مع الرواج الواسع لمصطلح "الدراما السورية" لا يجد المرء بداً من اشارة الى كون المصطلح يستوعب أكثر من دلالة بلد المنشأ، وليس خصوصية النموذج الدرامي، سواء بالحكاية أو الشخصية أو الحوار. أغلب الظن ان الدراما السورية، كمصطلح، ولدت محاولة لجمع هذا الكم المتناثر من الأعمال الدرامية مع الفضائيات. اضافة الى ان المصطلح نفسه أصبح أقرب الى الفكاك من مضمونه عندما نتبيّن كيف ان هذه الدراما يتم انتاجها، سلفاً، على خلفية اشتراطات عامة، تجارية أو رقابية، فكيف إذا أضفنا هذا الى مسألة غياب الخصوصية؟! وحتى نتمكن من تلمس الفارق الحاد بين بعض الأعمال، تجب الإشارة الى الانزياح الذي وقع في طبيعة المسلسل السوري: من خطاب المكان الى خطاب الزمان، من شخصية "الحارة" الى شخصية "الأمة"، وهذا يؤدي الى نحت الشخصية الشمولية التي يعوقها مناخها وشروطه، فتتم المعالجة على أساس يلغي خصوصية المكان والسياق التاريخي، ما يجعل من فكرة "الدراما السورية" مجرد اشارة الى بلد المنشأ وحسب. في العودة الى الأعمال الدرامية السورية التي منحت المصطلح بعضاً من دلالاته، لا بدّ من التركيز على مسلسل "نهاية رجل شجاع" و"أيام شامية" و"خان الحرير". ان هذه الأعمال الثلاثة كانت الأب الشرعي لمصطلح الدراما السورية، فهي قدمت نموذج الشخصية والسياق التاريخي والمكان، من خلال اتحاد نجح المؤلفون بإظهاره، فلم تكن اللهجة مصدراً للهوية، بل في السياق والعلاقة بين الشخصية والحارة والبلد والعالم في حدث واحد. "نهاية رجل شجاع"، في الأصل رواية للروائي السوري حنا مينه، وقد استطاع القاص حسن.م. يوسف ان يحوّلها الى سيناريو متماسك من خلال تفعيل لغة الصورة أساساً لمعنى ودلالة العمل الفني. وادارة المخرج نجدت أنزور الفاعلة، والمعتمدة أيضاً على تقويم الصورة، يسَّرت خروج هذه الدراما الناجحة التي دلَّت الى تفاعل مجموعة من العناصر يندر اجتماعها: رواية ثم سيناريو ثم رؤية اخراجية. "أيام شامية" كتبه السيناريست أكرم شريم، ونجح هذا العمل في ربط الشخصية بسياقها التاريخي حيث أنك لا تجد حواراً فيه يشذ عن هذه القاعدة، التي تُعتبر الشرط الأول الأساس في معيار الحوار: تناسب الكلام مع الشخصية. قدم هذا العمل طبيعة المجتمع السوري في فترة الاحتلال العثماني بأكثر الاشارات رهافة ومجازية، فلم يعتمد على تضخيم الحدث السياسي على حساب الحراك الاجتماعي العفوي. "خان الحرير" للمخرج هيثم حقي، تصدَّى لمهمة مركبة جعلت من تحدي العمل لنفسه أكبر بكثير. فهو جمع المجتمع السوري بأدق مراحله: مرحلة نهاية النموذج العثماني، صعود فكرة الدولة القومية، خلفة الاحتلال الفرنسي لسورية، والانكليزي للعراق، صعود تيارات سياسية متعددة في منتصف القرن. واستطاع هذا المسلسل قبول التحدي المتمثل بالأبعاد المعقدة للشخصية السورية في مرحلة التحول السياسي الكبير مع حضور أو خروج المستعمر وبداية الدولة الوطنية والمفارقات الحاصلة نتيجة هذا التبدُّل. هذه الأعمال الثلاثة كانت النقلة النوعية في الدراما السورية، وهي التي جعلت هذا المصطلح ممكناً. وبدأت دلالة هذا المصطلح بالاضمحلال عندما انتقل العمل السوري الى توسيع دائرة النموذج الدرامي ليصل الى التسمية التي اشتهرت عنه ب:الفانتازيا التاريخية. في هذه المرحلة تم سحب كامل الصفات عن الشخصية، لتصير بلا ملامح مميزة، ومن دون اشتراك داخلي خاص بينها وبين المشاهد إلا على خلفية اللغة الفصحى التي لم تستطع ان تغطي اللاتمايز في الشخصية، وكذلك اللاتاريخية، عندما صرنا نرى الشخصيات ترتدي الأزياء الصفر والحمر والخضر موشحة بالحرير وتتحدث على شاطئ البحر، وغالبية الشخصيات المركزية تحمل همَّ توحيد العالم فلم نرها تأكل أو تشرب... هي فقط