودها جنون التفاخر او صبيان حمقى يتفاخرون بانتمائهم الى آباء اقوياء، ويتربع رجال بمهمة كبيرة يكتبون التقارير الى اجهزة الأمن بلا أجر. تلك حال المدينة التي جعلت من شاهد كاتباً ناضباً، وهو لم يغير شيئاً من ذلك سوى انه عاود البحث عن طريق، عن حل يجده مرة في السياسي الفاشل او عند المرأة الحلم التي تزوجت اربع مرات فلم تنجب ولم تكتسب مهارات جديدة. ويجعل منها الكاتب احياناً رمزاً لسورية، وإن كان الرمز بعيد الظلال. والتقاء شاهد مع ليلى ارملة سعد الدين الجابر، ينقل الرواية الى مستوى الحدث العام، فتقص عليه زيجاتها وأسباب طلاقها، وتبدأ الذكريات القديمة تنبعث بينهما من الرماد، ويتفقان على تدوين تاريخ سورية اعتماداً على اوراق الحزبي المخضرم سعد الدين الجابر. يذهبان لرؤية الهادي اخي شاهد، كما لو يحاولان ترميم العائلة في سعي الى تلاحمها من جديد، ولهذا ايضاً قصة طويلة. ينقل اخلاصي القارئ من قصة الى اخرى ضمن نماذج مكتملة التجربة لا تتقاطع إلا في نهايات تجاربها. لهذا فهي شخصيات جاهزة، وعموماً خلاصات لتأملات طويلة، ثقافية وفكرية، في المِلل والأحزاب، يجد لها الكاتب شخصيات على مقاسها، فتظل هلامية دخانية غامضة، مصنوعة من كلمات انشائية لم تخرج من التجربة. ولعل هذا ما جسّده في شكل واضح الهادي، إذ اصبح بعد دراسته في فرنسا ودخوله في قصص حب فاشلة وموت طفلته بسرطان الدم، اصبح متصوفاً يبحث عن حقيقة الحياة والانسان والوجود لدى كبار العلماء والمتصوفة والاشراقيين كابن عربي وكونفوشيوس وبوذا ولاوتسه، ليصل في النهاية الى عزلة روحانية تقوده الى السياحة بين الجبال والصحارى السورية باحثاً عن طريق، وتلك أعجوبة لم يفك مغاليقها لا ليلى ولا بطلنا الناضب الموهبة شاهد الشهيد.