تميز النتاج الدرامي السوري لهذا الموسم بكثرة الوجوه الشابة سواء ممن اصبحوا نجوماً أو من الوجوه الجديدة، على صعيد التمثيل، كما برزت أيضاً بعض الأسماء الشابة على صعيد الإخراج وكتابة السيناريو، إلى جانب ما شهدته قنوات التلفزة السورية بمحطاتها الثلاث الفضائية والأرضية والأجنبية من حيوية وفعالية بخصوص عدد من المذيعات والمذيعين الجدد، ليبدو المشهد التلفزيوني السوري أكثر حيوية وشباباً من السابق. يمثل مسلسل "بقعة ضوء" تنويعاً مهماً في مشهد التجارب الشبابية الإبداعية، حيث تمكن هذا العمل من معالجة العديد من القضايا من زاوية فتية، خصوصاً ما يتعلق بالقضايا الاجتماعية التي تهم شرائح الشباب. إذ تم طرحها من وجهة نظر نضرة سعت للتخلص من الوعظ والإرشاد اللذين صارا سمة أساسية للأعمال الدرامية الناقدة سواء كانت الكوميدية أو التراجيدية. فحتى بعض الأفكار المكررة بدت في "بقعة ضوء" طازجة وحيوية مثل مسائل الفساد والرشوة، ويعود ذلك إلى التخلص من العبارات النمطية في الحوار، واستخدام كلمات ومصطلحات حديثة ودارجة بين الشباب في الشارع، وايضاً الابتعاد عن التطويل المجاني، بل كان هناك تكثيفاً كبيراً للزمن والفكرة أي المختصر المفيد، واللماح الطريف، فمعدل طول اللوحة الرئيسة 15 دقيقة، بينما اللوحة القصيرة لا تتجاوز الدقيقتين، وطول الحلقة كاملاً لا يتجاوز 30 دقيقة. يمكن القول أيضاً أن هذا المسلسل عبر لوحاته التي تجاوزت ال72 لوحة طرح أفكاراً جديدة وحساسة منها ما هو بسيط جداً وخاص بالمشهد الشبابي كموضوع "التشفيط" بالسيارات ومنها ما هو مفصلي ومعقد يرتبط بالسياسة العامة كمسألة رسم سياسة التعليم والامتحانات، وموضوع المياه وحفر الآبار وحتى موضوع النفط وارتباطه بالهوية والمستوى العلمي والحضاري والنظرة المسبقة التي تحكم تطلعاتنا إلى الآخر، إضافة إلى كم كبير من اللقطات الطريفة السريعة، بمثابة "نكتة" قصيرة تنطوي على تساؤل يدعو إلى تأمل عميق. وعلى رغم ما قيل من انتقادات حول السوية الفنية في العمل وتفاوتها بين لوحة وأخرى، إلا أنه كتجربة شبابية هي الأولى من نوعها في الدارما السورية، جديرة بالمتابعة والنقد بهدف تشجيعها والارتقاء بها. وهي كما يعرفها المخرج الليث حجو: أنها تجربة تتطلب جهداً استثنائياً، فكل لوحة مهما كانت قصيرة كانت تستدعي اتباع أسلوب إخراجي وأجواء مختلفة من حيث الديكور والإكسسوار والمكياج، فقد كان الممثل يجلس على كرسي الماكيير فيتحول إلى شخصية جديدة، وهو ما يدفع المخرج والممثل والفني الى التجديد أيضاً في نمط الأداء لينسجم مع تنوع العمل، الصعب والممتع جداً. الحماسة والتجريب هما العاملان الأساسيان اللذان كانا وراء تحول فكرة العمل من مجرد تصور ضبابي إلى مسلسل دخل حيز المنافسة مع غيره من الأعمال الكوميدية. والفكرة ظهرت لدى باسم ياخور وأيمن رضا، أثناء التقائهما مع مساعد المخرج الليث حجو خلال تصوير مسلسل الأيام المتمردة للمخرج هيثم حقي العام الماضي، وقد استحسن الليث الفكرة، التي كانت أقرب إلى الفيديو كليب، لكنه لم يتوقع أن تنتقل إلى حيز التنفيذ بهذه السرعة، إذ فوجئ باتفاق باسم وأيمن مع شركة سورية الدولية لإنتاج المسلسل ليعرض خلال شهر رمضان، وتم اعتماده مخرجاً له، وهي التجربة الإخراجية الأولى لليث حجو بعد عمل عشر سنوات في إخراج الإعلانات وكمخرج منفذ في عدد من المسلسلات المهمة. والطرافة أن المنتج وافق على العمل كفكرة من دون المطالبة بقراءة النص، ما وضع الشباب الثلاثة على المحك حيال ثقة المنتج الكبيرة بإمكاناتهم، والتي عززت بالتوقيع مباشرة على