بدأ مسؤولون كبار في الولاياتالمتحدة وأوروبا وفي تصريحات "ليست للنشر" - يكشفون تلميحاً عن شكوكهم "الشخصية" في ما يتعلق بالنتائج المتوقعة للحرب في افغانستان. واقع الأمر ان الرياح لا تجري كما تشتهي السفن: فالغارات الجوية خلال الأسابيع الثلاثة لم تفضِ الى آثار حاسمة، ونظام طالبان لم يتقوض بعد، كما لم تحدث الانشقاقات بين صفوفه، كما كان متوقعاً، ثم ان الملا محمد عمر ما زال ماسكاً بزمام الأمور، ولم يتم العثور على حليفه اسامة بن لادن - عدو الولاياتالمتحدة رقم واحد - ولا تمت تصفيته. وهذه كلها أمور لا تستدعي الدهشة في بلاد بمساحة افغانستان - بحجم فرنسا وربعها - حيث ينجح "العدو" في التبعثر في كل مكان، كما تصعب رؤيته أو تحديد أماكن وجوده وحيث لا توجد أهداف استراتيجية "شديدة الأهمية وذات قيمة كبيرة". ثم ان الفرق الاميركية والبريطانية من الوحدات الخاصة التي تعتمد على اسلوب "اضرب واهرب" بدأت عملها ميدانياً ولكن المردود الذي حصلت عليه هزيل لا يستدعي الحسد. وعلى هذا، فمن الجائز ان تسقط بعض المدن الافغانية، بل ومن الجائز ان تُحتل بعض المواقع الاستراتيجية المهمة، ولكن قد يتعذر اخضاع المقاومة الافغانية المتمركزة في الجبال. بالإضافة الى ان العمليات العسكرية الجوية والبرية على حد سواء، ستصاب بانتكاسة ماحقة، مع اقتراب فصل الشتاء القارس، ومع بداية شهر رمضان في 16 تشرين الثاني نوفمبر. تؤكد المصادر الغربية ان الاسبوعين المقبلين سيكونان حاسمين، ذلك ان الولاياتالمتحدة بدأت تخترق الخطوط الامامية ل"طالبان" في شمال افغانستان، وهي تستعجل قادة التحالف الشمالي، خصوصاً الجنرال الاوزبكي عبدالرشيد دوستم، لاحتلال مدينة مزار الشريف ومطارها. وهذا من شأنه ان يوفر للقوات المعادية ل"طالبان" قاعدة عسكرية مهمة داخل البلاد، تنطلق منها للزحف على كابول. ولكن الإعداد لهجوم قوات تحالف الشمال بطيء ومتعثر، ولم يبدأ تحركه بعد، ويشكو قادته من ان الدعم الاميركي له ما زال فاتراً، يفتقر الى الحماسة الحارة. وإذا ما تلكأ هجوم التحالف الشمالي فقد يتوجب على الاميركيين ان يبادروا بهذا الهجوم بأنفسهم، وحينئذ سيجدون أنفسهم غائصين في وحل حرب لا يمكن الانتصار فيها، كما حدث للروس من قبلهم. وهذا هو السيناريو الكابوسي الذي يثقل على الأوساط المسؤولة في واشنطن ولندن. من هنا أصبح واضحاً ان النصر السريع الذي راهنت عليه واشنطن بدأ يفلت من قبضتها، إن لم يكن قد فاتها نهائياً. وفي أثناء ذلك، يرتفع عدد الضحايا: تتحدث مصادر "طالبان" عن مقتل ألف، وتخطئ القنابل الاميركية، على ما يبدو "أهدافها" كما حدث في مدينة هيرات الغربية، حيث سقطت احدى القنابل على مستشفى مدني. وهناك عشرات الألوف من الافغان المذعورين يفرون من الغارات الجوية الاميركية، وهؤلاء يتجمعون على حدود باكستان محاولين اختراقها طلباً للنجاة. وماذا يُقال عن ملايين الافغان الذين يواجهون المجاعة داخل البلاد؟ ان المنظمات الدولية المشرفة على تقديم المساعدات الانسانية تطلب بإلحاح من الولاياتالمتحدة وقف الغارات الجوية كي يتاح لها ان توصل الغذاء والمساعدات الى هذه البلاد المنكوبة. وفي أثناء ذلك أيضاً بدأ الرأي العام الاسلامي في العالم العربي، وفي باكستان واندونيسيا وماليزيا والفيليبين، يفقد هدوءه، ويتخذ مواقف أكثر تصلباً وقسوة تجاه الولاياتالمتحدة. فالقصف الاميركي المتواصل للمدن والقرى الافغانية يثير غضبه وغيظه. وهذا معناه في نهاية الأمر ان الولاياتالمتحدة قد خسرت حرب الدعاية، وهي على وشك ان تفقد قدرتها على القيام بأية مبادرة سياسية. تحديان: الجمرة الخبيثة واسرائيل بالإضافة الى مشاكلها في افغانستان، تتصارع