تعتبر "كلية الاميركيتين"، في ولاية جورجيا الاميركية مدرسة علىا لتخريج كبار العسكريين والأمنيين ورجال الاستخبارات في القارة الاميركية، منها تخرج ضباط أصبحوا رؤساء في بلدانهم في أميركا الوسطى والجنوبية وقادة جيوش اتسمت عهودهم وممارساتهم بالبطش والقمع والدموية في تناقض واضح وصريح مع مفاهيم محاربة الارهاب السائدة حالياً. في ما يأتي عرض لتاريخ هذه الكلية وأبرز خريجيها وحملة عليها داخل الولاياتالمتحدة. بلاد العم سام المجروحة منذ أيلول سبتمبر الماضي في كرامتها وهيبتها وبراءتها، مصممة على تحقيق الانتصار النهائي على الارهاب، وقد فاتها أنها أول من تبنى مثل هذا الارهاب ووفّر له تربة خصبة داخل الولاياتالمتحدة وخارجها. الأمثلة كثيرة على ذلك، ولعل ابرزها ما يسمى "كلية الاميركيتين" أو "معهد الارهاب" الذي احتضنته "عميدة الحرية والديموقراطية" لعقود طويلة وتخرّج منه القتلة ومحترفو التعذيب و"نجوم" الديكتاتورية في اميركا اللاتينية. مانويل نورييغا وعمر توريجوس في بنما، أناستازيو سوموزا في نيكاراغوا، ليوبولدو غالتيري في الارجنتين، هيكتور غراماجو ومانويل انتونيو كاليجاس في غواتيمالا، هيوغو بانزار سواريز في بوليفيا، قائد كتيبة الاعدام السلفادورية روبرترو دوبويسون وآلاف الجنود والضباط والعملاء قدموا من انحاء اميركا اللاتينية، وعلى مدى العقود الخمسة الأخيرة، لتلقي "التدريب الاحترافي" على مقاعد الكلية في ولاية جورجيا، وتطبيق ما تعلّموه للتنكيل بمواطنيهم في أبشع الحروب الأهلية التي شهدتها بلادهم. ترتسم ابتسامة مريرة على وجه الرائد المتقاعد في الجيش الاميركي جوزف بلير وهو يستعيذ ذكرى حادثة يصفها بالمضحكة المبكية حصلت منذ سنوات في "كلية الاميركيتين" عندما اعتلى الكولونيل بابلو بالمار المنبر نافخاً صدره في زيه العسكري ا لأنيق، ليلقي أمام الطلاب محاضرة دامت أربع ساعات عن حقوق الانسان. الحضور المكوّن من ضباط قدموا من غواتيمالا والسلفادور لم يطرح عليه آنذاك سؤالاً واحداً، بل راح يتهامس، محاولاً كبت ضحكاته ونكاته وقد اعترته الدهشة لسماع أحد أشهر اتباع أوغوستو بينوشيه وأبرز المتهمين بجرائم القتل والتعذيب خلال فترة حكم الديكتاتورية العسكرية في التشيلي، وهو يستفيض في الكلام عن ضرورة العمل للحفاظ على السلام العالمي ومناصرة المستضعفين والأبرياء والدفاع عن حقوقهم. ويؤكد بلير ان الحادثة التي شهدها بأم عينه عام 1987 في قلب المؤسسة العسكرية، وتحديداً في مركز قيادة المشاة في جيش الولاياتالمتحدة في ولاية جورجيا، لم تكن سوى غيض من فيض صادفه طوال فترة وجوده في "كلية الاميركيتين" التي أنشئت منذ أكثر من خمسين عاماً على نفقة دافعي الضرائب وكان عضواً في هيئتها التدريسية. يتقطّب جبين الرائد المتقاعد وهو يسحب ملفاً بعد الآخر من صندوق كبير يحتفظ به منذ سنوات طويلة، ليغوص في فصل مشين من تاريخ بلاده العسكري، فصل يحاول البنتاغون في الآونة الأخيرة طمس وقائعه المروعة ومحوها من الذاكرة الجماعية. على غلاف أحد الملفات خُربشت عبارة "كتيّبات التعذيب" التي تتضمن، بحسب بلير، أفضل "المناهج التعليمية" لأصول توظيف المخبرين وادارتهم واستخراج المعلومات من أعضاء الاستخبارات المضادة بكل الوسائل الممكنة: إلقاء القبض على أقاربهم وتعذيبهم اذا لزم الأمر، ابتزاز أصحاب الشأن أو ايداعهم السجن بقرار اعتباطي، اضافة الى كيفية حقنهم بإبرة الحقيقة وضرورة تصفية جميع المعارضين مهما كلف الأمر. ويقول بلير ان الادارة الاميركية كانت مقتنعة بأنها تؤدي واجبها بتدريب الضباط والجنود من أميركا اللاتينية