العقود. لكن حماسة صاحبي الفكرة والمخرج وثقة المنتج وما منحه من تسهيلات لم تمنع عقبات إدارية كثيرة وقفت في طريقهم، لتتحول تجربتهم ليس فقط إثبات تعددية مواهبهم بل مسألة تحد وإثبات وجود، ضمن أجواء شللية وبيروقراطية معرقلة لنمو أي جديد، خصوصاً أن فكرة العمل جذبت عدداً كبيراً من الممثلين الشباب خريجي المعهد العالي للفنون المسرحية، ومجموعة من الأقلام الشابة كتبة النصوص للمشاركة فيه، ويذكر أحد العاملين في المسلسل أن الممثل بسام كوسا وجد صعوبة في المشاركة في هذا العمل لارتباطه بتصوير عمل آخر، لكن روح المغامرة التي كانت تحيط ب"بقعة ضوء" إضافة إلى حرصه على ألا يسيء رفضه للعاملين في المسلسل، قرر أن يكون ضيفاً على لوحتين فقط، لكنه ما أن دخل في أجوائه حتى تحول إلى ممثل أساسي مع احتفاظه بلحيته التي كان يتطلبها دوره في المسلسل الآخر. والحماسة التي أبداه الكثيرون توازت مع محاولات إحباط كثيرة وضاغطة من عدة جهات حيث رفض بعضها إن يخرج العمل الليث حجو لأن هناك من هو أحق منه من المخرجين الأكبر سناً وإضافة إلى المشكلات الإدارية والروتينية التي تتطلبها معاملات إنتاج العمل الدرامي كانت هناك مشكلات تتعلق بتسهيلات التصوير التي تقدمها الوزارات المعنية، ولأن الرقابة والتقويم الفكري في التلفزيون السوري يعتبران من أفضل الرقابات العربية بخصوص النصوص الناقدة، واجه العاملون في مسلسل "بقعة ضوء" صعوبات في التعامل مع بعض الوزارات التي طاولها النقد، فامتنعت عن تقديم مساعدتها، التي تقدم بشكل سخي للأعمال التلفزيونية عادة، مثل وزارة الداخلية والصحة والدفاع والثقافة والإعلام، حيث يستعان بها في مجال الحصول على سيارات الإسعاف أو النجدة، أو العتاد الحربي أو للدخول إلى أماكن تخص تلك الوزارات بهدف التصوير. وقد شجعت الحكومة السورية بتوجيهات رسمية بغية دعم الإنتاج الدرامي، لتكون بذلك كل المواقع متاحة للتصوير لدى حيازة وثيقة تسهيل مهمة، وقد اعتقد الشباب العاملون في بقعة ضوء أن الأمر ميسر أيضاً خارج أراضيهم بذات الشروط، لكنهم فوجئوا بعدم إمكان ذلك في الدول المجاورة مثل لبنان. ويروي أحد الفنيين ظروف تصوير لوحة بعنوان "عملية تهريب" تحتوي على مشهد لا بد من تصويره في منطقة ضهر البيدر، فاعترض العسكريون الموجودون في تلك المنطقة لأن التصوير فيها ممنوع من دون إذن رسمي، ولأن الوقت ضيق، ولا إمكان للعودة إلى دمشق ولا إجراء المعاملات اللازمة، لجأ فريق العمل إلى إخفاء الكاميرا ليخوض مغامرة مثيرة لا مجال للأخطاء والعثرات فيها، إذ لا يمكن إعادتها في حال فشل الممثل أو المصور، وقد دفع ثمن هذا المشهد باسم ياخور، الذي كان يعبر الطريق النازل من بيروت على دراجة عادية في طقس بارد، فمكث ذراعاه متشنجين بوضعية قيادة الدراجة لمدة يومين بسبب البرد والسرعة وشد الأعصاب الذي لازمه، خشية ضبطهم أثناء التصوير في المنطقة الممنوعة. ولعل روح المغامرة والتجريب هو ما أعطى للعمل عفويته وببساطته، التي لازمته في كل مراحله من وضع النص إلى التنفيذ، فمثلاً تطرأ فكرة ما لدى أحد المشاركين فما أن تلقى قبولاً من الغالبية حتى يجرى النقاش حولها وتطويرها ومن ثم تنفيذها بالشكل المناسب. وبعض اللوحات كانت تشغل قبل أن ينتهي الكاتب من كتابة نصها، كما حدث مع لوحة "كتير غلبة" التي كتبها باسم وأيمن وتم تصوير معظم مشاهدها قبل التوصل إلى وضع المشهد الأخير الذي وضع بعد جلسة تشاورية بين المؤلفين والمخرج. الكاتبة كوليت بهنا أوضحت: بعض أفكار اللوحات التي نفذت في المسلسل كانت قديمة وبعضها وليد اللحظة، ومنها ما كان يدور