العنوان الذي اختارته شيرين أبو النجا لدراستها الجادة "عاطفة الاختلاف" صدرت أخيراً في منشورات "قصور الثقافة" - القاهرة، وكذلك مضمون الكتاب ذاته، يغريان للبحث ثانية في مشكلة ما تزال قائمة وتدور حول ما يُسمّى ب"الأدب النسوي". مصطلح اعتُمد طويلاً من بعض مدارس النّقد ومن الكثير من الكاتبات في العالم، لوصف أدب المرأة وخصوصية الأنوثة فيه. هذا الاتفاق على المصطلح الذي استتب في حقبة ما تلازمت مع نهوض الحركات النسائية، ما لبث أن شهد تراجعاً. إذ أتى بعد ذلك مَن يرفض تقسيم الأدب بحسب الجنس نافياً المصطلح من أساسه. أو مَن ينظر إلى "الأدب النسوي" نظرة دونية باعتباره يدور حول عالم المرأة الضيّق، شأن هدى بركات التي تقول: "أنا كاتبة أكتب مثل الرّجال. بل إنّ كتابتي ضدّ نسوية. رواية "أهل الهوى" مثلاً و"حجر الضحك" كتبتهما للدفاع عن قضايا أقرب لأن تكون قضايا الرّجل. في أهل الهوى تستطيع أن تجد مقاطع عدة ضد النسوان أنا لا أكتب رواية اجتماعية"، عاطفة الاختلاف، ص 11. ويتفق إدوارد الخرّاط مع هدى بركات في موقفها السلبي من المفهوم، ويطلق على ظاهرة الكتابة النسوية "موسم كتابة البنات". ممتدحاً اللواتي "نجين من فخ الأنثوية". مثل هذه المواقف المتباينة تشير إلى أزمة هوية - أو مصطلح - تعاني منها الكتابة النسائية وتنعكس على آراء كاتبات عدة بصورة غير مبرّرة. فلو عدنا مثلاً إلى روايات المصريّة الشابة مي تلمساني لوجدناها تبرع في وصف عالم المرأة. ففي "دنيا زاد" تنفذ إلى أعماق الأم المتألّمة لفقدان جنينها الوليد ألماً ينضح من أحشائها ومن حبلها السرّي الذي انقطع من دون أن يصل. وفي "هليوبوليس" تخترق أسوار الحياة المنزلية وتستفيض استفاضة جميلة في استنطاق عالم النساء عبر مملكة المنزل وأشيائه. على رغم هذا تردّ تلمساني التهمة عن نفسها بالقول: لا يعجبني أن يندرج عملي في سياق كتابات المرأة لأن الساحة الأدبية في مصر تحتفي بأية كتابة لمجرد أنّ صاحبتها امرأة. وفي هذا تكريس للفصل بين الرجل والمرأة وانتقاص من قيمة الابداع نفسه، ص13. وتقدّم شيرين أبو النجا تفسيراً لهذا الانكار بالاعتقاد أنّ تجنّب الكاتبات الجديدات مصطلح الكتابة النسوية يصب في غياب تعريف المصطلح والتأصيل له، مما يحمّل كلمة "نسائي" أو "نسوي" شوائب المفهوم الحريمي البائد، عاطفة الاختلاف، ص13. وهو تفسير صائب الى حد كبير له علاقة بنشأة هذا الأدب ووقوع الكثير من نتاجه في دائرة الشكوى والتظلّم. فالتظلّم، على صدقه، يتقوقع في الذاتي ذي الأفق المسدود ويُفقد التعبير الأدبي شرطه الابداعي القائم على رؤية للعالم أكثر ثراءً وتعقيداً من الثنائية السطحية الماثلة في وصف طرفي الظلم وتحديدهما في أنثى/امرأة مظلومة ونظيراتها، وذكر/رجل ظالم وحلفاؤه من الرّجال وقوى المجتمع. مثل هذا التسطيح كفيل بأن يُفقد القارئ الدافع التلقائي للتماثل، ذكرًا كان أم أنثى. ويستدعي الخوض في هذه المسألة الاعتراف بأنّه يستحيل إقامة الحدود