هل تزمع مؤسسة الدولة في الولاياتالمتحدة الاميركية على العودة الى الإمساك بناصية العلم ومشاريعه، على غرار عودتها الى التدخل في التجارة وانتقال الأموال وأمن المطارات والرقابة على الانترنت والتنصّت على الاتصالات وغيرها؟ هذا ما تنم عنه بعض المبادرات الرئاسية، خصوصاً الاجتماع الذي عقد اخيراً بين مجموعة كبيرة من علماء الجامعات الأميركية من جهة، ومسؤولين في الاستخبارات الاميركية و"مكتب التحقيقات الفيدرالي" ومستشار الرئيس لشؤون العلوم د. جون ماربرغ ود. لويس برانسكومب، وهو فيزيائي من جامعة هارفارد اسندت اليه مهمات التنسيق بين الجامعات وأجهزة الدولة. وتداول المجتمعون في الطرق العلمية لمواجهة هجمة الأنثراكس وسبل حماية الانترنت والاتصالات والمشاريع العسكرية والعلمية الكبرى في الولاياتالمتحدة. واختيرت هذه الأمور نموذجاً لشكل التعاون الممكن بين خمسة آلاف عالم جامعي ومجموعة اخرى من المرجعيات العلمية البارزة في البلاد، وبين مؤسسات الدولة. ونتيجة لهذا الاجتماع، اتفق على انشاء هيئة تنسيق بين الجسم العلمي الأميركي، وأجهزة الدولة، خصوصاً في شؤون الأمن والدفاع. ورفعت مجموعة من كبريات صحف أميركا الحواجب تعجباً من هذه الخطوة، ولم تتردد صحيفة من وزن "نيويورك تايمز" في وصف هذه الأجواء بأنها "تذكّر بأيام الحرب الباردة"، حين كان العلم جبهة اساسية في الصراع الهائل بين أميركا والاتحاد السوفياتي السابق. قبل اشهر قليلة لم تكن هذه الأمور سوى ضرب من الأوهام، فمسار العولمة في الدولة الأميركية رافقته خصخصة جذرية وتقليص مستمر لسلطة الحكومة ومؤسساتها، خصوصاً منذ رئاسة رونالد ريغان وإدارته الجمهورية التي دأبت على سحب الدولة من الاقتصاد والمجتمع لإتاحة المجال امام انطلاق متطرف لرأس المال. ويبدو ان ضربة 11 ايلول سبتمبر غيّرت مسار العولمة بقوة، وانطلاقاً من الدولة التي تقود مسار العولمة على امتداد الأرض. ما لم توحِ به الانتخابات! وفي وقت غير بعيد، رافق وصول الرئيس بوش الى البيت الأبيض خوف بعض اوساط العلم من مفكرته الانتخابية المعلنة، خصوصاً في الانفاق على العلوم. وسرعان ما وجد هذا الخوف ما يبرره، إذ أظهرت ارقام الموازنة للعام 2001 انخفاضاً ملحوظاً في الإنفاق على الأبحاث العلمية في المجالات كافة، ما عدا الطب. وفي موازنة تبلغ 97،9 بليون دولار، أحسّت وكالة "ناسا" لعلوم الفضاء انها لن تجد تمويلاً لمشروع "بلوتو" المكرّس للتدقيق في النيازك، وأنها ستضطر الى خفض مساهمتها في محطة الفضاء الدولية. وانطلاقاً من تأييده كارتلات النفط الكبرى، خفض بوش موازنة ابحاث الطاقة بنسبة 4،5 في المئة فصارت 44،7 بليون دولار. ولم تحظ الوكالة الفيديرالية للعلوم سوى ب23،3 بليون دولار، ما يعني انخفاضاً مقداره 65،1 في المئة. وانسجاماً مع موقف مؤيد لمصالح الشركات العملاقة في الزراعة، مثل شركة "مونسانتو"، خفضت موازنة الأبحاث الزراعية 83،1 بليون دولار بنسبة 2،10 في المئة، وهو اكبر خفض مفرد في الموازنة العلمية. وانسجاماً مع انسحاب بوش من ميثاق كيوتو، خفض تمويل ابحاث حماية البيئة 57،0 بليون دولار والجيولوجيا 59،0 بليون دولار بنحو 5،6 في المئة لكل منهما. وعلى سبيل المقارنة، فإن موازنة الدفاع ارتفعت الى 86،45 بليون دولار، أي بزيادة مقدارها 5،8 في المئة. وتذكّر هذه الأمور بتراجع الرئيس عن وعوده الانتخابية وتأييده ابحاث خلايا المنشأ STEM CELLS، بعد وعود انتخابية بكبحها. والأرجح انه خشي ان يفوت اميركا الفوز بقصب السبق في الهيمنة على اقتصاد البيولوجيا، الذي يعتقد انه سيكون العنصر الأهم في القرن الحادي والعشرين. وذلك يحتاج الى نقاش آخر.