الولاياتالمتحدة مع تحديين جديين آخرين، لكنهما من طبيعة مختلفة: ففي داخل الولاياتالمتحدة، أثار الخوف من الجمرة الخبيثة هلعاً واسعاً، وأصاب الحياة الاعتيادية للناس بالخلل. وعلى رغم الجائزة المالية الكبرى التي رصدتها الإدارة الاميركية - مليون دولار - لم يتقدم احد حتى الآن بالكشف عن سر الظروف البريدية المسممة بمسحوق الجمرة الخبيثة التي ارسلت الى عدد من الشخصيات الاعلامية المرموقة وعدد آخر من السياسيين المعروفين. بل ان هاجس الجمرة الخبيثة، أخذ يتحكم في آلية توزيع البريد في كل مكان، حتى في البريد المرسل الى البيت الأبيض. وقد توفي حتى الآن اثنان من موظفي البريد هذا الاسبوع متأثرين بإشكالات في التنفس نتيجة استنشاقها ذرات الجمرة الخبيثة، كما أعلن عن عدد آخر من المرضى ثبتت اصابتهم بالمرض الخبيث، في حين يخضع عشرة آلاف عامل حالياً للفحوص الطبية. إن مؤسسات الاسعاف في الولاياتالمتحدة منشغلة حتى الاختناق برصد هذه الآفة الوافدة، مما يؤكد ان أهم وأكبر دولة في العالم قد أرغمت على اتخاذ موقف الدفاع. أما التحدي الآخر الذي تواجهه واشنطن، فهو آتٍ من الخارج، لا من أعداء الولاياتالمتحدة وانما من حليفتها و"زبونتها" اسرائيل. فقد أقحم ارييل شارون، رئيس وزراء اسرائيل - مستغلاً اغتيال رحبعام زئيفي وزير السياحة المعروف بكراهيته الشديدة للعرب - جيشه داخل سبع مدن فلسطينية، وتوغل فيها متسبباً في مقتل 40 فلسطينياً حتى الآن. رفض شارون طلبات اميركية بالانسحاب الفوري من بينها طلب شخصي من الرئيس بوش نفسه، وأعلن انه لن يسحب جيشه قبل ان يقبض ياسر عرفات على قتلة وزير سياحته زئيفي ويسلمهم الى اسرائيل. اختار شارون اللجوء مرة اخرى الى العنف، متذرعاً بحق اسرائيل المزعوم في "الدفاع عن النفس"، تماماً كما كان يفعل دوماً، طيلة حياته، رافضاً المفاوضات، لأن هذه المفاوضات - في منطوقه - لا بد من ان تؤدي آخر الأمر الى عودة الأرض الى الفلسطينيين. يعتمد شارون، بتحديه لإدارة بوش، على أصدقاء اسرائيل في الولاياتالمتحدة، خصوصاً في الكونغرس المعروف بتعاطفه الشديد مع اسرائيل. ولكن اذا عجز الرئيس بوش ووزير خارجيته كولن باول عن اعادة شارون الى "بيت الطاعة" فستصاب صدقية الولاياتالمتحدة في الشرق الأوسط بطعنة قاتلة، علماً ان هذه الصدقية متدنية اساساً من قبل. الهاجس الاقليمي لكن هذا كله لا يُنهي مشاكل واشنطن: اذ تفتقر الحملة العسكرية الاميركية الى الصدقية، بسبب عدم وجود بديل سياسي يخلف نظام طالبان في افغانستان حتى الآن. فالمشاحنات بين الفصائل الافغانية، والخلافات العاصفة بين الدول المجاورة لافغانستان، تقف حائلاً دون تشكيل ائتلاف أو تحالف مقنع، بمقدوره ان يتسلم الحكم في كابول بعد سقوط "طالبان"، وان يخلق الظروف المواتية لإعادة إعمار البلاد، فضلاً عن تصفية خلايا تنظيم "القاعدة" لأسامة بن لادن. لم تتوقف الولاياتالمتحدة، وبريطانيا، بل والمبعوث الخاص للأمم المتحدة الاخضر الابراهيمي، عن الاعلان بأن "مستقبل افغانستان منوط بأيدي الشعب الافغاني". لكن هذا الاعلان يبدو غير واقعي حتى الآن، فالدول المجاورة لافغانستان لا تخفي ان لها مصالح حيوية في هذا البلد، والكل يعمل من أجل "قولبة" نظام "ما بعد طالبان" ليكون في خدمة مصالحه. لقد ساعدت باكستان على اقامة نظام طالبان الذي تسيطر عليه اكثرية بشتونية، ودعمته على امتداد خمس سنوات ضد تحالف قوى الشمال المؤلف من الطاجيك والأوزبك. وقد فعلت اسلام اباد ذلك مدفوعة بسببين: أولهما لأن باكستان بحاجة ماسة الى نظام تابع في كابول يوفر لها "العمق الاستراتيجي" ضد الهند، وثانيهما لأن باكستان بحاجة ايضاً الى "احتواء" مطالب البشتون الهادفة الى