الفاصلة بين كتابة أنثوية وأخرى ذكورية، خصوصاً بالنسبة لما يعنينا منها في هذا المقال، أي بالنسبة الى الابداع الأدبي. فالأدب هو الفضاء التعبيري الفذّ الذي، عبر التاريخ وفي أشدّ العصور الأبوية تسلّطاً، أتاح للكتّاب والشعراء إمكان اختراق الخطاب الأبوي "العقلاني" المبني على "إنكار" الذاتي والعاطفي والانطلاق إلى الذات وأعماقها. وذلك عبر تعبير "أنثوي"، إذا جاز التعبير، لجهة هامشيته وخروجه عن أنماط الخطاب الأبوي المبارك. تعبير يتحدّث بالداخل الخاص في مقابل الخارج العام المستتِب. يتحدّث بالمسكوت عنه أو حتى "المخجل". يتوغّل في حيّز المشاعر والأحاسيس والتأمّلات والأحلام وكل ما هو غير "عقلاني" أو مُبرّر. في تلك المنطقة الملتبسة، وعبر الكتابة، يُختبر الحميمي، وتُرصد وقائع النفس المهمّشة أو المأزومة بأحكام الواقع ويُكشف عن ستر مخزونها وينفضح تشابك دوافعها وتداخل حدودها كما تنفضح الفجوة المؤرّقة بين ظواهر الأمور وبواطنها. في هذا الفضاء العظيم الذي هو الأدب تتضاءل الفوارق بين الذكورة والأنوثة. ولطالما تمكّن الذين تمرّسوا بلعبة الفنّ أن يغفلوا أحكام الخطاب السائد وإرثه الثقيل وينجحوا، في تجلّيات إبداعهم، أن يُلبِسوا الكلام المنكَر والمختلف، شرعية أخرى، عبر شخصياتٍ يبتكرونها. أو مواقف، تتحدّث ببواطن الأعماق. تقول كلاماً لا يجرؤ نظراؤهم - وقد لا يجرؤون حتى هم أنفسهم - على قوله في مواقف الحياة العادية، كي لا يراهم أحد "متلبّسين" بمواقف الضعف الجديرة ب"النساء"، متلبسين بمشاعرهم وهزائمهم. ولطالما أسهمت هذه اللعبة الفنّية الخيالية رواية، مسرحاً أو شعراً في التخفيف من أثقال الموروث وأتاحت للمبدعين أن يعيدوا النظر في الذات الانسانية برؤية أكثر ثراءً. ليكتشفوا - ويكتشف روّاد علماء النفس من بعدهم - خبايا - النفس وخفاياها . ويعيدون صوغ تعبيراتها مفتتنين - وفاتنين غيرهم- بكشفهم واختراقاتهم. مفتتنين بما كتبوا وكبتوا. ولنا في قصائد شعراء الصعاليك وفي شعر الغزل عموماً والشعر العبّاسي منه بشكل خاص وفي الشعر الصوفي وحكايات شهرزاد وقصائد العاشقين المدلّهين أمثلة بديعة على اختراق الكلام الأدبي الخطاب الأبوي، اختراقاً عرّض أصحابه للتذنيب أو الموت. وفي هذا السياق يمكن القول إنّ شخصيات شكسبير أو حتى راسين، في كثير من أعماله، هي أشدّ أنثوية من شخصيات كورناي. إذ يصب مأزمها النفسي في مأزم الخضوع ل"لخطاب الأبوي" والامتثال لضرورات السلطة. مثل محنة هاملت التي تضرب في مسألة التماثل مع السائد وتخلّ به. فيعجز عن الوقوف وقفة "الرّجل" تجاه زوج الأم "المتآمر"، أو قبوله قبولاً لمصلحة استمرارية الملكية. هكذا، وفي أتون صراعه واستسلامه للهواجس، ينطق هاملت بجملته الشهيرة: "نكون أو لا نكون". مثل هذا الأدب العظيم في نفاذه إلى شعاب النفس المؤرّقة ذات النوازع المعقدة، ينسيك جنس كاتبه أو حتى جنس شخصياته. وعلى رغم هذا فهل يسعنا حقاً أن ننفي خصوصية الكتابة الأنثوية؟ إنّ ما يميّز الحداثة عما قبلها، هو ثراؤها العظيم لجهة ازدهار الخصوصيات والاعتراف بالتعدّدية كبديل للمحورية وللمركزية القديمة. في ما مضى كان النتاج البشري المكتوب شحيحاً وحكراً على فئة ضيّقة هي على الغالب الفئة العليا من الناس. مَن تيسّر له منهم رفاهية الدرس والفكر والكتابة. هذه الندرة من الناس هي التي طوّرت الفلسفات والآداب والشعر ناهيك عن العلوم. فئة تنتمي إلى هذا البلد أو ذاك تبعاً للقطب الحضاري المهيمِن. في هذا السياق كانت الكتابة من التجارب الابداعية النادرة. كانت الكتابة للخاصة والمشافهة للعامة. هكذا نلاحظ أن الروايات العالمية المكتوبة - في غالبيتها العظمى - كتبها رجل أبيض. لكن الصورة القديمة هذه ما لبثت أن تبدّلت. فما أن انتشر التعليم وازدهرت طرق الاتصال والمواصلات حتى ضَعُفت المركزية الحضارية كما ضعفت سائر المركزيات. فتعدّدت الأصوات وكثرت الخصوصيات وصار النتاج الأدبي من رواية وشعر ومسرح يُكتب من رجال ونساء أفارقة وهنود وصينيين وبرازيليين وكولومبيين وعرب وأستراليين وغيرهم. كتاب يتحدّرون من أصول متنوّعة وبيئات وطبقات وألسنة متباينة. وليس من مبالغة القول إنّ عصرنا هذا هو بامتياز عصر التعدّديات والخصوصيات. أكانت هذه إثنية أم لغوية أم جنس - اجتماعية الجنس الاجتماعي هو مصطلح جديد يتحدّث بالبعد الاجتماعي للجنس في مقابل البعد البيولوجي له وكلّها، في تفاعلها، تسهم في إثراء التراث الانساني وترفد نتاجه معزّزةً، الصفة الكلّية العالمية لهذا التراث. فكيف لنا والحالة هذه أن نعترف بهذه الخصوصيات وننكر خصوصية الأنوثة في الكتابة؟ مثل هذا الانكار يعني القفز على الحقائق بصورة آلية والتعميم العشوائي وَتجاهل الإرث الاجتماعي الثقافي للجنس وتاريخ علاقة الجنسين بعضهما بالبعض الآخر. هذا الإرث الممتد عبر العصور والمثقَل بتوزيع الأدوار والقيم والصفات وبتعظيم التمايز الطبيعي بين الذكورة والأنوثة. الذي كاد يحاذي الثابت المطلق. لذا، بداهةً، وعلى الأقل في المراحل التاريخية الرّاهنة والقادمة، ستبقى خصوصية النفس - الثقافية لكلا الجنسين قائمة بشدة. وهذا ما يفسّر وجود قواسم مشتركة عدة بين ما تكتبه امرأة من التشيلي وأخرى من الهند أو أميركا. كما يفسر حجم الأنشطة وتنوّعها-أو حجم المؤسسات- التي تُعنى بموضوع المرأة وبالتعبير الكتابي. إنّ إنكار مثل هذه الخصوصية لكتابات المرأة يفترض أن الكاتب حين يكتب، يفصل نفسه عن كامل إرثه الشخصي الثقافي والجنسي ويفعل. وهذا يشكّل اجتزاءً وقفزاً على الحقائق. وقد يضحى عائقاً لقراءة الكاتبات ذوات الخصوصية الأنثوية العالية، أمثال مارغريت دوراس التي ظلّت تستذكر مأزمها الأنثوي عبر إعادة صوغها الفذّ لحياتها وتاريخها ومكنونات ذاتها. صوغ توّجته برائعتها "العشيق". كما سيعيق مثل هذا الانكار النفاذ إلى ما كتبته رائدات أمثال جين أوستن وفرجينيا وولف وغيرهما كثيرات غربيات أو عربيات. وفي هذا السياق يبدو نفي هدى بركات الصفة