نماذج لا تاريخية عافت أفعال البشر وولجت في الأسطورة!! فقدت هذه الفانتازيا التاريخية بريقها بسرعة، لأن المشترك بينها وبين المتلقي كان يقوم على اعتبارات لا تدعم التفاعل بقدر ما تدعم الاحساس بالغربة، وأن ما يراه ليس أكثر من ألف ليلة وليلة من دون سياق أصلاً. حاول بعض الأعمال أن يعيد دور السياق التاريخي في تبلور الشخصية مثل مسلسل "حمام القيشاني" الذي يُعرض الآن في جزئه الرابع، لكن المطب التقني الذي وقع فيه هو تحويل الشخصيات الى أناس مهمومين بالسياسة فلم نعد نرى "شخصية" بل نمطاً سياسياً يؤديه الممثل لتكون الاشارة الى عزل الشخصية عن سياقها الاجتماعي ليتم ابتسارها بقسوة ولينعدم المشترك: عندما يتابع المشاهد الحياة السياسية في مرحلة ما من مراحل مجتمعه، وخصوصاً اذا ما كان المشاهد حياً في تلك المرحلة، فإنه سرعان ما يستغرب كيف أن يتحول المكان بأسره الى حوار سياسي وقراءة صحف ومتابعة خطب الزعماء، ليطرح العمل شخصيات طهرانية منحوتة بما يتناسب مع مكانها في "الحزب" وليس في المجتمع. طبعاً حاول "حمَّام القيشاني" ادخال قصص حب وخلافات عائلية لكي يعطي العمل طابعه التلقائي الاجتماعي، لكن هذا لم ينجح في إزالة الصورة الأساسية في العمل: كل الشخصيات تؤدّي دورها السياسي من خلال اعتبار عنيف لمكانها في مجتمعها. الى هذه المرحلة وصل مصطلح الدراما السورية الى المأزق بسرعة، لم يكن هذا متوقعاً. لكن هذا ما حصل. وفي هذه المدة الرمضانية نجد الكثير من الأعمال التي تُعبّر عن هذه الأزمة بقوة. أهم صور الأزمة الراهنة يتمثل في غياب "الحكاية"، لأن أرضية فكرة "السَّرد" في الدراما السورية لم تكن محسومة على المستوى المفاهيمي. ان هذا الحسْم كان واضحاً في "نهاية رجل شجاع" و"أيام شامية" و"خان الحرير". كان مؤلفو الأعمال الثلاثة هذه يعتبرون ان "الحكاية" السورية تشكَّلت في أواخر القرن الثامن عشر وبداية التاسع عشر، وفصول الحكاية هي التطور أو التغيير الطارئ على بنية المجتمع السوري في أدق مراحل التحول: صعود الدولة القومية في أوروبا، سقوط الدولة العثمانية، الاحتلال والانتداب، الحكومة الوطنية، التعدّد السياسي والثقافي، غلبة اللون الواحد في الطيف السياسي. هذه المدة المشار اليها كانت المكان الخصب لرؤية تبلور الشخصية وتغيرها لما تحمله هذه السنوات من تغيرات حادة كانت بمثابة "المطبخ" الفعلي للمائدة السياسية. وفي حضور الفانتازيا فقدت "الحكاية" أهم عناصرها، البداية والنهاية، الزمان والمكان، الشخصية والبيئة، ليقدم "حمام القيشاني" اسعافاً أولياً لم يقدر على انقاذ المصاب، لأنه ساهم أيضاً في عزله عن عالمه الأولي البسيط، كما عزلته الفانتازيا. بعد غياب "الحكاية" السورية، ماذا نجد الآن في هذه المدة من العرض الدرامي الرمضاني الذي صار عادة أهل الدراما ما أثّر كثيراً في حرفية العمل بسبب السرعة في الانجاز، حتى أن المشاهد صار يمتلك خبرة في نقد الصورة، ولهذا لم يقتنع، مثلاً، بملابس شخصيات في الصحراء وهذه الملابس مكوية ومرتبة الى درجة يظهر عليها "خط" الكوي الذي يرفضه حتى الإنسان العادي عندما يرتدي قميصاً جديداً! "مسلسل ذي قار"، مثلاً، كذلك اذا رأينا الذقون التي تمّ الاعتناء بها كأن الشخص الملتحي قد شذب ذقنه في هوليوود وليس في عصر ما قبل الإسلام، كما نرى في المسلسلات التاريخية السورية التي تعرض الآن الطريقة التي يتم فيها اظهار شخصية العدو ولكأنه "جحا" العاجز عن تركيب جملة: خصوصاً إذا كان هذا العدو مَلِكاً وليس انساناً عادياً! هذا اضافة الى الكم الكبير من الأخطاء اللغوية في حوار الممثلين، إذ لا مانع من حضور مدقّق لغوي في التصوير، وليس في قراءة النص وحسب. المسلسلات التاريخية السورية