لم يخطر في بال ديفيد سنوداون، الطالب في كلية الطب في احدى الجامعات الأميركية، انه سيجد يوماً في دير للراهبات بالقرب من جامعته موضوعاً لأطروحته الأكاديمية. فهو كان يبحث في الأسباب التي تجعل من عمر الانسان عمراً مديداً عند بعضهم وعمراً قصيراً عند آخرين. وقد وجد سنوداون في مجتمع الراهبات حقلاً مميزاً لمقاربته العلمية، ذلك ان مجتمع الراهبات موحد ومنقطع عن المؤثرات التي قد تشوّه نتائج هذا النوع من الابحاث. فالراهبات لا يتزوجن ولا ينجبن ولا يدخّن ويتفرغن لخدمة الآخرين ويتناولن وجبات موحدة ومتشابهة التركيب الغذائي. وهن بعيدات من الهموم المالية والاقتصادية، ويخضعن لمسلك اجتماعي موحد. من هنا فإن حقل الدراسة المتجسد في دير الراهبات سمح للدكتور سنوداون لاحقاً بتقديم ابرز الدراسات العلمية المعاصرة حول العمر المديد وبالكشف عن اسرار بيو-اجتماعية فائقة الأهمية في اطار دراسة نموذجية تعرف اليوم بالدراسة حول الراهبات Nun Study. بدأ سنوداون اهتمامه بموضوع العمر المديد عام 1986، وما زال يتابع تعمّقه في هذا الحقل. في الواقع، دراسة سنوداون ليست اول من اتخذ مجتمع الراهبات حقلاً لها، إلا انها اول من اكتشف ارتباط مسألة العمر المديد بنوعية النشاط الذهني الذي يبدأ الانسان بممارسته باكراً. علماً ان باحثين آخرين كانوا لاحظوا في الولاياتالمتحدة، منذ السبعينات، ارتفاع نسبة سرطان الثدي عند الراهبات، مقارنة مع الاناث المتزوجات، الأمر الذي سمح بكشف علاقة عدم الانجاب بنمو سرطان الثدي عند الاناث على نحو عام. إلا ان الباحثين انفسهم لاحظوا حينذاك غياباً شبه كامل لسرطان الدماغ عند الراهبات. فارتباط النشاط الهرموني بانتشار سرطان الثدي تمخض عن ملاحظة باحثي الخمسينات. اما دراسة سنوداون فذهبت ابعد من هذه الملاحظات الطبية المحضة لتقدّم لنا تفسيراً لمعضلة توقف او تنامي النشاط الذهني عند الانسان مع تقدمه في السن. والمعروف ان هذه المسألة هي احد ألغاز المرض المعروف بداء الزهايمر، او الخرف المرضي. عندما قرر سنوداون المباشرة ببحثه حذّره رفاقه العلمانيون من ان مجتمع الراهبات مغلق، وأنه لا يحب الدخلاء، وأنه سيجابه على الأرجح بالرفض. فالراهبات لا يحبّذن التحرّش بخصوصيات حياتهن. لذلك كان سنوداون قلقاً عندما طرق باب دير راهبات نوتردام الكاثوليكيات في ولاية مينيسوتا، الذي يضم 200 راهبة، استمعت إليه الرئيسة يشرح لها اهمية دراسته من الناحية الطبية على معرفة الآليات المعيشية التي تساعد في اطالة عمر الانسان، ثم قالت له بهدوء: "نحن سعيدات بمساعدة الناس. وهذا سر وجودنا في هذه الحياة. لذلك يسرّنا جداً ان نسهم في انجاح هذه الدراسة لفائدتها العامة". وبعدما برد قلب سنوداون وبدأ التعاون بين الطرفين، أبدت اعداد متزايدة من الراهبات استعدادها للمشاركة في الدراسة. فبدل ان تقوم الدراسة على 200 راهبة في دير نوتردام في مينيسوتا فقط، شملت 670 راهبة من انحاء الولاياتالمتحدة المختلفة. فالراهبات رأين في هذا العمل خدمة للناس، في شكل غير تقليدي بالطبع. وما افاد اكثر فأكثر دراسة سنوداون ان تعاون الراهبات المذكورات الواعي والصادق افضى ايضاً بالمسؤولات في الأديرة المختلفة الى فتح ارشيف الدير حيث تمكّن سنوداون من الاطلاع على سيرة قسم لا بأس به من الراهبات المعمّرات كتبنها عند دخولهن الى الدير مطلع الثلاثينات. وكانت رئيسة دير نوتردام في مينيسوتا أنشأت هذا التقليد في كتابة سيرة الشابة قبل دخولها الى الرهبنة في شكل خطي. وقد علّق سنوداون على الأمر قائلاً: "عندما تمكنت من الاطلاع على هذا الأرشيف، شعرت اني اشبه علماء الآثار الذين يكتشفون مصادفة، مقبرة قديمة في وضعها الخام. فمعلومات الراهبات حول سيرتهن الذاتية، المدوّنة في الثلاثينات، سمحت لي بربط حلقات العمر الأولى بحلقاته الأخيرة. وهذا الاكتشاف كان حدثاً علمياً لأنه يستحيل عليك ان تجد هذه الكمية المميزة من المعلومات القديمة تخص مجموعة بشرية بإمكانك ان تستنطق قسماً لا بأس به منها اليوم". هكذا تمكن سنوداون من متابعة سيرة حياة ما يقرب من 300 راهبة ولدن في مطلع القرن او في العقد الأول او الثاني منه وما زلن على قيد الحياة. ولاحظ الباحث ان نسبة حَمَلَة الشهادات العليا من بين الراهبات المعمّرات الحاليات مرتفعة