اقامة "باشتونستان الكبرى" الممتدة على طرفي الحدود الافغانية - الباكستانية. ومعروف ان بريطانيا قسمت في عام 1893 القبائل البشتونية الى قسمين لحماية امبراطوريتها الهندية، كما رسمت خط "دوران" البغيض الذي لم يرض أحداً. ومنذ ذلك الحين يناضل البشتون من اجل توحيد بلادهم، غير ان هذه الوحدة ستؤدي، اذا ما تحققت، الى تجزئة باكستان وفقدانها اقليمها الشمالي الغربي. لقد انقلب الجنرال برويز مشرف، رئيس باكستان ضد "طالبان" بتأثير الضغط الاميركي، أو على أمل الحصول على بعض الجوائز المالية لبلاده، لكن مصالح باكستان تبقى هي هي من دون تغيير، فالاستخبارات الباكستانية ستستمر في دعم "طالبان" سراً، ولن تخفف باكستان من عدائها القاطع لاحتمال تسلم تحالف الشمال الحكم في كابول، على رغم ان الولاياتالمتحدة تعلق الكثير من الآمال على هذا التحالف. وما زال الرئيس مشرف يصر على ان تشارك "عناصر معتدلة" في "طالبان" في أية حكومة افغانية مقبلة، لكن الدول المجاورة مثل الهندوروسياوايران - وهي معروفة بمساندتها تحالف الشمال - تؤكد بأن "لا وجود لعناصر معتدلة في طالبان". وعلى هذا، فإن كل طرف، ولأسبابه الخاصة، يعارض أي شكل من أشكال حكم "طالبان" في المستقبل، من دون ان يحدد مواصفات الحكم البديل بدقة. وعلى رغم الاتصالات الودية بين جورج بوش وفلاديمير بوتين، فإن روسيا عازمة على إبعاد الولاياتالمتحدة عن آسيا الوسطى. ومن جهة اخرى، تطمح الهند الى الرد على "خاصرة" باكستان التي تشكل تهديداً مستمراً في افغانستان حصراً، في حين ترغب ايران، التي ترفض استمرار حكم "طالبان"، في حصول قبائل الهزارة الشيعة على حصتها في حكومة كابول المقبلة. على واشنطن ان تتعامل وتتصارع مع تعقيدات وتناقضات السياسات المتباينة في آسيا الوسطى. لقد اختارت اوزبكستان كقاعدة اساسية للقيام بهجوم بري ضد افغانستان. ويقال بأن ما لا يقل عن ألف عنصر من الفرق الخاصة الاميركية يتركزون الآن في قاعدة كماناباد الجوية الأوزبكية، على بعد 200 كيلومتر من الحدود الافغانية، وسيزداد عدد هذه الفرق الخاصة قريباً. وتشكل اوزبكستان، بسكانها ال25 مليوناً، أكبر دولة في آسيا الوسطى، على الحدود الشماليةلافغانستان، ولها أطماع توسعية في افغانستان، وقد يحلو لها ان تلعب دور "الشرطي الاقليمي" بمساعدة الولاياتالمتحدة، ولكن شعب اوزبكستان يخشى من انتقام الاصوليين المتطرفين الاسلاميين اذا ما فشلت الولاياتالمتحدة في تحقيق نصر حاسم وسريع. وغير بعيد، هناك طاجيكستان بسكانها ال5 ملايين، وهذه راغبة في ان تبقى الى جانب روسيا، على أساس ان الجيش الروسي يظل اكبر مصدر لتشغيل اليد العاملة فيها. اما تركمانستان المحاصرة من كل جهة، فعدد سكانها لا يتجاوز ال5 ملايين ايضاً، ولكنها تملك احتياطياً ضخماً من الغاز، والحلم الكبير الذي لا يزال يراود قادتها هو مد أنابيب داخل افغانستان لتصدير غازها الطبيعي الى باكستان. لكن البنوك الغربية وشركات النفط الاميركية تفضل الانتظار حتى سقوط حكم "طالبان"، قبل ان تبدي اهتماماً جدياً بهذا المشروع! هل بمقدور الولاياتالمتحدة ان تنتصر في افغانستان باستخدامها قوى اقليمية تابعة من دون ان ترغم على ان تزج بقواتها في اتون المعركة؟ وإذا ما قررت ان تنشر قواتها، فهل سيكون أداؤها أفضل من أداء القوات الروسية عام 1980؟ لقد دخلت بريطانيا ثلاث حروب ضد الافغان في القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين لحماية الحدود الشمالية لامبراطوريتها الهندية وايقاف الزحف الروسي. لكن بريطانيا فشلت هي الأخرى في اخضاع القبائل الافغانية المتمرسة في فنون القتال والمقاومة. * كاتب بريطاني متخصص في شؤون الشرق الاوسط.