مثلما أثارت جماعة "إضاءة" ضجة وقت ظهورها في الساحة الثقافية المصرية أواسط السبعينات، تثير عودة مجلتها التي تحمل الاسم ذاته بعد ربع قرن تقريباً من النشأة الأولى ضجة ولكن بين مؤسسيها هذه المرة. عودة "إضاءة" إلى النور من جديد، تتواكب مع مؤتمر دعا إليه الشاعر حلمي سالم. ويعقد خارج الأطر الرسمية وبعيداً عن المؤسسة الثقافية المصرية وشروطها، كما صرح المنظمون، الذين وجهوا الدعوة الى عشرات الشعراء العرب الذين سيتحملون نفقات السفر، فيما يتكفل المنظمون الإقامة والإعاشة، وهي تجربة وإن كانت لها سوابق في المغرب العربي، إلا أنها الأولى في مصر، مما يجعل كثيراً من المثقفين متوجسين من إمكانات نجاحها. المؤتمر الشعري المزمع عقده أواخر العام الجاري، الى جانب عودة "إضاءة" الى الصدور، أثار استياء بعض من مؤسسي الجماعة القديمة، الذين رأوا في سلوك زملائهم "تزييفاً للتاريخ وتشويهاً للتجربة القديمة وسط أجيال لم تعايشها". والانقسام شمل من يقفون في الجانب ذاته بين المؤسسين الأربعة: رفعت سلام وحسن طلب وحلمي سالم وجمال القصاص، إذ يعبر رفعت سلام عن أقصى حالات الرفض، معيباً على سالم والقصاص إعادة إصدارهم لمجلة تحمل الاسم ذاته.. "فالتجربة لا تخصهم وحدهم، ومادام الآخرون ليسوا معهم، فليس من حقهم استغلال جهد جماعي قام به الآخرون لصالحهم". ولا يسلم طلب الذي يقف معه الموقف ذاته الرافض للمؤتمر ولإعادة إصدار "إضاءة"، من نقد سلام، فالأخير يعتبره جزءاً من المؤسسة الثقافية الرسمية، إذ يشغل طلب منصب نائب رئيس تحرير مجلة "إبداع" التي تصدر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب.. "ويقوم بحكم موقعه بحذف وتعديل قصائد بعض الشعراء، ناهيك عن المنع، وهذا يعني سلطة ما، فيما كنا في بواكير حياتنا ضد السلطة وبالذات سلطة المنع". ومن جانبه، لا يرى طلب اي غضاضة في التعاطي مع المؤسسة الثقافية الرسمية الآن، "فالمؤسسة تدعي أنها تغيرت ونحن نتشبث بهذا الإدعاء". قبل الولوج في طبيعة الانقسامات الحالية بين الأعضاء المؤسسين للجماعة، نشير إلى حالة الاستهجان التي قوبلت بها حال ظهورها في العام 9771، فقد وصف الناقد رجاء النقاش ما جاء في عدد "إضاءة" الأول بأنه "صفعة في وجه الرأي العام"، واعتبر أن ما يكتبونه جنس ثالث بين الشعر والنثر. وهو كلام ملفق "لا يمكن أن يصل إلى الناس، سواء كان هؤلاء الناس من البسطاء أو من كبار المثقفين". ورأى فيها الناقد عزالدين اسماعيل "حركة تضخمت فجأة في غيبة النقد وفي خلو الساحة من الشعراء الكبار". واعتبر الناقد اليساري ابراهيم فتحي نتاجهم "تجارب لغوية ووسائل توصيل بلا شيء ... وموضوعاتهم الشعرية مستمدة من بضائع الاستهلاك الإعلامية". وقال عنهم عبدالقادر القط: "هذه الفئة تنفر مما يحبه الناس، لأنهم يعتقدون أن هذا تخلف، ويحاولون أن يفرضوا شكلاً جامداً للشعر"، فيما يعتبرهم حامد أبو أحمد "عالة على شعر الحداثة". وكان عبدالمنعم تليمة هو الناقد الوحيد الذي ساند تجربة إضاءة في بداياتها، وهي مساندة "ما زلنا نثمن آثارها الإيجابية حتى اليوم"، كما يقول رفعت سلام. نشير