تستطيع أن تشاهد علامات الزمن على وجه روبرت ردفورد الآن. في "القلعة الأخيرة" الذي أخرجه رود لوري عن كتابة لديفيد سكاربا وغراهام يوست، يؤدي ردفورد دور جنرال عسكري حكم عليه بالسجن ونقل الى سجن عسكري يٌسمى ب "القلعة". اللقطات الأولى له بعيدة وأول لقطة نصفية للممثل الذي كان بدأ مغازلة الكاميرا والمعجبات خلفها سنة 1961 ولد في العام 1936 تفاجئنا بكم كبر هذا الممثل شكلاً. ولاحقاً، حين يُمنح الممثل مساحته القيادية لإدارة الأحداث، تدرك أنه لم يتقدم كثيراً على صعيد تقنيات التمثيل عما كان عليه في الستينات والسبعينات. هذا يعني اما أنه ولد كبيراً وبقي كما هو، او أنه ولد صغيراً وبقي على ما هو عليه. الجواب قد تحمله طيّات القراءة التالية. "القلعة الأخيرة" يقدم لنا الجنرال يوجين أروين ردفورد الذي حارب في صفوف الجيش الأميركي من فيتنام الى الخليج العربي، مروراً بالبوسنة وبوروندي. وفي الأخيرة خرج عن طاعة القيادة عن عمد وإصرار ليست هناك من مشاهد في هذا الصدد بل نفهم ذلك من حوار مبتسر حول الظروف وأدى ذلك الى مقتل الكثير من أفراد فيلقه. النتيجة انه أرسل الى السجن العسكري الذي، كما اي سجن آخر، يضم مئات المساجين المتهمين بجرائم مختلفة. مدير السجن هو الكولونيل وينتر جيمس غاندولفيني الذي يسأل الجنرال في تلك اللقطة المتوسطة عما يتوقع أن يفعله خلال سنوات سجنه العشر. يرد أروين قائلاً: "لا شيء. سأمضيها وأعود الى بيتي". يبتسم الكولونيل لأنه سمع ما يريد، فهو - كما ستبرهن الأحداث - لا يتحمل أحداً يخرج عن طوعه او يزاحمه في اصدار القرارات. في هذا اللقاء يحذر الكولونيل الجنرال بأنه فقد رتبته حال دخوله السجن، لذلك ليس مسموحاً لأحد أن يحييه التحية العسكرية التقليدية. سرعان ما يتبدى ذلك على أنه عنصر في السيناريو لدفع الأمور صوب الأزمة، فأحد الجنود يصر على تحية أروين وهذا يحاول تعليم الجندي الطريقة الصحيحة لرفع اليد الى مستوى الرأس وإلقاء التحية. يقول له ان أصلها يعود الى أيام كان الجنود يرتدون خوذاً فوق الرؤوس فكانوا يرفعون مقدمتها لكي يروا ضباطهم عند الحديث اليهم. شكراً للمعلومة التي تعكس مدى إلمام الجنرال اروين بالتاريخ. لكن الكولونيل وينتر لا يحب المشهد الذي يراه من غرفته ذات النافذة الكبيرة. يوحي الى ضابطه بأن يعاقب الجندي بالوقوف تحت المطر ليوم وليلة رافعاً يده في تحية مفروضة. طبعاً المطر لا ينهمر طوال الفيلم الا في تلك الليلة وذلك زيادة في التأثير المأمول. حين يتدخل اروين لمصلحة الجندي، يأمره وينتر بأن ينقل مجموعة كبيرة من الأحجار الثقيلة من نقطة الى أخرى. حين يفعل بعد نهار كامل وقف فيه بقية الجنود يراهنون على سقوطه من الإعياء، يأمره بأن يعيدها الى حيث كانت، وبذلك يمضي يوم آخر. هذا من بين أسباب أخرى تدفع اروين، الذي كان وعد بألا يفعل شيئاً يثير غضب وينتر، لتنظيم خطة الاستيلاء على القلعة وإقصاء حاكمها وينتر. هناك شخصية سجين يطلب منه وينتر التجسس لحسابه، لكنه في اللحظات الأخرى يقرر أن ينضم الى المتمردين الذين ينطلقون لتنفيذ مهمات محددة تبعاً لإدارة اروين لمسرح العمليات. بحسب تلك المهمات، تبنى مقالع متى؟ كيف؟ تستخدم فيها تلك الحجارة التي تلعب أكثر من دور في هذا الفيلم. اروين وضع كل الاحتمالات، وأرسل الحجارة عالية لتخترق الغرفة التي يتخذها وينتر للمراقبة او لضرب الحراس الذين كانوا يطلقون النار على المتمردين. الى جانب الحجارة يستخدم وجنوده الملتفون حوله النار والماء والسلاسل الغليظة. هذه الأخيرة تلعب الدور الأساس في تحطيم طائرة مروحية ارسلت لتقويض التمرد في ما بدا واضحاً انه صراع على السلطة بين مدير السجن الفاشي والسادي الذي ينتمي الى العقلية قديمة، وبين المساجين برئاسة اروين الأقدر على المناورة وفنون القتال. مقلوباً ام لا!؟ ثم هناك العلم الأميركي.... في مطلع الفيلم نشاهده يرفرف. في الفيلم يبغي الجنرال اروين رفعه على الناصية مقلوباً. في التقاليد العسكرية رفعه مقلوباً يعني أن هناك حالة يأس وقنوط بين العسكريين. أمر يعارضه طبعاً مدير السجن لأنه يرى أن اروين انما يريد السيطرة الإدارية وفرض الكلمة، وهذا ما لا يقبل به. بين أن يرفع اروين العلم مقلوباً او لا يرفعه بالمرة، ينشغل الفيلم ومشاهدوه بعض الوقت. في النهاية، عندما يحين الوقت لمراقبة ماذا سيفعل اروين وقد حوصر بالجنود وأمر بالتوقف عن المحاولة، تدرك أن هناك حالة من العناد عند مختلف الفرقاء. لن نحاول هنا سرد تفاصيل النهاية، الا أن علينا الإشارة الى أن رفع العلم انما جاء ليسحب من المشاهدين، بعد كل هذه المعاناة، الحماسة الوطنية التي يحاول الفيلم تجسيدها من خلال توزيع أطراف صراعه. في مثل هذه الظروف التي تمر بها الولاياتالمتحدة، حيث هناك حرب جديدة تدخلها، فإن الفيلم يصبح أكثر من سارد لحكاية صراع. انه دعاية وتأييد! في طيات هذا الصراع منهجان. جيمس غاندولفيني، وهو وجه تلفزيوني بارز في مسلسل مافيوي بعنوان "عائلة سوبرانو"، يمثل تقاليد عسكرية نظامية يمينية صارمة، والجنرال يوجين اروين ردفورد يمثل تقاليد مواجهة، أكثر تحرراً وليبرالية واحتراماً للإنسان. وليس المطلوب ان يدخل المشاهد ومعه بوصلة لكي يستدل على الاتجاه الذي يحاول الفيلم أن يشدّه اليه. هذا واضح من مجرد الاستعانة بردفورد، الذي طالما عبّر عن الموقف الليبرالي اليساري في اميركا، لكي يؤدي دور الجنرال العسكري ذي الخبرة. على رغم ذلك، نجد أن ردفورد قد يمثّل الموقف الذي طالما انتمى اليه بنجاح، لكن من الصعب عليه أن يجسّد شخصية الرجل القوي الذي يستطيع أن يقنعنا بالمهمات الملقاة عليه. مشهد حمل الحجارة مفبرك من أساسه، فالعين تستطيع أن تدرك أن رجلاً في مثل سن ردفورد وبلا عضلات شوارزنيغر لن يكون قادراً على تمضية اليوم بكامله وهو ينقل الحجارة الثقيلة ذهاباً وإياباً. القوة الداخلية، التي يمكن تسميتها بالعناد او الإصرار، مقبولة أكثر في هذا الشأن، لكن البعد الثالث للمشهد ولباقي الفيلم - ذلك الذي يجعل لزاماً على ردفورد تشخيص صورة الرجل الخشن المناسب لمهمة القيادة بأسرها يفتقد الدلالات والحجج. الفيلم يفترض فقط قبولنا بردفورد في مثل هذا الوضع، لكن ردفورد ينجح أكثر عندما يلعب شخصية مدير سجن يريد محاربة الفساد الذي في سجنه، كما فعل في فيلم "بروباكر" لستيوارت روزنبرغ 1980 اذ لا تتطلب شخصية مدير السجن مزج رموز القوى الشخصية، جسدية وفكرية وسياسية، في مظهر واحد. ضمن الطرح السياسي للموضوع، فإن الفيلم يسير على تقليد ثابت: مواجهة بين عقليتين كنا شاهدناهما في أفلام عسكرية عدة، وفي أفلام تدور أحداثها في السجون المدنية. ادارة السجن فاشية/ سادية ظالمة، والسجناء مساكين مضطهدون بمن فيهم القتلة والمغتصبون. الفارق هو أنه في الفيلم العسكري يحاول المخرج رود لوري الخروج بخط وطني يصوّر فيه ان اميركا الجديدة خط كلينتون أفضل من اميركا المحافظة خط بوش. بما أن الفيلم صنع قبل الحرب الحالية، فإن ذلك يضعه مباشرة في تناقض، ذلك أن خط بوش هو الذي يحشد معظم الأميركيين وراءه هذه الأيام وهو من تتوجه اليه النهاية العاطفية المتمثلة بالعلم وكيف سيرفع، وبروبرت ردفورد وهو يجر نفسه لرفعه كما لو كان أصيب في رحى حرب حقيقية. الى اليسار در... عنوة! ثمة مسألة أخرى لا تقل أهمية. لماذا، قد يتساءل المرء على سبارتاكوس العصر أن يحمل اسماً قد يشير الى أنه يهودي يوجين اروين؟ هل كتب أن يحمل كل داع للتحرر من نظام متعسف اسماً كهذا؟ روبن رون ليبمان هو الذي يسعى في فيلم مارتن رت "نورما راي" 1979 الى توحيد العمّال في نقابة تدافع عن حقوقهم. ومن يومها والحبل جرّار مروراً بفيلم "بضعة رجال جيدين" روب رينر- 1992 حيث لم يكن مقدراً لتوم كروز ربح قضية مرفوعة ضد المؤسسة العسكرية لولا مساعدة المحامي سام واينبرغ كما أدّاه كيفن بولاك. وهناك أكثر من علاقة بين "بضعة رجال جيدين" و"القلعة الأخيرة" تتمحور حول تصدّي طلاب تغيير أميركا الى خط يساري هذا لا يعني أنه خط أفضل للعرب من الخط اليميني بل ربما على العكس لرموز العسكر. ولا تزال صورة جاك نيكولسون كجنرال مسيحي متهم بالتستر على جريمة الاعتداء على جنديين بدوافع عنصرية وهو يصرخ في وجه توم كروز: "لا تستطيع التعامل مع الحقيقة" ماثلة. المشهد بأسره مدعاة للسخرية جراء تركيبة محقونة بالكثير من المشاعر المهيأة. ليس أن جاك نيكولسون على حق في السماح لجنود بيض بضرب جنود مكسيكيين، بل ان الوسيلة التي تعالج بها مثل هذه المواقف مسرحية بالغة السذاجة. الشيء نفسه في معالجة رود لوري شخصية جيمس في اندولفيني: هل يعقل أن يكون هناك رجل بهذا الغباء؟ نعم. لكن لماذا اختيار الطريق السهل وتقديم رجل غبي عوض تقديم رجل يحتكر جزءاً من العمق وبعض الفضائل. الصراع سيكون أفضل وأكثر حدة. هذا هو ثالث فيلم لرود لوري المولود في اسرائيل والمرء يستطيع أن يرى خطاً يمشي فيه. فيلمه الأول هو "ردع" عن نائب رئيس جمهورية يهودي كيفن بولاك ايضاً يخلف رئيس الجمهورية حال تعرض هذا للاغتيال. أول قرار يقدم عليه هو ضرب العراق بالسلاح النووي على رغم تذكير بعض مرافقيه له بتاريخ العراق وحضارته. فيلمه الثاني، "المرشحة" عن امرأة جوان ألن يختارها رئيس الجمهورية جف بردجز لتكون نائبة له فيعمل قسم من الكونغرس بقيادة غاري أولدمان لإحباط ذلك عبر الكشف عن ماضيها وتبني قضية مفادها أنها أمّت سهرات خلاعية في حياتها الشابة. المرشحة لا تكترث للرد على هذه الشائعات لأنه "من الخطأ أن أقحم نفسي في الدفاع عن موضوع ليس من شأن أحد غيري". لاحقاً، في نهاية الفيلم، يتبيّن أنها ليست الفتاة التي وزعت صورتها، لكنها لم تكترث للإشارة الى ذلك التزاماً بمبدئها. نهايات لوري هي مزيج من مصالحة بين نياته السياسية الخاصة والتجارية العامة: تبرير القاء القنبلة النووية على العراق في "ردع"، وايصال المرأة الى المنصب المهم الثاني في البيت الأبيض في "المرشحة"، وانتصار اليسار الليبرالي على اليمين المتحجر في "القلعة الأخيرة". انتصار يمكن القبول به او بعكسه اذا صدر عن تحليل سياسي ما. اما تبعاً للأحداث التي نراها فإنه يعمل بحسب القواعد التقليدية متمخضاً في النهاية عمّن سيرفع العلم وكيف سيرفع. الفيلم، افتتح، قبل أيام في اميركا وحط في المركز الخامس، هو بحاجة لأن يُرفع... ليس على سلم الإيرادات... بل من الصالات!