لا بد من العودة الى الحديث عن "قناة الجزيرة"، والعودة الى هذا الموضع رغم تكرارها، واحياناً رتابتها، مؤلمة بالفعل، على الأقل تؤلمني أنا. فانتقاد محطة غدت مصب آمال المجتمعات العربية ليس بالسهل خاصة وان للجزيرة حسنات لا يمكن التغافل عنها. تقنيات الجزيرة حثت باقي المحطات العربية على تقديم صوت وصورة بشكل معقول، ومن يتذكر بث الفضائية المصرية منذ سنوات، لا بد ان يشكر احتراف زميلتها القطرية في هذا المجال. بيد ان حسنات الجزيرة لا تقتصر فقط على التقنيات. فالمحطة خلقت اسلوباً جديداً في التعامل مع الحدث فتح آفاق العالم العربي الى ابعد من الثنائية المعتادة: العالم العربي - الغرب. لقد ادخلت آسيا الى بيوتنا، ووحدت لأول مرة المجتمعات العربية مُزيلة عائق اللغة، وهي الاولى التي الغت من عناوينها الرئيسية أخبار الزيارات البروتوكولية للرؤساء والحكام و"استقبل وودع". الجزيرة احتضنها الشارع العربي، ورأى فيها متنفساً عن غضبه وافتخر بها وكأنها "سي. إن. إن" العرب، كما وجد لاول مرة في تعامله مع المحطات الاعلامية "حساسية" يألفها، فلم يشعر بعدوانية او عنصرية كان يلمسها بين اسطر نشرات الاعلام الغربي. واذا اردنا انتقاد الجزيرة، كان من الواجب التأكيد، لمنع اي التباس، على ان هذا النقد لا يأتي ليدافع عن وجهة نظر مَن اراد خلال السنوات الخمس الاخيرة إحكام الرقابة على المحطة، او حتى اغلاقها، اكان هذا الطرف عربياً او اميركياً. نقد الجزيرة يأتي من الدفاع عن مهنة الاعلام بحد ذاتها والتذكير بقوانينها وبقيمها، وايضاً للدفاع عن مجتمعات عربية اخذت تناصر الجزيرة على حسناتها وسيئاتها. حرب الخليج واكاذيبها والانتقادات التي وجهت لآحادية الاعلام ولسيطرة "سي. إن. إن" عليه فرزت العديد من الحوارات والنقاشات والمقالات والكتب في العالم اجمع. كذلك فالحرب التي ما زالت تدور في افغانستان والرقابة الذاتية التي فرضت على الاعلام الاميركي باسم الوطنية ومصلحة البلاد الخ... فتحت ايضاً نقاشاً في الصحافة الغربية وهذا الموضع قد اشرنا مراراً الى خطورته في هذه الصفحات. كها اظهرت ان لهجة الاعلام السمعي - المرئي الاميركي، التي قد يحبها الرأي العام في الولاياتالمتحدة، اخذت تنفر العديد من المشاهدين في الدول الاوروبية والاسيوية، حتى بين الذي يؤيدون الحملة العسكرية الاميركية على نظام الطالبان وبن لادن وقاعدته. العودة الى موضوع الجزيرة سببته مقابلة اجرتها الزميلة "الرأي العام" مع تيسير علوني، مراسل المحطة القطرية في كابول والذي، على غرار مراسل "سي. إن. إن" بيتر ارنت" في بغداد خلال حرب الخليج، كان الاعلامي الوحيد الذي استطاع تغطية ذيول احداث 11 ايلول سبتمبر من العاصمة الافغانية حتى سقوط نظام الطالبان ووصول قوى التحالف الشمالي الى كابول. ماذا يقول علوني في مقابلته؟ عن السؤال كيف يمكن شرح اسباب ما آلت الية الاوضاع في افغانستان، يرد "ارنت العرب": "برأيي ان المجتمع الدولي شن حرباً على حركة طالبان لافشال هذا النموذج الذي وفر الامن والامان لشعبه...". اذاً الدول الغربية الشريرة قُضّ مضجعها عندما علمت ان المجتمع الافغاني ينعم بالأمان، ولذا قررت معاقبته؟ اما السؤال عن وضع المرأة، فيجيب عنه علوني: "ان قسماً ضئيلاً تضايق من فرض لبس الحجاب ومنع عمل المرأة. والحقيقة ان هذا القرار الذي اصدرته حركة طالبان كان تأثيره السلبي على فئة لا تتجاوز الواحد في المئة، ولكن لسوء حظ هذه الحركة ان هذه النسبة الضئيلة تمكنت من الوصول الى الاسواق الاعلامية الغربية التي شوّهت صورة طالبان...". اللهم نجنا من كيد النساء! هل يدري السيد علوني انه في حقل التعليم فقط، كان 40 في المئة من "المعلمين" معلمات، ام هل يجهل ان الطالبان فرضوا البرقع - وليس الحجاب - كما فرضوا اللحى، ام هل يتناسى ان "الابواق الاعلامية الغربية" الذي ينعتها لاحقاً بالغبية، هي التي كانت في طليعة من صفق لتجربة الجزيرة وشجعها؟ اما بشأن تعليم الفتيات الذي مُنع في افغانستان فيجد علوني عذراً له قائلاً: "نائب وزير التعليم الافغاني ذكر لنا ان المتوافر فقط مبانٍ مهدمة، والصالحة منها تمكننا من تعليم 15 في المئة من اطفال افغانستان، لذلك نركز على الاولاد بسبب خصوصيتنا كمجتمع شرقي...". هل تساءل يوماً السيد علوني لماذا الخصوصية تأتي دائماً على حساب الحرية وحقوق الانسان في عالمنا العربي؟ اما عن حقيقة ما جرى، فالصوت الاعلامي الوحيد الذي وصلنا من كابول رأي: "الحقيقة ان جميع اعداء الاسلام يريدون إفشال هذا النموذج الطالبان الذي يطبق الشريعة الاسلامية بالطريقة السليمة... اعود لقناعتي، ما حصل يوم 11 سبتمبر قد يكون اكبر من قدرة منظمة او دولة عربية ان تنفذ عملية ضخمة اعد لها منذ سنين طويلة...". هل نفسهم من ذلك ان العرب، بحكم ضعفهم التاريخي، عاجزون على اختطاف طائرة؟ ام ان الافضل البحث على الجاني عبر "صدفة" عدم ذهاب مئات اليهود الى اعمالهم يوم 11 سبتمبر، حسبما بشّرت ابواق الاعلام العربية؟ هناك شعور عربي سائد معادٍ للعولمة لأنها قد تقضي على ثقافتنا... فأي ثقافة تدافع عنها الجزيرة؟ الثقافة التي ترفض الموسيقى والسينما والتلفزيون والحرية وحقوق المرأة... هل هذه ثقافة؟