المسافة التي تفصلني عن أمي أكبر بكثير من المسافة التي تفصل ابنتي عني. لم نكن نتحاور أمي وأنا ولم يبد ذلك مشكلة بالنسبة إليّ. كنا نمارس علاقاتنا الانسانية بصمت. كانت الحدود مرسومة بوضوح أكثر فهي الأم التي أردت، وهي المرأة التي ملأت عالمها أمومة، ذلك العالم الصغير الذي لم تتعد حدوده سياج البيت. أما أنا الابنة فعالمي واسع وازداد اتساعاً كلما كبرت ولم يكن يضيرني عالم أمي في شيء، بل كنت سعيدة به، فهو مينائي وأرض إقلاعي، أحبه لأنني أطمئن اليه، أحبه أكثر لأنني خارجه. حين أصبحتُ أماً ظننت ان هذه التجربة ستتكرر، وانني سأكون أماً بالسهولة نفسها. لكن عالمي تغير، وابنتي أتت الى عالم وزمن مختلفين عن عالمي وزمني، والصورة التي رسمتها عن الأمومة بدأت تبهت ألوانها في عالم تتغير صوره كل يوم. الأمور تغيرت ولا أعلم اذا تغيرت من جهتي بالقدر الذي تغيرت فيه من جهة ابنتي. ثمة شيء أكيد وهو أن ابنتي تريد مني أن أكون أماً فقط كما أردت أنا يوماً من أمي، وأن الصورة التي رسمتها عني هي أيضاً صورة أم عالمها الوحيد هو الأمومة. لكن أمومتي هي جزء من عالمي الكبير، وحاجة ابنتي تفرض عليّ ترتيب عالمي وجعله صغيراً على قياس الصورة التي تريد. وأنا أبحث عن صورة أخرى لأم تليق بعام 2001 لا تشبه صور الأمهات في كتب القراءة العربية،. نقف متقابلتين، ابنتي وأنا، وبيننا مرآة تعكس أمامنا ما تريد كل منا رؤيته. هي ترى أشياء مختلفة من جهتها. هي لا ترى ما أراه، على رغم ذلك تشبهني. خرجت من جسدي ومشت نحو عالم لم أدخله. هي التي أتت الى عالم يتميز "ويعاني" من "التعبير الفائق". ذلك التعبير الذي يبدو لي أخرس. وأنا جئت من عالم نمارس فيه الحياة بصمت. نحب ونفرح ونحزن ونبكي بصمت. كيف أقول لها انني أحبها كل يوم، حين اكتشف ان لحظات الصمت المملوءة لم تعد كافية في عالم الصوت والصورة. في عالم يبدو لي أحياناً أنه يثرثر ولا يصل. كيف اخترق عالمها لأقول لها انني أحبها كل يوم وأنا الأم التي تبقى خارج هذا العالم. أبقى وأستمع اليها تقول لي ان عالمها يضيق. انه العالم نفسه الذي ازداد اتساعاً كلما كبرتُ. أنظر اليها وأفكر أحياناً انها مخلوق فضائي، لا أفهم لغتها ولا تفهم لغتي، لكننا على رغم ذلك لا نتوقف عن الكلام. خرجت مني، ابتعدت وصارت ترى ما لا أرى، صارت مختلفة وصارت تشبهني. كم أريد قبول حقيقة انها ترى ما لا أرى، وان ما أراه بعيد عنها. كم أريد أن أتعلم كيف أدخل عالمها وأبقى خارجاً في الوقت عينه. كم أريدها أن تقبل ان عالمي أوسع من أمومتي. كم أريد أن أقبل حقيقة انني لم أعرف مطلقاً عالم أمي وان الصورة التي أظهرتها عليها كانت من صنعي ومن حاجتي للزمان، وانني أنا من قلت ان عالمها لم يتعد سياج حديقة البيت لأنني هكذا أردته.