المعروضة الآن، حققت بعضاً من التوازن بربط الحكاية في حدث تاريخي، لكن سرعة الانجاز تركت أثراً واضحاً في الملابس والمكياج والحوار، مع أن الأرضية السياسية لمثل هذه الأعمال كانت تحتاج الى "فحص" عميق لما تحمله في طياتها من اشكالات في الهدف أو الرسالة المبتغاة منها، لكن هذا يحتاج الى حيِّز آخر، فكري في أساسه أكثر من كونه تقنياً فنياً. أما الأعمال الاجتماعية - السياسية، كما أشرنا الى "حمام القيشاني"، فإن "الحكاية" فيها دخلت في "التفاصيل" من دون الربط العام الذي يفترضه السرد. فكيف تجلى غياب الحكاية؟ مع أن خالد خليفة امتلك تجربة في نسج الشخصية تبعاً للترابط السببي بين الشخص والمجتمع والسلطة، كما رأينا في عمله السابق: "سيرة آل الجلالي" إلا أن حكايته ما لبثت ان وقعت مع الابتسار وتقديم الشخصية بمراحلها المعاصرة الأخيرة، والمنزلية الطابع كما في عمله الذي يُعرض الآن: "قوس قزح" في كل حلقة حكاية مستقلة تؤدّيها الشخصيات نفسها مع زيادة نسبية للشخصيات في كل حلقة. هذا العمل لم يخرج فقط من الحكاية التي تربط جميع الشخصيات ببعضها بعضاً، وتداخل عوالمها القصصية في آن واحد، بل اعتمد على نوع من أحلام اليقظة في رسم الشخصيات التي بدت في عمله وقد حققت "الخلاص" والطهارة الكاملة. ففي عمله هذا لم يعد هناك من وجود لأي بنية سيكولوجية معروفة، كالبنية التي تحكم علاقة الأب بالابن، وعلاقة الابن الأكبر بالأصغر، وعلاقة الأخ بالأخت، وعلاقة الحماة بالكنّة، كل هذا البنى السيكولوجية اختفت من أقاصيص خالد، لنرى شخصيات لا يحكمها سوى العداء ل"فرويد" والتحليل النفسي من خلال الحب الخارق الذي يجمع أفراد العمل، فإذا احتاج الأخ الى منزل تراكض الجميع لمنحه نقوداً، واذا حملت الزوجة فإن "الحماة" أكبر السعداء، أما الأب، فهو مثل بقية أفراد العمل، عَبَر مرحلة المطهر ودخل في التقديس! وبسبب هذا التطرف في أحلام اليقظة فإنه إذا عالج مشكلة كالطلاق مثلاً فإن كل الشخصيات تقف أمام الكاميرا صارخة: "أنت مطلَّقة"!! فكيف إذا قلنا ان البحث عن منزل وحمل المرأة والطلاق وغيرها من شؤون الحياة الاجتماعية لا يمكن معالجتها إلا في نسيج متكامل. "فرصة العمر" يُعرض الآن أيضاً. وعلى رغم الأداء الرائع لسوزان نجم الدين إلا أنه أيضاً تجاوز الحكاية وقدم في كل حلقة موضوعاً مستقلاً، وكذلك لا سياق واضحاً للشخصيات. اضافة الى طابع التقليد الذي يحمله هذا العمل الذي يبدو فيه تأثر واضح بفكرة "بخيت وعديلة" لعادل امام. "مرايا" ياسر العظمة تمتلك مشاهديها بسبب العلاقة الطيبة التي تجمع العظمة وجمهور المشاهدين، لموهبته وجرأته، لكن عمله وقع في التكرار والنمطية، كذلك فإن الملاحظة الأساسية على المرايا هي الطابع الإذاعي للحوار أكثر من انحيازه الى الصورة، أي ان المرايا تنجح في الفكرة ولا تنجح في الصورة. يكاد يكون مسلسل "ورود في تربة مالحة" الذي يعرض الآن، من أفضل الأعمال الدرامية السورية، ففيه قصة جيدة، محبوكة، وفيه ترابط سببي، ووضوح في رسم الشخصيات، وتنام درامي يعزّز العلاقة بين الفعل ورد الفعل، بين الدافع والظاهرة. وكذلك أداء الممثلين الممتاز. ويشار في هذا الصدد الى وائل رمضان وجهاد الزغبي اللذين يؤديان باحتراف. عند هذا العمل، "ورود في تربة مالحة"، تأليف تماضر أحمد الموح، يكون لمصطلح "الدراما السورية" بعض من دلالة. أمَّا عدا ذلك فإن "نهاية رجل شجاع" و"أيام شامية" و"خان الحرير" هي الآباء الثلاثة لهذه الدراما التي تنازلت عن حكايتها بسرعة، ربما بسبب غياب التقاليد، بعكس الدراما المصرية التي ما زالت تتربّع على المشهد الدرامي بسبب رسوخ التقاليد والقصصية فيها وعلى رأسها العمل الكبير لأسامة أنور عكاشة: "ليالي الحلمية".