ثمة تشوه جوهري منطقي وتاريخي في مقولة "صدام الحضارات"، أو حوارها على هذا النحو الدعائي المفتعل، في آن واحد. ذلك أن كل أشكال الصدام المعروفة، السياسية والاستراتيجية وصولاً الى المستوى العسكري المسلح، لا يمكن ممارستها منطقياً إلا بقرارات سيادية لكيانات سياسية هي الدولة القومية في عالمنا المعاصر. وهو يخلو، واقعياً، من خبرة تكوين مجلس أركان حرب لحضارة ما، سواء الغربية أو الاسلامية أو غيرها. فأقصى ما شهده هذا العالم هو تكوين حلفين عسكريين، الأطلسي ووارسو، ضم كل منهما دولاً تتفق في نزعاتها السياسية ومصالحها الاستراتيجية قبل كل شيء. ذلك أن هذين الحلفين البارزين في خبرة العداء انتميا الى الحضارة الغربية عموماً، على مستوى الرؤية الوجودية والتاريخ الثقافي، ولكنهما تأسسا بإلهام صراع ايديولوجي وفلسفي على مستوى الرؤية الاستراتيجية للعالم السياسي الواقعي. وقام الحلفان بين كتلتين، أولاهما نهضت على الرافد السلافي الارثوذكسي، بينما نشأت الثانية على تحالف الرافدين البروتستانتي الانكلوساكسوني، من ناحية، والكاثوليكي اللاتيني، من ناحية اخرى. وهو صراع تدعم بعامل جغرافي يتعلق بتقسيم داخلي للغرب الأوروبي بين شرق وغرب. فكان الصراع إبان الحرب الباردة بين شرق الغرب، وغرب الغرب، وذلك بعد حربين أوروبيتين ساخنتين سميتا، ظلماً وبإلهام نزعة التمركز الغربي حول الذات، "عالميتين"، وكانتا شهدتا اختلاطاً ايديولوجياً وتداخلاً جغرافياً بين حدود هذا التقسيم. بل ان احد الحلفين كان يضم في عضويته، ولا يزال دولة مسلمة هي تركيا، بغض النظر عن النمط الاسلامي الذي تجسده، وهو أمر لا يمكن تفسيره الا بتوافق نزعاتها الاستراتيجية مع بقية أعضاء الحلف الذين رأوا فيها صديقاً مؤيداً بينما رأوا في روسيا الارثوذكسية عدواً داهماً. وإذا كان صدام الحضارات على هذا النحو غير المتصور منطقياً، ولا متحقق تاريخياً في عالمنا الحديث، فإن الحوار بين الحضارات هو الآخر لا يمكن تصور حدوثه، منطقياً، على هذا النحو الدعائي الذي فرض نفسه علينا في شكل حمى دعاوى وخطابات ونداءات للغرب، منذ أحداث أيلول سبتمبر الاميركية، كانت ذروتها المؤتمر الذي عقدته الجامعة العربية في القاهرة أخيراً. وذلك على رغم كونه أمراً قائماً فعلاً ومتحققاً تاريخياً عبر صيغ متعاقبة لنماذج فكرية، وتكوينات سياسة هي مدارات التفاعل والحوار بين كل حضارة تسعى الى تأكيد وجودها عبر توليف دقيق بين ما تعتبره هو ذاتها، وبين ما تراه جيداً وحسناً لدى الآخر، في نزعة توفيقية جدلية لم تتوقف منذ فجر التاريخ. فمن حكمة مصر والشرق الأدنى القديم، الاخلاقية والروحية والعلمية، تغذت العقلية اليونانية لتفرز نظاماً نظرياً متكاملاً للحكمة الفلسفية استطاعت مصر البطلمية، ثم الرومانية من خلال المدرسة السكندرية، اعادة توظيفه عبر الافلوطينية والافلاطونية الجديدة لمصلحة الايمان المسيحي، في اطار سعيها الرائد الى التوفيق بينه وبين العقل. كما استطاعت الحضارة العربية الاسلامية استيعابه واخضاعه لإلهام العقيدة الاسلامية في "التوحيد المطلق". حتى كان العصر الحديث الذي شهد الحوار بين العقلية الأوروبية المناهضة وبين التراث العلمي والفكري للعقل العربي، سواء ما يمثل ماهيته أو ما يمثل قراءته للتراث اليوناني. أي ان كلتا الحضارتين الكبيرتين حاورت الأخرى فعلاً عبر الدورة التاريخية المعروفة، وبحسب قدرة كل منهما على صوغ نموذجها الجذاب أو الفاعل الذي يدعو الأخرى الى أن تحتذيه أو تقتبس منه على قدر حاجتها أو قدرتها. وحتى اليوم فهذا الحوار مستمر لم يتوقف، على الأقل من جانبنا. ونراه متجسداً في ذلك الاطار الواسع الذي احتضن محاولات وطروحات النهضة العربية الثانية، منذ مطالع القرن التاسع عشر، وتبلورت بإلهامه تيارات وخطابات النهضة العربية الثلاث ةالأساسية التي تكاد تشمل حيز الفكر العربي المعاصر كله، وهي الأصالة والمعاصرة والتوفيق. إذ ليس كل تيار منها سوى موقف داخل هذا الحوار الواسع ينتهج إما رفض الآخر والتعويل على مقومات الذات وحدها، في تاريخيتها ولو البعيدة لإدراك النهضة" وإما قبوله الكلي الشامل بلا شروط تقريباً قصداً لإنجاز تحديث سريع ربما لا يحتسب لتبعاته على الشخصية الحضارية العربية" وإما بين هذا وذاك قبولاً انتقائياً للآخر يتأسس على تحليله، واستعارة مقوماته الايجابية لدعم الذات العربية من دون اهدار خصوصيتها. أليست تلك الخطابات النهضوية، والتيارات الفكرية هي نفسها الحوار الحقيقي مع الغرب منذ قرنين على الأقل؟ وأليست المناسبة 11 أيلول التي فجرت مثل هذا الجدل النظري حول صدام الحضارات أو حوارها هي نفسها المنتج السياسي للتيار الثقافي الأول الأصالة في أقصى جموحاته، والذي لا يدرك الغرب الا شيطاناً يتآمر علينا أو الذي يتمرد في الوقت نفسه على كل المنظومة السياسية العربية التي تشكلت في القرن العشرين وقادت مجتمعاتها ودولها الوطنية في الغالب بإلهام مقولات التيار التوفيقي العربي، إن صدقاً أو ادعاء، تمثلاً أو تلفيقاً؟ ثم أليست هناك بقايا رافد نحيل ومتراجع لتيار المعاصرة الذي كان أوائل القرن الماضي يحبذ حضور الغرب السافر في واقعنا، حتى انه كان ولا يزال يتغنى به بيننا، ممتدحاً انجازاته، من دون توقف يذكر عند خطاياه على نحو يجعله ملكياً أكثر من الملك نفسه، وهو يحتوي اليوم تيارات نقدية مهمة لتياره الأساس وفي كل الاتجاهات؟ فإذا كانت الاجابة بنعم، ونحسبها كذلك، فإن السؤال المهم هو: اذا كان الحوار قائماً فعلاً فلماذا تحول حديث الصدام الى النغمة الأساسية في كتلة الوعي الغربي لا يكاد يفلت منها سوى عقلاء الغرب المحدودين بدوائر ثقافية رفيعة أو سياسية نزيهة؟ ولا يمكن الجواب أن يبعد كثيراً من أربعة دوافع اساسية تحكم العقل الغربي. أولها نزة التمركز المؤكِّدة طهرانية الذات في مقابل تدني الآخر الذي يسهل اتهامه بكل نقيصة، بغض النظر عن سياقاتها وملابساتها" وثانيها آلية التنميط المهيمنة على العقل العام والتي لا تميز في الثقافة العربية الاسلامية تياراتها المتباينة ومواقفها المتناقضة" وثالثها الانتقائية التي تربط كلية الثقافة العربية بأعنف تياراتها والمجتمعات العربية بأفقر تجسداتها" ورابعها الاختزالية التي تدرك حقب التنافس التاريخي - وهي موجودة فعلاً - باعتبارها تناقضات حتمية غير مبررة بملابساتها، ومن ثم فهي غير قابلة للتجاوز على شتى مستوياتها. ونحن نعتقد إمكان تغيير هذه الحال العقلية عبر ندوات تعقد، أو مؤتمرات تقام تحت عنوان "حوار الحضارات" لأنها حال مزاج ثقافي لا تتغير الا ببطء شديد، وعبر تعديل تدريجي في الادراك الفكري الغربي لا بد من أن يوازيه، بل يسبقه تحسن تدريجي في النموذج العربي الثقافي والسياسي السائد اليوم نحو مزيد من الفاعلية والجاذبية. وهو منطق التثاقف والتفاعل الطبيعي. ثم يجب على الفعل العربي الابتعاد بهذه الجهود المبذولة من مسمى "حوار حضاري" في اتجاه تصورها ك"حوار استراتيجي"، ويتم عبرها توجيه رسائل مباشرة الى مسؤولي الغرب وحكوماته المؤثرة، يمكن من خلالها وضع خطوط عامة لسلوكها السياسي في المنطقة العربية. فلا يعتبرها الغرب مصدر عداء استراتيجياً، ويحدد بإصرار ودأب حدود الممكن والمسموح به لهذا السلوك حتى لا يضر أمنها. فهذه الجهود الأقرب الى وصف "حوار استراتيجي" قد يكون في مقدورها ايقاف حركية ما يسمى "بالتنبؤ المحقق لذاته"، وهي حركية جهنمية تثيرها هواجس طبيعية، أو مخططة، وتسندها ردود أفعال سلبية متضادة، وتدور في فلك رغبات الثأر المتأججة لتصل بالجميع الى حال الصدام الفعلي الذي لم يكن مبرراً بحقائق واقعية، وانما بمحض هواجس وخيالات. وعلى رغم أهمية هذا الهدف في ذاته، عملياً وسياسياً، فيما لو قررت الولاياتالمتحدة مثلاً ضرب العراق كما تحاول التلميح اليوم أو غداً بدعوى مواجهة الارهاب، إلا أنه يختلف تماماً عما يمكن تسميته ب"حوار حضاري"، والذي يتم عبر آليات ودورات ومنطق جميعها مختلف في كونه لا يدور في الغرف المغلقة، حتى ولو تجاذبته الشاشات الفضية اللامعة. * كاتب مصري.