الأنثوية عن أدبها تأكيداً لشرعية وجود هذه الصفة لدى كاتبات أخريات. فإن برعت هي في النّفاذ إلى عالم الرّجال فمن الطبيعي أن تبرع كاتبات أخريات في استنطاق عالم الأنوثة ولغتها. إذ يتمايز صوت الأنوثة عن صوت الذكورة في الأدب - كما في الحياة - إن لجهة اختيار المواضيع أم لجهة الحساسية. وكما تتمايز أصوات أوكارا وتشينبي عن أصوات سوللر وسارتر وكامو لجهة بيئتهم الثقافية يختلف هذا الأخير عن مارغريت دوراس وتختلف سيمون دو بوفوار عن سارتر وفيرجينيا وولف عن جيمس جويس "الذي يصاب بالذعر- على حدّ قولها - حين تقول النساء ما يفكرن به"... وتختلف توني موريسون عن هنري ميللر والهندية آروندهاتي روي عن سلمان رشدي. وعلى هذا النحو تختلف كتابة نوال السعداوي عن كتابة جمال الغيطاني وعالم ميّ تلمساني عن عالم ابراهيم عبد المجيد وروايات حنان الشيخ عن روايات الياس خوري، وذلك على رغم اللغة المشتركة التي يكتب بها هؤلاء وأولئك. وليس من قبيل المصادفة أنّ التنظير ل"عاطفة الاختلاف"، أي لموقع كتابة الأنثى من الخطاب الأبوي، قد ازدهر أوّل ما ازدهر على لسان ناقدات نساء أمثال جوليا كريستيفا ومارسيل ماريني ولوس أوريغاراي وإيلين سيكسو وسيمون دوبوفوار وليس على لسان سارتر مثلاً، وذلك على رغم اهتمامه بالفلسفة وبالأدب على حدّ سواء، مخصصاً عمله النقدي الكبير "أبله العائلة" لدراسة فلوبير. وعلى رغم هذا، يجدر التأكيد على أنّ الاختلاف بين الأنثوي والذكوري في الكتابة ليس قطعياً ولا جوهرياً بل هو الى حدّ كبير تاريخي ثقافي وجنس - اجتماعي. وأنّ المشكلة، موضوع البحث، تقع في نهاية الأمر في تلك الدائرة التي يتصل فيها التمايز بالتشابه والحساسية الخاصة بالحس الانساني العام، اتصالاً متغيّراً متطوّراً هو صورة لاتصال الجزئي بالكلّي في سياق ثقافي متطوّر غير ثابت. وأنّه خارج هذه الرّؤية الكثيفة المعقدة لا يحق لنا النظر إلى خصوصية الأنوثة والذكورة في الأدب أو في الخطاب عموماً. إنّها الرؤية الثقافية ذاتها التي تنطلق منها مدرسة النقد الفرنسية موضوع كتاب شيرين أبو النجا في "عاطفة الاختلاف" والتي تعرض مقولاتها عرضاً منهجياً مفيداً لتقوم على ضوئها روايات بعض الكاتبات المصريات. وترتكز مقولات هذه المدرسة النقدية في تحليلها الخطاب الأبوي وموقع الأنثى فيه، إلى أفكار لاكان وَدريدا. وذلك انطلاقاً من رفض فكرة الثنائية المطلقة التي تصب فلسفياً في الجوهرية essentialisme أي في ذاك المفهوم القديم الجامد الذي يغلّب الطبيعي البيولوجي على الثقافي الاجتماعي، والذي ينشد الثبات في مقابل التغيّر والتطوّر، يصب في فكرة التضاد الثنائي والفصل المطلق بين الذكورة والأنوثة وما يتعلّق بهما من قيم وخصائص ونتاج. لذا جاءت مقولة لاكان حول "لا بيولوجية" الموقف الأنثوي و"لا ثباتيته" مثل منارة جديدة للكاتبات والباحثات عن مفهوم جديد للابداع الأنثوي. وقد احتدم الجدل في ما بعد بين الباحثين في هذه المسألة احتداماً وصل