أيضاً الى أن العدد الأول من "إضاءة" حمل ما يشبه "المانفستو" لوجهات نظر الجماعة في الشعر والفن عموماً، وصدر، كما هو الحال بالنسبة للأعداد الثلاثة عشر التالية حتى التوقف، على نفقة الأعضاء، وبين الأفكار التي حملها "المانفستو": "أن الجمهور ليس معياراً للحكم على القصيدة، وأن الغموض ليس عيباً فيها، وليس سبة أو تهمة تلقى في وجه الشعر، وأن مسؤولية الشاعر الارتقاء باللغة، وأن يقدم قصيدته من خلال بناء لغوى، أي الارتكاز على عروبية الأدب وشعرية الشعر". وأدت هذه الأفكار الى اصطدام مؤسسي الجماعة بالتيارين السائدين آنذاك: "التقليدي والتقدمي، على الرغم من أن رفعت سلام وحلمي سالم بالذات، كانا محسوبين على التيار التقدمي ، لمساهمتهما في الحركة الطلابية المصرية في العام 1972. لكن التيار التقدمي اكتفى منهما بأفكارهما السياسية، واختلف معهما في النظرة الى الفن". أفكار الجماعة تلك، والتي كانت صادمة للأفكار السائدة آنذاك، فضلاً عن نصوص ممثليها التجريبية، أغلقت أمامهم منافذ النشر المصرية، فيما رحبت المنافذ العربية - لأسباب مختلفة - بإنتاجهم، ويعتقد مؤسسو "إضاءة"، أن مجلتهم كانت متكئاً لظهور تجربة شعرية جديدة، أو بتعبير رفعت سلام: كانت حجراً ألقي في بحيرة راكدة، فصنع من الدوامات ما سهل ظهور أشياء أخرى جديدة غير متوقعة. والآن، صار ممثلو "إضاءة" ملء السمع والبصر، ترحب بهم منابر النشر الرسمية وغير الرسمية، في مصر والوطن العربي، ولا تكاد أمسية شعرية تعقد في بلد عربي تخلو من واحد من هذه الأسماء: حلمي سالم، رفعت سلام، حسن طلب، جمال القصاص، أمجد ريان، عبدالمنعم رمضان، ماجد يوسف. لماذا الانقسام الآن؟ لماذا الانقسام الآن بين صفوف الجماعة؟ هل مازالت الجماعة وفية للأفكار ذاتها التي قامت عليها؟ هل من ضرورة لظهور "إضاءة" من جديد بعد ربع قرن تقريبا من النشأة؟ وهل ما زال نتاجها الأدبي الآن هو "النقيض" كما كان في البدايات، أم صار هو المستقر وما دونه هو النقيض؟. الاعتراض الجوهري على بزوغ "إضاءة" من جديد - كما يرى رفعت سلام - هو الموقف من المؤسسة الرسمية، يقول: "هذه المؤسسة تبحث عما هو تقليدي في الكتابة، وفي الافكار، وبهذا لم نجد لنا مكانا فيها، وكان هذا هو حافزنا لإصدار منبرنا الخاص على رغم كل الصعوبات. هذه الفكرة الأساسية غير متحققة الآن، حلمي سالم عضو في مؤسسة غير حكومية حزب التجمع ومدير تحرير مجلة أدبية تصدر عنه أدب ونقد وهو في الوقت نفسه، عضو في لجنة الشعر الحكومية التابعة للمجلس الأعلى للثقافة. وعندما صدرت "إضاءة" من جديد، سعى إلى صندوق التنمية الثقافية للحصول على تمويل، على رغم أن امكانات الأعضاء الحالية، أفضل بما لا يقاس بما كنا عليه قبل عشرين عاما". كما أن حسن طلب هو نائب رئيس تحرير "إبداع"، وهو يقوم بحذف وتعديل ومنع قصائد لبعض الشعراء، أي أنه تحول الى رقيب رسمي، وهذا أمر طبيعي، لأنك حين تتعامل مع المؤسسة، غير مسموح لك بتجاوز الخطوط الحمراء التي تحددها، والتي تشمل القيم العامة للمجتمع والأشكال الفنية المستقرة والمعايير النقدية المعترف بها. ويضيف