وتلقينهم أهم "مبادئ الديموقراطية الاميركية". وترسخت قناعتها تلك فلم تكتف بغضّ الطرف عن التاريخ الاجرامي لكل الذين تناوبوا على القاء المحاضرات في الكلية، بل كانت تؤمن لهم اقامة مريحة في "أرض الأحلام" فتدفع، مثلاً، رسوم انتسابهم الى نوادي الغولف الراقية وتمدهم ببطاقات الشرف لحضور أهم الأحداث الرياضية وتصطحبهم في رحلات سياحية الى "غراند كانيون" و"ديزني لاند". ويصف كيف كان الجنود يصلون بانتظام الى الكلية حاملين حقائب محشوة بآلاف الدولارات لشراء السيارات الفخمة والمقتنيات الثمينة قبل شحنها الى بلادهم: "كان شائعاً في جميع الأوساط ان "كلية الاميركيتين" هي المكان الأفضل الذي يتيح لضباط اميركا اللاتينية فرصة تبييض أموالهم من تجارة المخدرات". تقاعد بلير من الجيش الاميركي عام 1989 وضميره مثقل بالأهوال التي شهدها في الكلية. بعد مرور أشهر قليلة على احالته على التقاعد، ارتكب الجيش السلفادوري مجزرة راح ضحيتها ستة كهنة يسوعيون ومدبرة منزلهم وابنتها المراهقة. وبيّنت التحقيقات التي أجرتها لجنة من الكونغرس الاميركي أن مرتكبي الجريمة هم جنود تخرّجوا من الكلية وأن أحد الضباط الذين خططوا لها كان الكولونيل فرانشيسكو ايلينا فوينتس، رئيس كتيبة اعدام سلفادورية وأحد أبرز الاساتذة الفخريين في "كلية الاميركيتين". وكان ذلك كافياً ليخرج بلير، الكاثوليكي الورع، عن صمته وينضم الى مجموعة من المعارضين الذين دأبوا على تنظيم التظاهرات والحملات الاعلامية لإغلاق الكلية. بعد الكشف عن تورط الكلية بمقتل الكهنة اليسوعيين، طالب المعارضون برفع السرية عن لوائح بأسماء المتخرجين منها، ما ألقى الضوء على عدد كبير من الضباط والجنود المسؤولين مباشرة عن الأعمال الوحشية التي ارتُكبت بحق المدنيين الأبرياء خلال الحروب الأهلية في دول أميركا اللاتينية. من جهتها، نفت الادارة العسكرية في الولاياتالمتحدة وجود أي صلة بين الكلية والسجل الاجرامي الحافل لبعض خريجيها، معتبرة ان نسبة عدد المتهمين بجرائم القتل والاغتصاب والابادة الجماعية هي نسبة ضئيلة جداً بالمقارنة مع "الافادة" التي جناها أكثر من ستين ألف جندي ارتادوا الكلية منذ فتحت أبوابها للمرة الأولى في منطقة قناة بنما عام 1946، قبل أن يُنقل موقعها الى فورث بينينغ في ولاية جورجيا عام 1984. في نهاية العام الماضي، أصدرت الادارة الاميركية قراراً بإغلاق "كلية الاميركيتين" إثر ارتفاع أصوات عدة معارضة لنهجها الاجرامي، بما فيها أصوات من داخل الكونغرس نفسه. ولم يمض شهر حتى أُعيد افتتاح معهد تدريب عسكري آخر في المبنى نفسه، تحت تسمية مختلفة، مع الحفاظ على الهيئة التعليمية السابقة ومناهج الدراسة والتدريب نفسها. وارتفعت من جديد الأصوات المعارضة، معتبرة أن خطوة الادارة الاميركية ما هي الا مجرد محاولة لاخفاء شناعة ما أورثته الكلية القديمة للأجيال الشابة، وان افتتاح الكلية الجديدة ما هو سوى "عار جديد باسم جديد". وبعد اعتداء 11 ايلول سبتمبر الماضي، انضم الى المعارضين آلاف المواطنين الاميركيين ولم يعد خافياً عليهم أن لدولتهم أكثر من أي دولة في العالم الباع الطويل في تدريب الجيوش الأجنبية واحتضان لائحة طويلة من الارهابيين تضم أسماء يزعم المسؤولون اليوم انهم يسعون للاقتصاص منها. وعلى رغم الفارق الشاسع بين الصراع القائم حالياً والحروب الأهلية في وسط اميركا وجنوبها، تلك التي تورط فيها في شكل فاضح جيش الولاياتالمتحدة ووكالة الاستخبارات وراح ضحيتها آلاف المدنيين الأبرياء، الا ان دعاة السلام يشددون على ضرورة عدم نسيان الماضي، باعتبار ان