إلى حدّ القطيعة. فرسالة الدكتوراه التي قدمتها لوس أوريغاراي عام 1974 بعنوان "مرآة المرأة الأخرى" أثارت جدلاً واسعاً في فرنسا أدّى إلى فصلها من مدرسة لاكان الفرويدية. إذ قامت أوريغاراي بتحليل الخطاب الفلسفي الغربي منذ عصر أفلاطون حتى فرويد. لتخلص في تحليلها إلى أنّ المرأة في هذا الخطاب ليست سوى مرآة عاكسة للخطاب الذكوري الأبوي. هذا الخطاب الذي يحرمها حق التمثيل الذاتي self representation ويضعها في "الخارج" لتصبح هي الغياب والسلبية والقارة المظلمة، أو لتكون في أحسن الأحوال رجلاً غير كامل. ففي شرنقة اللغة التي تضطر النساء إلى استخدامها - وهي أساساً لغة النظام المهيمن- تجد المرأة نفسها محاصرة وأمام خيارين: الأول أن تطرح منظورها الذاتي عن نفسها وفي هذه الحالة سيُعتبر ما تقوله جلبة بلا معنى لاختلافه عن الخطاب الرّئيسي الذكوري. وبالتالي سيكون معادلاً للصمت. أما الخيار الثاني فهو أن تتحوّل المرأة إلى مقلّد تحاكي في خطابها الرّجل، فتقع إذذاك في الهستيريا بحسب رأي أواريغاراي. وهذا التمثيل الهستيري ليس إلاّ نتاج رفض الخطاب الذكوري للذات الأنثوية ورفض الذات الأنثوية لحاجاتها وخصوصيتها. وهو رفض من شأنه تحويل المرأة إلى صورة مشوّهة للرّجل. عاطفة الاختلاف، ص 29. وعلى رغم هذا، وفي تحليلها، تخلص أوريغاراي كما إلين سيكسو وجوليا كريستيفا وإيلين شولتر إلى أنّ المرأة لا يمكنها أن تكتب بشكل أنثوي خالص خارج البنية الأبوية، بل من داخل السياق محاكية الخطاب الأبوي، تاركة للأنثوي إمكان الظهور في المساحات الخالية بين سطور المحاكاة التي يسمّيها البعض "الثغرات" أو مناطق الفراغ. هكذا، فالأنثى تكتب في المناطق المعتمة التي لم تُسلّط عليها بعد أضواء الخطاب الرّئيسي الأبوي. وعلى رغم "الظلمة" ترى مدرسة النقد الفرنسية، أنّه من شأن الكتابة الانثوية خلخلة الخطاب الأبوي القديم وتخريبه الذي يتطلّع إلى المطلق والتضاد واستبداله بخطاب جديد قائم على التفاعل الحيويّ. وهو تخريب لا يهدف إلى انتزاع قوّة ما. فالمشكلة التي يطرحها الفكر الأنثوي ليست فقط ممارسة القوّة ولكن أيضاً كيفية تغيير علاقات القوى السائدة مما يؤدّي إلى تغيير مفهوم القوّة في حدّ ذاته. وبحسب هؤلاء تتم الخلخلة عبر تحرير الجسد واستنطاقه. فلغة الجسد جديرة بأن تقوّض كلّ الحواجز وتهدم التراتبية وتسمح بالعودة إلى ما تمّت مصادرته باسم المقدّس ووقع في براثن التمثيل واللغة. وبذلك تصبح لغة الجسد خطاباً تجاوزياً ... يتخطى منظومة التضاد الثنائي الذي يرتكز عليها الخطاب الأبوي. من الملاحظ - والمؤسف معاً - أن شيرين أبو النجا اكتفت بعرض مقولات المدرسة الفرنسية مسلّمة بصوابها بعيداً عن رؤية نقدية. فاعتمدت معطياتها ونتائجها كمسلّمات أجرت على ضوئها تحليلها روايات بعض الكاتبات المصريات. والحال أنّ آراء هذه المقولات تثير عدداً من التساؤلات. فهي على رغم فذلكة صوغها، تقع تارة في فخّ التبسيط وتارة في التناقضات أو التعميم. ومن مظاهر هذا التبسيط مثلاً اعتبار "اللغة"، إرثاً ذكورياً خالصاً ووقوف المرأة خارج صنعه والاسهام فيه على مدى التاريخ. فهل اللغة هي المكتوب فقط؟ وهل المكتوب منفصل عن المحكي الذي تبرع فيه الأنثى؟ أوليس الشفوية لسان العامة والنساء؟ أليست هي النبع التوأم للمكتوب الذي تتغذى به اللغات قاطبة ويرفد الخطاب السائد؟ أليست اللغة - مكتوبة كانت أم شفوية - هي في نهاية الأمر إرث البشرية العظيم الذي يحمل آثار كل من نطق بها وبصماته وكلّ من نطقت بهم ذكوراً وإناثاً؟ من الإشارات التي لا يمكن إغفالها على أنّ "الأنثوي"، وعبر التاريخ، قد "وُجد" في اللغة ووُجدت اللغة فيه وفي باطن "الخطاب"، هو هجمة النساء على التعبير الكتابي في القرن العشرين. فما إن تيسّر لهنّ امتلاك المكتوب حتى ترجمن الشفوي إليه. من ناحية أخرى، نلمس في مقولات مدرسة النقد الفرنسية تناقضاً ينال من "هوية" الكتابة الأنثوية نفسها. إذ ما إن يجمعنَ على أنّه لا وجود لكتابة أنثوية خالصة، في مقابل الكتابة الذكورية، حتى يؤكدنَ على أدوار نادرة للكتابة الأنثوية، كانت جديرة بأن تجعلها ذات هوّية قائمة بذاتها. فما من شأنه تغيير العالم عبر خلخلة النظام الأبوي ومن شأنه أن يغيّر مفهوم القوّة ذاتها، جدير بأن يشكّل كتابة على درجة عالية من التمايز والخصوصية، خصوصاً ان مقولات مدرسة النقد المذكورة تبدو أشبه بإيديولوجية جديدة، تعطي الكتابة الأنثوية هويّة موحّدة، ذات غائية تاريخية محورية تتمثّل في خلخلة السائد وتغيير مفهوم القوّة. وتجنح هذه المقولات - أسوة بسائر الإيديولوجيات - إلى رؤية الحل الكلّي في مسألة خاصة وتعميمها. فتبدو الكتابة الأنثوية، على ألسنتهنّ، وريثة الفكر اليساري. وهو تعميم يماثل فكرة "الجوهرية" التي ترفضه هذه المدرسة. فما الكتابة الأنثوية في نهاية الأمر إلاّ نتاج له خصوصيته ضمن خصوصيات أخرى متباينة تشكّل، مجتمعةً، المشهد الثقافي العالمي. خصوصيات لا تُلزم كاتباتها بغاية تاريخية واحدة أو تطالبهنّ بدور طليعي لجهة خلخلة النظام السائد الأبوي. وقد يكون هذا النتاج أحياناً، وعلى رغم حساسيته الأنثوية، حيادياً تماماً لجهة التطوّر التاريخي. أو يكون أشد تمسكاً بالنظام الأبوي والأنماط السائدة من نتاج أيّ كاتب يكتب بحساسية ذكورية. إنّ البحث في "كتابات المرأة" يدعونا لأن نميّز بين ثلاثة أنماط منها: الكتابة النسوية، أي التي تحمل رسالة هادفة للدفاع عن حقوق المرأة. وهي كتابة نضالية في المقام الأوّل ومثالاً عليها نذكر كتابات نوال السعداوي وسيمون دو بوفوار وغيرهما. ثم الكتابة النسائية، أي التي تكتبها امرأة شعراً، رواية أو بحثاً وقد تكون نسوية أو غير نسوية. قد تتمتّع بحساسية أنثوية أو تكون إلى عالم الرّجال أقرب كما هي الحال بالنسبة الى ما تكتبه هدى بركات. على رغم يقيني أنّ بركات في رواياتها، وعلى رغم أسلوبها العقلاني المحكم، قد أنّثت الرّجل. أما النمط الثالث فهو الكتابة الأنثوية. أي