سلام: "أشعر أن من أصدروا "إضاءة" الجديدة أناس شاخوا ودخلوا طور الحكمة، وبعض المشاركين، هم ممن كنا نعتبرهم تقليديين، وبعضهم ممن هاجم تجربة إضاءة الأولى وشعر السبعينات عموماً. وظني أن بعض هؤلاء يشعر أن قصيدته أعجز من أن تغرس ذاتها في الواقع الشعري، فيبحثون عن عباءة يتساندون في ظلها". ويتعجب سلام من الدعوة إلى مؤتمر شعري مستقل عن المؤسسة الرسمية. "بعد ما أخذوا دعماً من صندوق التنمية الثقافية لإصدار مجلتهم، وهو دعم بلغ آلاف الجنيهات، فضلاً عن أنهم آخذوا دعماً من شعراء لنشر قصائدهم، فكيف يتحدثون بعد ذلك عن الاستقلال". "من ناحية ثانية - يضيف سلام - انهم يرفعون شعار الشعر النقيض، وهم ينشرون في كل المنابر ويشاركون في كل الندوات والمهرجانات الشعرية، أي أن شعرهم مقبول من كل المؤسسات، انهم يمثلون الآن الواقع الشعري العربي، فأي نقيض يتحدثون عنه؟". وعن الموقف من المؤسسة، وهي التهمة الأساسية التي يلقيها رفعت سلام في وجه زملائه من مؤسسي "إضاءة" يقول حسن طلب وهو بدوره يرفض تجربة "إضاءة" الجديدة: "كانت المؤسسة الثقافية في السبعينات مضادة لحركة التجديد عموما، كانت ضد كل الانجازات التي تحققت في الحقل الثقافي والفكري والنهضوي. كان هناك إلحاح على اقحام الدين في شؤون ادبية وثقافية لإلغاء أكثر من قرن ونصف القرن من النهضة عموماً، وأكثر من ربع قرن في مجال تجديد الشعر، وفي هذا المناخ لم يكن ممكناً التعامل مع الأجهزة الثقافية ما دامت تتبنى وجهات النظر هذه، ولكن لا بد من البحث عن منابر خاصة لأنه من المستحيل أن تضع قصيدتك في سياق ينفيها ويعاديها. وهكذا ظهرت جماعة "إضاءة" وكانت استجابة لواقع تغير خصوصاً مع توجهات التصالح مع إسرائيل والتطبيع. أما الآن، فإن المؤسسة تدعي أنها تغيرت، دعنا من حقيقة هذا التغيير. المؤسسة تقول إنها تريد نهضة وتنويراً ومواكبة للقرن المقبل. ونحن نتشبث بهذا الإدعاء الذي قد نكتشف زيفه في بعض المواقف. وتكون النتيجة هي الصدام الذي يحتم علينا اتخاذ مواقف نحرص على ألا تصل إلى حد القطيعة حتى لا نخسر هذا الهامش الضئيل وتترك الفرصة لآخرين يعبثون به كيفما شاءوا". لكن طلب بعدما يبين وجهة نظره في التعاطي مع المؤسسة الثقافية الرسمية، يعود الى الاتفاق مع ما ذهب إليه رفعت سلام من أن لا ضرورة لظهور "إضاءة" من جديد، يقول: "كانت المخاطر التي واجهتنا في البدايات، هي التي دفعتنا للتوحد والبحث عن معيار مشترك بيننا، ومحاولاتنا للتجاوز الفني والسياسي وغيره، لم تكن تلقي قبولاً. الآن نحن ننشر في كل المطبوعات - حتى تلك ذات الطابع الرسمي - من دون أن تواجه تجاوزاتنا أي عنت، فلماذا الحاجة إلى مطبوعة جديدة تلعب هذا الدور". ويشير طلب الى أن "البحث الآن ليس عن المتفق عليه والمشترك بين الجماعة، البحث الآن هو عن التميز والفرادة، وهو لا يتحقق من خلال الجماعة". من جهته، ينفي جمال القصاص أن تكون "إضاءة"، الجديدة امتداداً للتجربة القديمة، التي صارت برأيه تاريخاً، لكنه يرى المبرر قائماً لصدور مجلة جديدة تحمل اسم "إضاءة" بعدما نضج المؤسسون وصاروا أكثر خبرة. أما