ذهنية الخبث وادعاء البراءة ورفض الاعتذار ومحاولة التنصّل من الماضي هي أشباح تطارد الدول مهما علا شأنها وتشكل محطات مشينة في تاريخها العسكري. من أبرز الناشطين لاغلاق "كلية الاميركيتين" وحالياً الكلية الخليفة لها، الأب الكاثوليكي روي بورجوا الذي جمع حوله آلاف المؤيدين وأودع السجن مرات عدة لقيامه بتنظيم تظاهرات تندد بالسياسة الاميركية المشجعة لنشر الارهاب في العالم. أمضى بورجوا أكثر من عشرة أعوام يساعد الفقراء في دول اميركا اللاتينية وشهد وحشية ما ارتكبته الجيوش بحق المدنيين، خصوصاً في الحروب الأهلية. وفي العام 1980 أصيب بصدمة نفسية حادة اثر قيام جنود في الجيش السلفادوري باغتصاب اربع راهبات كانت تجمعه بهن صداقة قديمة وقتلهن. في العام نفسه، اغتال الجنود ايضاً رئيس الاساقفة في السلفادور أوسكار روميرو اثناء تقديمه الذبيحة الإلهية. وبعدما علم أن الجنود الذين ارتكبوا الجرائم كانوا تخرجوا من "كلية الاميركيتين"، قرر بورجوا الشروع في حملته. ذات ليلة، تسلل واثنين من مؤيديه الى حرم القاعدة العسكرية متنكرين بزي جنود اميركيين. تسلقوا شجرة قريبة، من مهجع ينام فيه الجنود السلفادوريون وأطلقوا عبر مكبر الصوت شريطاً مسجلاً لآخر عظة ألقاها روميرو قبل اغتياله. انتفض الجنود من نومهم واطلقت صفارات الانذار بصورة جنونية في محاولة لطمس صوت رئيس الأساقفة. ألقي القبض على المتسللين وأودعوا السجن لمدة سنة ونصف السنة بتهمة التعدي على أملاك خاصة. بعد اطلاق سراحه، انطلق بورجوا في كل الولاياتالمتحدة متحدثاً أمام الحشود عن الخراب الذي يلحقه الجيش في السلفادور، وكان هذا الأخير يتلقى آنذاك دعماً سنوياً من الولاياتالمتحدة بقيمة خمسين مليون دولار. وبعد اغتيال الكهنة اليسوعيين الستة، بدأ بورجوا مع مؤيديه، اضراباً عن الطعام أمام القاعدة الاميركية بعد أن قاموا برمي واجهة الكلية بقوارير ملأوها بالدماء. وهو اليوم يواصل نشاطه ويقيم في شقة قريبة من القاعدة العسكرية قاطعاً على نفسه عهداً بأن يبقى فيها حتى تمحى آثار "كلية القتلة" كما يسميها. ويتوجه بورجوا الى جميع المواطنين الاميركيين طالباً منهم أن يحذوا حذوه في السعي لإغلاق عدد من المؤسسات الاميركية التي ارتبطت أسماؤها بالموت والرعب وتشكل نقطة سوداء في تاريخ الولاياتالمتحدة. ويلقى بورجوا، الذي بدأ بتظاهرة صغيرة نمت لتصبح حركة معارضة منظمة، الدعم من بعض اعضاء الكونغرس من الحزبين الديموقراطي والجمهوري اضافة الى اسماء هوليوودية انضمت اليه في السنوات الأخيرة مثل سوزان ساراندون ومارتن شين. ولا تتوانى قوات حفط الزمن في توقيف المشاركين في التظاهرات من طلاب ونساء وأطفال وزجّهم في السجون مثلما حدث مع راهبتين شقيقتين الأولى في الثامنة والثمانين من عمرها والثانية في الثامنة والستين، ما أثار موجة استياء عارمة لدى الرأي العام الاميركي. فتساءل جوزف بلير عن الرسالة التي تتوخاها الديموقراطية الاميركية، حاملة لواء الدفاع عن حقوق الانسان، من سجن الأطفال وراهبات طاعنات في السن، في حين تدأب على تكريم القتلة والمجرمين. ويطالب بأن يمثل المسؤولون امام محكمة جرائم الحرب تماماً كما حصل مع مجرمي الحرب البوسنية. ويستند بلير في ادعاءاته الى تقارير حكومية كانت أعدتها لجنة تحقيق تابعة للبنتاغون، وأزيلت عنها السرية تحت ضغوط عدد من أعضاء الكونغرس عام 1996. وتشير هذه التقارير الى "مواد تعليمية" فاضحة شكلت محور مناهج تدريب ضباط اميركا اللاتينية بين عامي 1982 و1991. واشتملت هذه المواد على ما يعرف بتسمية "كتيّبات التعذيب" ونجح بلير في استخراجها