إذا أردت ان تفهم ماذا يحدث في تونس فوق السطح وتحت الطاولة وما بين السطور، فاذهب الى ملعب كرة القدم. لن نضيف شيئاً مهماً لو قلنا ان الترجي التونسي والنادي الأفريقي هما الناديان "الحزبان" الأعرق تاريخاً والأكثر شعبية. فذلك كله يحدث وسط هشاشة الأحزاب المعارضة الناشئة والتراجع الشديد لقدرة نقابات العمال واتحادات الطلاب ومؤسسات المجتمع المدني، وعدم مقدرتها على استقطاب الشبيبة والاستماع اليها والى تطلعاتها. ويضاف الى ذلك "عودة" الشارع الى وظيفته الطبيعية فضاء للمارة والعربات السيارة وأعوان حفظ النظام. السؤال هو: أين يوظف شباب تونس طاقاته الابداعية خارج قاعات الدروس والتحصيل الاكاديمي؟ أين يعبر عن ذاته في أوضاعها المختلفة ما بين الفرح العارم وغضب الشباب العاصف؟ ما هي قدوته في الحياة الدنيا وما هي مثله التي يستمد منها قوة الدفع الى الأمام والتشبث بالحياة ومغالبة الصعاب؟ ان الكتابة على الجدران والأحرف التي يخطها الشباب الجامعي على طاولات الدرس وخلف أبواب الحمامات كانت وما زالت تعبر عن مخزون "سري"، وقد تمثل بعضاً من طبيعة اهتمامات الجيل ومحاور أسئلته. وبعد صور "تشي غيفارا" وشعارات الثورة الحمراء في بداية السبعينات والتي عوضتها في مفترق الثمانينات نداءات "الثورة الإسلامية" وقيم "المستضعفين" في مواجهة الاستكبار العالمي... احتلت رسوم القلوب الحائرة، والوجدان والهيام بالحبيبة المشهد العام في خربشات التلاميذ على طاولات الدرس والأماكن "السرية"... ليرتفع بذلك الجسد ومبدأ اللذة على رأس سلم الأولويات للشبيبة. وإذ عادت المساجد الى وظيفتها التعبدية، وتضخمت الوظيفة الخدماتية لهيئات الحزب الحاكم في كل زقاق ومحلة على حساب دورها فضاء للحوار والنقاش وقياس نبض الشارع وارتساماته، فلن تصاب بالدهشة إذا علمت ان تونس الصغيرة جغرافياً والعظيمة بتاريخها ورجالها ونسائها فيها 130 ألف مقهى، وما بين مقهى ومقهى هنالك ثالث يمتلكه أو يديره لاعب في أحد أندية كرة القدم، لتكون عودة على بدء. وتابع التوانسة في بداية الشهر الحالي وقائع محاكمة 38 شاباً معظمهم من التلاميذ والطلاب الذين دينوا في قضايا إحداث شغب والإضرار بأملاك الغير، وتراوحت الأحكام ما بين 6 أشهر و4 أشهر مع اسعاف بعضهم بتأجيل تنفيذ العقوبة. لم يخرج هؤلاء الى الشارع تضامناً مع الانتفاضة الفلسطينية ولا للتعبير عن رفضهم للهجمات الأميركية على أفغانستان ولا احتجاجاً على تجاوزات في الشأن المحلي أو ظروف الدراسة وبحثاً عن فرص العمل، بل عبثوا في المحلات التجارية في أهم شوارع العاصمة التونسية وهشموا زجاج السيارات وأحدثوا الهرج والمزج الذي غاب عن الشارع منذ صيف تونس الحار عام 1986 قبل عودة الأمن والاستقرار باعتلاء الرئيس زين العابدين بن علي سدة الحكم. أما سبب هذه الهيجان الشبابي فيبدو على السطح بسيطاً: لقد انهزم ناديهم "النادي الأفريقي" يومها أمام نادي كايرز شيفز الجنوب الأفريقي في نصف نهائي كأس الكؤوس الأفريقية. ربما غدت هذه الحادثة معزولة وصنفت على انها طيش شبابي عابر، ولكن، لو عدنا قليلاً الى الوراء وبالتحديد الى يوم 10 حزيران يونيو وما حدث في ملعب باجة، محافظة السكر، والناس الطيبون في الشمال الغربي لتونس، وما خلفته من أحداث بين جمهوري النادي المحلي والترجي التونسي لحساب نصف نهائي كأس تونس 3 قتلى ومئات الجرحى بحسب حصيلة رسمية لعاد السؤال الى مجراه... لماذا هذا العنف في الملاعب في تونس واحة الأمن والاستقرار وغياب المحاكمات السياسية والأحزاب الراديكالية والنوازع المتطرفة؟ هل هو طيش شبابي عابر أم شبيبة حائرة تبحث عن ذاتها؟... أما الوجه الآخر من العملة وهو الأجمل فتجسد في اللحظات الجميلة التي عاشتها الشبيبة التونسية في الفترة من 2 أيلول سبتمبر الماضي الى 15 منه. لقد كانت وبإجماع كل المراقبين أجمل وأحلى أيام تونس وشبابها في العقد الماضي، سهرت الشبيبة الى الساعات الأخيرة من الليل رقصت، غنت، بكت، انتظرت، تشنجت، وانتعشت مع كل كرة طائرة وهدف في شباك الخصم، مع ابطالها في الرياضات الشهيرة في الجمباز والكاراتيه والمصارعة ورفع الأثقال في الداخل والخارج. علي الزيتوني لاعب كرة القدم ونجم منتخب تونس القادم من قرية وذرف في أقصى الجنوب التونسي، ليوني مرزوق بطلة العالم في الجمباز وهي من أصل هولندي... احتلت الشبيبة كل المقاعد وفرحت يوم ربحت تلك المصارعة ال100 ألف دولار من الرئيس والتي نقلتها من الفقر والحرمان الى العيش الهانئ وعالم الأضواء والشهرة... كان هناك 23 بلداً وأكثر من 14 ألف رياضي واداري في فرقة المتوسط التونسية. لم يحدث ما يعكر صفو الألعاب. ولكن الأهم من ذلك، هل تناول علماء الاجتماع وخبراء السياسة بالدرس ذلك الحادث المعبر في اختتام الألعاب عندما أعلن رئيس اللجنة المنظمة عن الغاء الجوانب الاحتفالية في حفلة الاختتام تضامناً مع الشعب الأميركي بعد هجمات 11 أيلول الدموية فقوبل بالتصفير المتواصل من ال40 ألف شاب وشابة الذين حضروا حفلة اختتام الألعاب المتوسطية والذين لم يكن من بينهم قطعاً نشطاء من القاعدة ولا أتباع للسيد بن لادن. بل كانت هي التعبيرة الجماهيرية الوحيدة للشارع التونسي في أولى حروب القرن! ويذهب كل صباح في تونس قرابة 2.5 مليون الى المعاهد والجامعات من اجمالي 9.5 ملايين هو عدد سكان البلاد. وشهدت العشرية الأخيرة ارتفاعاً في عدد الطلاب الجامعيين الى قرابة 230 ألف طالب وطالبة... لقد غادرت الاضرابات الطالبية سماء تونس وانكب الجميع على التحصيل والتفكير في أفضل المسالك لتوفير فرصة عمل في المستقبل... نقابات العمال تعقلت وأصبحت أكثر براغماتية، واختار جيلها الحالي البحث عن أقل الأضرار عبر التفاوض مع أرباب العمل وسط رياح الانفتاح وتحديات الشراكة الأوروبية وتحولات العولمة... لقد أصبح الاضراب تعبيراً احتجاجياً من تعابير زمن غابر وغير مرحب فيه... ولكن، كيف نفهم تعدد حالات اضراب اللاعبين قبل مباريات حيوية لأنديتهم، في أندية الصفاقسي والأولمبي الباجي ومستقبل المرسي والملعب التونسي وأخيراً في نهاية الموسم الماضي اضراب ما سمي بعصابة الخمسة بزعامة قائد النادي الأفريقي جمال الدين الإمام، حيث كان ردّ فعل رئاسة النادي بقيادة رجل الأعمال فريد عياش حازماً ومتلائماً مع أعرافه: طرد الجميع من حظيرة النادي... واجابة زعيم الاضراب على الرئيس بقوله: "أنا لا أعمل لديك...؟!". والأهم من ذلك ان الصحافة المحلية تناولت الاضراب بإسهاب وقامت بتحليل أسبابه والبحث في تفاصيله الدقيقة، في حين انها تفكر ألف مرة قبل ان تنقل نية قطاع من القطاعات الانتاجية في الدخول في حركة احتجاجية!؟ إذا أردت ان تفهم ما يحدث في تونس فاذهب الى ملعب كرة القدم!