دخلت حرم الجامعة الاميركية في بيروت قبل اسبوع برفقة صديقين من خريجي الجامعة مثلي، غير انهما مهندسان، وأنا خريج علوم سياسية وأدب عربي. وذكرتهما بأن شهرة طلاب الهندسة انهم "زعران"، ففي ايامنا كانت كلية الهندسة قصراً على الذكور، فكان طلابها يرابطون على جانبي الشارع، ويصفرون للطالبات وهن نازلات من الحرم الأعلى للجامعة الى الحرم الاسفل. طبعاً كانت هناك طرق اخرى بين الحرمين، لذلك فقد كانت تختار الطريق امام كلية الهندسة البنات غير الجميلات ليسمعن غزلاً لا يسمعنه في اي مكان آخر. ولعل تعاطي طلاب الهندسة مع غير الجميلات، ولا اقول البشعات، هو الذي يفسر المستوى المنخفض لجمال زوجاتهم بعد ذلك. وما سبق من نوع حصرم في حلب، فقد كنت اريد دخول كلية الهندسة او الطب في تلك الايام وعجزت، ما اغضب عمي فؤاد الخازن، فقد كان استاذاً في كلية الهندسة، وعميداً لها يوماً، وهو حذرني من انني اذا اخترت العلوم السياسية، فسأنتهي معلم مدرسة، وهي مهنة تضمن لصاحبها الفقر، والهوان على نفسه وبين اهله وعشيرته. لا اعتقد ان صحافياً عربياً اهم كثيراً من معلم المدرسة، غير ان هذه قصة اخرى، فأبقى في حرم الجامعة الذي دخلته من بوابة الطب، وكنت قبل دخوله طفت بمركز هيكل المجاور حيث اقامت طالبات لا انساهن العمر كله. على كل حال، الدكتور احمد زكي في كتابه "ليلى المريضة في العراق" وصل الى دمشق فكتب يقول "انا في دمشق وطن... وطن من؟ لا اريد ان افضح نفسي وقد سترني علام الغيوب..." وأنا امام مركز هيكل لا اريد ان افضح نفسي لأنه إضافة الى علام الغيوب هناك من ستحاسبني على ظهر هذه البسيطة. كنا في اول سني المراهقة عندما شهدت بوابة الطب تظاهرات ضد حلف بغداد في الخمسينات لا ازال اذكر ان طالباً اسمه حسّان ابو اسماعيل قتل فيها. القتل اليوم من اختصاص آرييل شارون، فأبقى مع ذكريات جميلة عن الجامعة، وقد مررنا بقاعة الاجتماعات تشابل، وتذكرت الرئىس صائب سلام، رحمه الله، يخطب فيها منتقداً اجهزة الأمن، وهي اقوى ما تكون، في مطلع 1970 وقبل انتخاب سليمان فرنجية رئيساً، فقد كان هناك قدر من الحرية لم يضع على رغم مناخ المنطقة. ما اذكر من قاعة الاجتماعات وقوف ماهر المصري، رئيس مجلس الطلبة في حينه، ووزير الاقتصاد الفلسطيني الآن، على المنصة ليخطب معلناً نهاية اضراب طويل للطلاب احتجاجاً على زيادة الاقساط. كنت في اوائل السبعينات رئيس تحرر "الديلي ستار"، وأيضاً طالباً غير متفرغ احضِّر لماجستير في الأدب العربي، وأتاحت لي الصفتان فرصة ان ادخل دار رئيس الجامعة في حينه، الدكتور كير كوود، لأتابع مفاوضات الادارة مع الطلاب. ووقفت امام دار الرئيس التي اصبح لها الآن باب حديدي قوي، وتذكرت النقاش في الصالون، والدكتور شارل مالك يجلس وحيداً على كرسي، يفكر ويتأمل ولا يتكلم على رغم الضجة حوله. كان استاذي في الماجستير البروفسور إحسان عباس، وعندما كان يغيب كان يخلفه في توجيهي الدكتور محمد نجم. وأقول اليوم انهما افضل استاذين عرفتهما في حياتي، ولكن "كولدج هول" بنيت من جديد بعد تدميرها في انفجار، فلم احاول الدخول بحثاً عن مكتبيهما، او لرؤية مكاتب اساتذتي الآخرين، خصوصاً في مادة التاريخ، مثل نقولا زيادة، أمد الله في عمره، ومحمود زايد رحمه الله. وقفت مع الصديقين امام مقهى الطلبة ميلك بار وتذكرت كيف انقطعت عن ارتياده بعد ان تطوعت الأخت العزيزة حياة مروة، الليدي بالومبو الآن، وشرحت لي بتفصيل مريع انها عثرت على دودة في كعكة أميركية مدورة دونت. وكان الوضع اسوأ لو انها عثرت على نصف دودة. ولم آكل "دونت" منذ ذلك اليوم. مبنى "وست هول" المجاور يتعرض لعملية تجديد كبيرة، الا ان المقاعد أمامه باقية، ولن افضح اصدقاء كانوا ينزلون من برمانا وبيت مري، ثم يجلسون على تلك المقاعد، ليفتحوا ضيافة ولا يدخلون الصفوف. غير اننا تخرجنا بمعجزة، شهد بعض فصولها مبنى الآداب المجاور، حيث تذكرت صفاً درست فيه مادة سياسية مع البروفسور وليد الخالدي، وكان استاذاً زائراً تلك السنة. توقفنا في ساحة بعد مبنى الآداب، وصديق يشير الى بناية في الخارج ويقول "هنا كانت غرفتي"، او "هذه كانت غرفة سامي"، و"هذه كانت غرفة فؤاد". وذكرتهم بصديق ضُبط على الدرج ومعه بنت من خارج الجامعة. خرجنا باتجاه الكلية الثانوية، وتذكرنا يحيى بائع الكعك، وسيارة فورد "أبو دعسة" كان يملكها في اوائل الخمسينات استاذ للغة الانكليزية في المدرسة الثانوية هو مستر ليفي، وكان يهودياً اميركياً ظريفاً ومعلماً من الدرجة الأولى. سرنا نحو شارع "بليس" ومخفر حبيش، ما أعاد الي ذكرياتي مع ماهر المصري، والطلاب الذين كانوا يعتقلون في التظاهرات، ونذهب الى "الكركون" للتفاوض على اطلاقهم. اليوم ماهر المصري لا يزال يناضل، وهو تحت نيران الاسرائىليين في رام الله كل يوم، اما انا فعندي ذكريات عن كل شارع وبناية ومنعطف في الجامعة او حولها. وأكمل غداً.