قد لا يلحظ العابر في شارع "صدر" في بيشاور اي شيء غير عادي في مبنى "خليل هاوس"، فهو مبنى شاحب وقديم كأي مبنى آخر في الحي لكنه مغطى بلوحات كثيرة تعلن عن مطربين وفرق موسيقية أفغانية. ومع أول درجات السلم الى المبنى ذي المدخل المظلم تبدأ عوالم ومشاهد أخرى بالانكشاف. الطوابق مربعة داخل المبنى، وترتبط الشقق والمكاتب بردهات طويلة. ضجيج في الردهات والالفة البادية على الداخلين تشعر الزائر انه يزور وحدة متكاملة ولا مكاتب متفرقة. في هذه الطوابق تتداخل أصوات العزف على آلات موسيقية تقليدية افغانية مع أصوات مزاح الزائرين وقرقعة فناجين الشاي التي يشربونها وهم يستمعون الى الموسيقى، وتصل من خارج المبنى أصوات باعة أطفال جذبتهم الأنغام الأفغانية. هذه المكاتب هي لأكثر من ستة عشر فرقة ومطرباً أفغانياً، وهم يعملون فيها منذ أكثر من عشر سنوات وتضاعفت أعدادهم بعد أن حرّمت حركة طالبان الموسيقى منذ توليها السلطة عام 1996. ومكاتب المطربين الشعبيين هذه ليست بالمكاتب التقليدية، بل هي غرف بسيطة فيها مقاعد أرضية بحسب النموذج الأفغاني وتحوي مجموعات من المطربين والموسيقيين الأفغان الشباب والمخضرمين. منذ بدء العمليات العسكرية على أفغانستان تراجعت أعمال هؤلاء الفنانين، فلم يعد هناك الكثير من الافراح والحفلات، لذلك بات هؤلاء يتكدسون في مكاتبهم يتدربون ويدندنون برباباتهم وطبلاتهم الأفغانية، وحولهم متفرجون محليون وأطفال يستريحون قليلاً من عناء تجوالهم إما للتسول أو للبيع. في واحد من هذه المكاتب كانت تتعالى أصوات لا تشبه الموسيقى التقليدية، انه محمد جواد الذي كان يعزف على آلة الساكسوفون. محمد لا يتجاوز التاسعة عشرة من عمره، وقد شغف منذ طفولته بالموسيقى وتعلم على آلة الساكسوفون التي يعشقها هنا في بيشاور. يعزف متربعاً على الكرسي بزيه الأفغاني، حليق الرأس والذقن. جلس وبدأ يتمرن على العزف. وهو يأمل أن تتحسن ظروف العمل ليعود ويعزف في الحفلات والأعراس. يقول محمد: "من الصعب جداً على الأفغاني ان يصبح موسيقياً، فنحن بداية عانينا من الحرب ثم أتت حركة طالبان وحرّمتها". محمد يحب الموسيقى الأفغانية وهو يعزف على الساكسوفون الحاناً غربية وأفغانية. والموسيقى هي شأن عائلي، فشقيقه الأكبر وأقرباؤه كانوا مطربين وموسيقيين، بالنسبة اليه فإن أي حكومة تأتي الى أفغانستان وتجلب السلم وتسمح بالموسيقى سيواليها: "أنا أحب الموسيقى وهي أيضاً مصدر عيش ومن سيسمح بها سأحبه". وحين نسأل محمد هل سيتوجه الى الجهاد ضد الأميركيين؟ يقول: "ضد من سأجاهد؟؟ انا أفكر فقط بالسلام"، ثم يعود للعزف مرة أخرى ويبدو ان عزفه على رغم اتقانه له لا يجذب الكثير من الزوار، فهو يجلس وحيداً في مكتبه بينما يتحلق الزوار حول مكاتب أخرى تعزف الموسيقى الشعبية الأفغانية. وعلى غرار محمد فإن معظم العازفين والمغنين هم دون العشرين من عمرهم، وهناك عدد لا بأس به من الضاربين على الطبلة الذين لم يتجاوزوا سن الخامسة عشرة. وفي مبنى خليل هاوس ايضاً مطرب افغاني قديم، جعل مكتبه صالة جلوس بسيطة، مزينة بآلات موسيقية قديمة وتحلق حوله عازفون شبان، هذا المطرب هو شير محمد غزنوي. وهو يغني منذ أكثر من خمسين عاماً وما زال لصوته نبرة أليفة محببة، خصوصاً انه يرفق أداءه بتمايل لطيف يبدو غير منسجم أحياناً مع لحيته الطويلة وهيئته الأفغانية. منذ انطلاقته يغني غزنوي للحب وللوطن، وهو حين يغني الحب يتأوه ويطرب لنفسه وحين يغني لأفغانستان يبدو أكثر حماسة. يقول غزنوي: "حياتنا كانت الموسيقى، لكن لا موسيقى اليوم في أفغانستان، فقد غادرها كل الموسيقيين، لقد امضيت عمري في الموسيقى والغناء. غنيت في "راديو افغانستان" باللهجات البشتونية والفارسية أما اليوم فلا شيء!! أفغانستان كلها مدمّرة، وهي نفسها باتت أغنية حزينة. كثيراً ما أفكر بأفغانستان وأحلم أن يعود بلدي جميلاً فالأفغان يحبون الموسيقى لكنهم الآن لا يستطيعون، فإذا ألقت طالبان القبض على أحد يحمل كاسيت يكسرونه ويضربون حامله". يتحدث غزنوي بحسرة عن أثر الحرب على الأفغان وعلى حياتهم وعلى الموسيقى أيضاً. فمع ندرة الافراح في هذه الأزمة يجمع كل يوم عدداً من الشباب حوله ويتدربون على الأغاني الأفغانية الشعبية، وتدريبه هذا لعفويته يبدو وكأنه حفلة حقيقية يغني فيها غزنوي ويخاطب حضوره بغنائه. حين يغني غزنوي يتحلق حوله كثير من الشباب الأفغان ويجلس بينهم دائماً المولى غازي سيد أحمد شاه، أستاذ القرآن الكريم في مدرسة مجاورة في الحي. وحين ينهي تدريسه يأتي الى بناية "خليل هاوس" ليجلس مع أصدقائه وليستمع الى بعض من الغناء، وهو لا يعتبر ان حضوره الى هذا المبنى مشيناً أو نافراً ويستغرب من يقول ان الموسيقى محرجة. حين يجلس غزنوي يغني ترتسم ابتسامة خفيفة وتسرح نظرات على وجوه الجالسين حوله، لكن الموسيقى والغناء ليسا دليل فرح دائماً، ففي أحيان كثيرة كهذه لا تتعدى الموسيقى ان تكون سوى واحدة من صور المأساة الأفغانية الدائمة.