من يد السلطات بعد صراع جهنمي ومرير بحسب تعبيره. واحد من هذه الكتيبات، وهو باللغة الاسبانية، يحمل عنوان "ماينجو دي موينتي" ويتضمن معلومات عن كيفية توقيف واحتجاز ذوي العملاء في الاستخبارات المضادة وحثّهم على الاعتراف بالضرب والتعذيب ومحق مقاومتهم بواسطة الحرارة والهواء والضوء. ويشير التقرير الى ان تلك الكتيبات كانت توزع في دول اميركا اللاتينية بواسطة وحدات خاصة تابعة لمكتب الاستخبارات الاميركية. ويلفت بلير الى أن القسم الأكبر من المواد التعليمية في "كلية الاميركيتين" استند الى خبرة الاستخبارات الاميركية المضادة في الحرب الفيتنامية. واعترف بعض الجنود المتخرجين من الكلية بأن عدداً من الدروس "التطبيقية" كان يتضمن عرض افلام صورها جنود اميركيون في فيتنام. ويروي أحد الجنود الغواتيماليين كيف تملكه وزملاءه الرعب لدى مشاهدتهم افلاماً عن جلسات تعذيب الجنود الفيتناميين. ومن المشاهد "التعليمية" التي انطبعت في ذاكرته وتركت في نفسه أثراً رهيباً، لقطة تصور جندياً فيتنامياً يصرخ ألماً بعدما علّق المحققون في خصيتيه كيساً ملأوه بالحجارة. كما يتحدث بعض العارفين بخفايا كواليس الكلية عن اختطاف الفقراء المشردين من شوارع بنما واستخدامهم حقول تجارب لتعليم الطلاب افضل الوسائل المعتمدة في التعذيب من خلال تحديد أكثر الأعصاب حساسية في جسم الانسان وكيفية الابقاء على المحتجزين أحياء اثناء عمليات التعذيب. ويتضمن التقرير شهادات حية أدلى بها سكان من دول أميركا اللاتينية عن اعتداءات خطف واغتصاب وقتل وتعذيب تعرضوا لها من قبل ضباط وجنود تخرجوا من الكلية، وما جاء فيه ان الجيش الغواتيمالي، على سبيل المثال، كان مسؤولاً عن مقتل 150 ألف شخص واختفاء 50 ألفاً خلال الحرب الأهلية. وهذه الوقائع استندت الى تقرير أعده الأسقف خوان جيراردي وكان من المقرر أن يشكل المادة الاساس في دعوى اعتزم رفعها لمقاضاة الجيش الغواتيمالي قبل أن يتم اغتياله على يد ضابط تخرّج من "الكلية الأميركية". القاء الضوء على التاريخ الحافل لأساتذة "كلية الاميركيتين" وخريجيها أثار ردود فعل عنيفة لدى الرأي العام الاميركي وكان محط جدل واسع داخل الكونغرس اضافة الى الحرج الكبير الذي سببته للبنتاغون ايضاً. ويشار الى أن الكونغرس حاول أكثر من مرة التقدم بطلب لوقف تمويل الكلية، وفي كل مرة احبطت محاولاته بسبب اعتراض عدد من أعضائه. أمام الكلية الجديدة التي افتتحت في شهر كانون الثاني يناير الماضي تحت تسمية "معهد نصف الكرة الغربي للتعاون الأمني"، علقت لافتة جديدة كتبت عليها بالاسبانية عبارة: "حرية سلام وأخوة". ويقول المدير الجديد للمعهد الكولونيل ريتشارد داوني "لست مخوّلاً التحدث عن "كلية الاميركيتين" ولكني أؤكد ان المعهد الجديد يركز في مناهجه على التحديات التي يفرضها القرن الواحد والعشرون وغيرها من المسائل المعاصرة التي تختلف اختلافاً كلياً عن تحديات الحرب الباردة والشيوعية وحرب العصابات التي ركّز عليها المعهد السابق. سنركّز على تعليم مبادئ حفظ السلام والدفاع عن حقوق الانسان ومواجهة الكوارث ومراقبة الحدود ومحاربة تجارة المخدرات". وأشار الى أن التمرينات تتم تحت اشراف مباشر من وزارة الدفاع وتشمل تدريب المدنيين ورجال الشرطة. لكن المعارضين يتمسكون بقرارهم الهادف الى اغلاق "المعهد المشبوه"، داعين الشعب الاميركي الى عدم الأخذ بادعاءات المسؤولين باعتبارها مجرد عبارات منمقة طالما اعتادوها لتضليل الرأي العام واخفاء أعمال شنيعة تُرتكب بحق الولاياتالمتحدة وتاريخها، وبحق البشرية جمعاء. اعداد: ميرنا ابي نادر