الكتابة ذات الحساسية الأنثوية العالية حتى وإن كتبها رجل، أو تحدّثت بمسألة لا تهم المرأة بصورة خاصة. ومثل هذه الكتابة، على رغم حساسيتها، قد تكون نسوية نضالية أو مستلَبة تمجّد النظام الأبوي وتجد فيه خلاصها وتماثلها. فإذا ما برعتْ كاتبة مثلاً في وصف الحياة الداخلية للنساء فلا يعني ذلك بالضرورة أنّ غاية كتابتها تصبّ في خلخلة البُنى السائدة. بعكس ذلك نرى غالباً في الكتابة عن حمامات النساء مثلاً، لعبة إغراء تشبه إغراء بعض عارضات الأزياء أو العري المجاني الذي تتحكم في مقاليده مؤسسات شديدة الذكورية. وهي لعبة تتناقض في طبيعتها مع حرّية المرأة. بل وتخرّب تصوّر المرأة لهذه الحرّية ولعلاقتها بجسدها وعلاقة هذا الجسد بالعالم. لذا تبدو الصفة النضالية والغائية الحتمية التي تمنحها مدرسة النقد الفرنسية للكتابة الأنثوية أشبه بقفز على التاريخ في مسألة من أشدّ المسائل تعقيداً. مسألة لا تحتمل التبسيط كالقول إن الخلخلة تحدث عبر تحرير الجسد واستنطاقه، جسد الأنثى في شكل خاص وعلى رغم الأهمية البالغة لتحرير الجسد في سياق تحرير الانسان، فمن المؤكد أنّ الجسد ليس منفصلاً عن السياق العام ولا عن التاريخي. ولا صدقيته منفصلة عن الاستلاب الفكري والنفسي السائدين ولا عن العلاقات المعقّدة القائمة. فلا الناطق بلغة الجسد ينطق ضرورةً بالحرّية. ولا مجرّد النطق بلغة الجسد يخلخل البنى. وإلاّ سيكون فيلم "امبراطورية الأحاسيس" هو الأعظم شأناً في مهمّة التغيير التاريخي. إنّ إضفاء صفة الحرية جوهرياً على الجسد هو بمثابة رسم قدسية جديدة له. وفي هذا الاعتقاد "مُطلق" جديد تقع في فخّه المدرسة التي ترسي مقولتها على رفض المطلق والجوهرية. كما أنّ فيه تصنيفاً وفصلاً بين الثقافي و"تزويره" وبين الجسد و"أصالته"، تصنيفاً مثالياً يذكر بمسألتي الخير والشرّ. إنّ صورة الجسد وهواماته قد تكون أشد تشويهاً من الثقافة المهيمنة التي تدعو هذه المقولات الى نقضها. ولنا في التعبير السائد عن الجسد في الإعلام وبعض أنماط الكتابة أمثلة حيّة متفاقمة على هذا التشوّه. إنّ الكارثة الكبرى التي تتشكّل الآن إنّما تتشكّل على أنقاض المأساة القديمة الأولى، اي مأساة انكار الجسد. مصادِرة مطلب الحرية. ومصادِرة رفض المقولات النسوية حول امتلاك جسد الأنثى باسم المقدّس والتحريم. مُصادَرة جشعة تتم عبر وسائل الإعلام وتُسخّر الجسد للمصالح الاستهلاكية. فإن كانت العصور الماضية أنكرت طويلاً على جسد المرأة حقه في التعبير ومكانه في الكلام فما هو أخطر من ذلك في عصرنا هذا استبدال الصمت عن الكلام بالقعقعة. واستبدال التحريم بالتعميم. تعميم الجسد وتعميم الجنس وتمجيد الصورة وإنكار الحميمي وهتك الخصوصية وممارسة كلّ هذا باسم الحرية والأصالة والجمال! من هنا تبقى الكتابة الأنثوية قائمة أمام تحدّيات جديدة أشدّ تعقيداً وشراسة من ثنائية المحرّم والمتاح وأشدّ تعرّضاً لإغراءات التبسيط والاستسلام للعبة السوق. * كاتبة لبنانية.