مسألة التعامل مع المؤسسة، فلا يراها القصاص شبهة، فالمؤسسة ملك الناس والاستفادة من إمكاناتها ليس شبهة أو جريمة، كما أن القضايا والاشكاليات التي طرحتها "إضاءة" حين صدرت قبل أكثر من عشرين عاما، مازالت مطروحة وربما أقوى من ذي قبل. أما حلمي سالم الذي يتبنى تجربة "إضاءة" الجديدة والدعوة الى المؤتمر الشعري، فيرد على المعترضين بأن الاسباب التي استدعت ظهور إضاءة في أواسط السبعينات، ما زالت قائمة وزيادة. ويوضح: "قلنا في العدد الأول أننا نصدر لأسباب فكرية، تأكيداً للتعدد والتنوع والاختلاف، ولأسباب عملية تتعلق بحصار النشر المفروض علينا، ولأسباب جمالية تتصل ببلورة تيار جمالي في الكتابة الشعرية. هذه الأسباب ما زالت قائمة. فتأكيد الاستقلال عن الأجهزة الرسمية، وتحقيق التنوع، هما من الأمور التي ما زالت مطروحة في المجتمع المصري كله وليس في مجال الشعر فقط، وأظن أن استئناف صدورنا بعدما صرنا ضمن مؤسسات، دليل أكيد على رغبتنا في الاستقلال ورفض التبعية وليس العكس. لكني أتصور أن فكرة هجرة المؤسسات والجلوس في الشارع فكرة عدمية.. "الشخص اللي ماشي في الشارع ماشي في شارع الحكومة"، الخروج عن المؤسسة ترف لا نملكه، والمهم أن تكون استراتيجيتك الأصلية هي الاستقلال والتمايز. ويضيف حلمي سالم: "لسنا دعاة مؤسسات لسنا متنا، نحن هامش وسنظل هكذا". ويدافع حلمي سالم عن قبوله دعماً من صندوق التنمية الثقافية: "هذه أموال المصريين لا أموال الصندوق، ومهمة الصندوق أن يدعم الانشطة الثقافية من هذا النوع، المهم أن هذا الدعم ليس مشروطاً". ويرى سالم أن كسر حصار النشر، وهو أحد أفكار "إضاءة 77" الأساسية ما زال مطروحاً، فكل المجلات، حتى تلك التي نعمل بها لا تمثلنا تماماً، نحن لا نعاني حصاراً الآن كما كان الحال في السابق، لكن بحثنا عن منبرنا المستقل أمر مهم". أما بالنسبة للاحتياج الجمالي، فيقول سالم، انه مطروح بقوة، خصوصاً بعد ما نضجنا وزادت خبراتنا وتنوعت تجاربنا، كنا نظن قبل عشرين عاماً أن الشعر الجيد هو ما نكتبه نحن، لكن التجربة وسعت مداركنا لنستقبل ما يكتبه الآخرون بغير ضيق وبغير فاشية وبغير عصبوية. ويضيف حلمي سالم إلى الاعتبارات السابقة: "الآن يقف خلفنا جيلان من الشعراء ولدينا مسؤولية تجاههم، ومن واجبنا أن نوفر لهم منبراً حراً. هذا ما قلناه في العدد الأول، قلنا إننا نطمح أن تصبح "إضاءة" نهرا كبيرا يحتضن الكتابة الجديدة. من ناحية ثانية، نحن نسعى الى تحويل السجال الفارع حول الشعر الى جدل مفيد ومحترم". وعن الانتظام ضمن جماعة وتأثير ذلك على فرادة الشاعر، وهو ما أشار اليه حسن طلب - يقول حلمي سالم: "إن تكون وحيداً فهذا لا يصنع منك شاعراً متفرداً، وأن تكون عضواً في جماعة، فلن يلغي ذلك تفردك". وأخيراً يدافع حلمي سالم عن مؤتمره الذي سيعقد في أواخر تشرين الأول أكتوبر المقبل، مشيراً الى أن "المؤتمر يؤكد فكرة بسيطة مؤداها، أن بالإمكان تحقيق الأفكار التي تتبناها المؤسسة من دون اللجوء إليها، وبطريقة أفضل، إنها فكرة العمل الأهلي والمجتمع المدني، من دون أن يعني ذلك أننا سنهجر المؤسسة.