في ذهني كخواطر وجدت طريقها إلى العمل. بعض هذه النماذج كان تم تنفيذه في تجربتي المسرحية تخاريف، وحين عرض علي العمل في بقعة ضوء وجدتها فرصة ذهبية لتنفيذ هذه اللوحات تلفزيونياً، لأن من النادر أن نجد من يتبنى مثل هذه الأفكار المكثفة زمنياً، لا شك في أن تجربتي في هذا العمل كانت طريفة وممتعة جداً، ووضعتني أمام مسؤولية كبيرة، وهي محاكاة الذائقة العامة والتواصل مع جمهور عريض متنوع عبر تقديم همومهم ومشاكلهم بأسلوب فني بسيط ساخر وجاد معاً. من جانب آخر قد تنطوي أجواء العمل على شيء من اللعب لكنه اللعب الواعي والمتحرر، إذ أن كل شيء قابل للتجريب وإعادة النظر في صياغته في حال حدث خلاف حوله. وأكد على هذا مخرج العمل الليث حجو بقوله مع أن باسم وأيمن صاحبا فكرة المسلسل، والمعدان له لم يتدخلا بعملي كمخرج، بل أن أيمن المعروف كممثل مشاكس، سلّم نفسه لي تماماً وكان يسألني إذا ما كان يقوم بعمله في شكل جيد، كما انهما - باسم وأيمن - لم يشترطا التمثيل في جميع اللوحات مع أنه من حقهما ذلك، كما يفعل غيرهم من الممثلين النجوم الذين يسيطرون على الأدوار الرئيسية. والجدير بالاحترام حقاً انه على رغم اعتبار أيمن وباسم أن هذا المسلسل لهما شخصياً لم يرفضا أداء أدوار ثانوية وحتى كومبارس، لقد كانا حريصين على نجاح المسلسل ككل. مناخ التعاون الشبابي الذي طغى على الإعداد للعمل وتنفيذه كانت محط أنظار الكثير من الممثلين الشباب الذين تطوعوا للمشاركة بالعمل حباً بمجموعته، من دون السؤال عن الأجور او نوع وحجم الدور. وهناك من الشباب من اعتبر هذا العمل بحد ذاته اختباراً فنياً غنياً جداً، يمكنه من لعب أكثر من 15 شخصية كحد أدنى، وكل شخصية تختلف كلياً عن الأخرى، وقد رفد المسلسل مجموعة من الممثلين تجاوزت ال50 ممثلاً كان بينهم: عبدالمنعم عمايري ورافي وهبه ومحمد خير جراح ونضال سيجري ورنا جمول ومانيا نبواني وشكران مرتجى وسلاف معماري وندين سلامة ورنا ابيض وروعة مخللاتي وباسل خياط ونضال نجم وفادي صبح، إلى جانب نجوم الدراما السورية الذين دخلوا العمل مشجعين مثل: بسام كوسا وأندريه اسكاف وجهاد سعد وليلى جبر ولينا حوارنة ويارا صبري، مع مجموعة من الممثلين المخضرمين مثل: سليم صبري وعبدالرحمن حمود ومها المصري وهدى شعراوي ونجاح العبدالله وبسام لطفي والممثل القدير عمر حجو والد المخرج الليث. ولم يقتصر تشجيع عمر حجو عند حد المشاركة في تمثيل بعض اللوحات بل في كتابة نصوص بعضها أيضاً، إلى جانب مجموعة من الكتاب الذين عملوا وفق رؤى متباينة ومختلفة، فكانت لوحات رافي وهبة تختلف بقضاياها التي ركزت على ما يعانيه الشباب السوري وخصوصاً الممثلين الجدد عن تلك التي تناولتها الكاتبة كوليت بهنا بحسها الأنثوي لمعالجة المشاكل السياسية والإجتماعية وبالأخص مجتمع المثقفين والمبدعين، كما اختلفت عن شفافية ورشاقة لوحات طاهر مامللي لمشاهد شعبية خاطفة ولماحة، بينما توقفت نصوص عمار مصارع وباسم وأيمن وغيرهم عند موضوعات تقارب بعض الظواهر الاجتماعية البائسة والحياتية اليومية عند المهمشين. إن هامش الجرأة الكبير الذي تحرك فيه مسلسل بقعة الضوء كان واضحاً جداً، حيث جاء العمل مطابقاً لاسمه، من حيث التكثيف مع مراعاة البساطة والسلاسة في الطرح من دون تكلف أو افتعال، وهو ما جعل الكثير من المشاهدين السوريين يقارنون بينه وبين أعمال اجتماعية كوميدية أخرى قدمت في الفترة ذاتها، وغالباًَ ما رجحت كفة الشباب الذين توافرت لهم فرصة جيدة بفضل منتج مغامر ومواهب موثوقة لتقديم عملهم وأفكارهم من وجهة نظرهم لا من وجهة نظر الكبار.