جداً، وتبلغ 85 في المئة من مجموعهن. وهنا تمكن سنوداون من اكتشاف احد اسرار العمر المديد، وهو المواظبة على استخدام الطاقات الذهنية في شكل مكثّف مدى الحياة. فكلما كانت الراهبة اكثر تقدماً في التعليم العالي، كلما كان امل حياتها اطول. وفي المقابل، كلما كان اهتمام الراهبة اقل بشؤون التحصيل الجامعي، كلما انخفض معدل امل حياتها بالمعنى البيولوجي للكلمة. اي ان هناك علاقة مباشرة بين تشغيل الطاقة الذهنية وأمد الحياة المتقدم. فالذين يستخدمون طاقاتهم الذهنية في شكل مكثف يعيشون اكثر من اولئك الذين يكتفون باستخدامها المحدود او بالحد الأدنى. وبالطبع هذه الدعوة الخفية للمواظبة على التحصيل العلمي ستُفرح الكثير من المربّين والعاملين في الحقل التعليمي، المدرسي والجامعي. فالتحصيل العلمي يحمي الانسان على المدى الطويل ويحصّنه على الصعيدين العقلي والجسمي. ومن هنا اهمية دراسة سنوداون التي تقع على خط التماس بين الفيزيولوجي والاجتماعي، ذلك ان الحقلين مترابطان ولا يقبلان الفصل. وبعد مدة من الزمن، في العام 1988، أراد سنوداون ان يتعمق في هذا الحقل، باحثاً في احد مجالات اصحاب العمر المديد، وهو امكان اصابة بعضهم بمرض الزهايمر. فالمعروف ان نصف الذين يتجاوزون سن الخامسة والثمانين يصابون عادة بهذا المرض، في حين لا يصاب به النصف الآخر. عاد سنوداون الى منجمه العلمي، الى الراهبات، لكنه هذه المرة ايضاً خشي مواجهة رفض صارم. ذلك انه كان عرض على الراهبات المشاركة معه في برنامج علمي جديد يقضي بإجراء فحوصات داخل الدماغ، بالجراحة، بعد وفاة المعمرات، المصابات بمرض الزهايمر وغير المصابات به. وهنا قال بعض زملائه ان الناس عموماً لا يقبلون سوى بنسبة 20 في المئة ان يُمس دماغهم بعد مماتهم، حتى لأغراض البحث العلمي. تحصّن سنوداون بالشجاعة وعاد الى راهبات نوتردام ليطلب منهن هبة ادمغتهن بعد مماتهن للمركز العلمي حيث يعمل، بغية محاولة كشف ألغاز داء الزهايمر المستعصي. وبالطبع كان من المفترض ان يكون وهب الدماغ افرادياً وطوعياً، للتمكن من تشريح الجثث بغطاء قانوني. وشرح سنوداون مشروعه لمجموعة اولى من الراهبات، وعندما انتهى من عرض فكرته ساد الصمت بينهن. ثم تكلمت راهبة، في الخامسة والتسعين من عمرها، فقالت لزميلاتها: "انه يطلب منّا المعونة، فكيف لا نساعده؟". وبعد فترة وجيزة، اثر تعميم النداء، وافق 66 في المئة من مجموع الراهبات على وهب ادمغتهن لمركز البحث العلمي. وبلغ عدد الموافقات، في انحاء الولاياتالمتحدة وكندا 678 راهبة فشرع سنوداون في الشق الآخر من دراسته، التي بدت مستحيلة الانجاز لولا موافقة هذا الجمع الغفير من الراهبات على المساهمة حيوياً فيها. وقد تبيّن للباحث الاميركي، الملم بماضي الراهبات وبسيرتهن المكتوبة قبل عقود من الزمن، انه كلما كان التعبير والتفكير اعمق في عمر الشباب كلما كان عمر الراهبة اطول من ناحية، وكلما كانت بمنأى عن الاصابة بمرض الزهايمر. اي ان علاقة نمو الطاقات الذهنية او تشغيلها المبكر كان يضمن للراهبة عدم تعرضها عند التقدم في السن لمرض الزهايمر. ويعلّق سنوداون على الأمر قائلاً: "لدرجة انه بامكانك ان تقدّر بدقة ان كانت هذه الراهبة ستصاب بمرض الزهايمر او لا من قراءتك لما كتبته في سيرة حياتها وهي في العشرينات، فالسيَر المكتوبة بعبارات وسياق لغوي وفكري متقدم ومثقف، قد تجنب صاحباتها، بعد خمسين سنة، الوقوع في مرض الزهايمر. والعكس صحيح، ما يعني ان مرض الزهايمر ليس وراثياً، بل يرتبط بمدى عدم التشغيل المبكر للطاقات الذهنية عند الفرد". وهذه الملاحظة أقلقت احد زملاء سنوداون الذي سأله: "ما الذي افعله مع اولادي، كي اقيهم شر الاصابة بمرض الزهايمر لاحقاً؟". فأجابته سوزان كيمبر، المشاركة في البرنامج البحثي الذي يشرف عليه سنوداون: "شجّعهم على المطالعة! فهذا يكفي". والمعلوم ان كيمبر هي اختصاصية الألسنية في فريق سنوداون. والمطالعة اهم ما في امكان الأهل ان يقدّموه لأطفالهم، على المديين المنظور والبعيد. وبيّنت الدراسة ان العنصر الآخر الذي يقي المعمّرين الاصابة بمرض الزهايمر هو المشي. فالأخت نيكوليتا، البالغة من العمر 91 سنة، تواظب على المشي منذ عشرين سنة. وهي غير مصابة بهذا المرض. المشي يسمح للإنسان بتخزين كمية كبيرة من الأوكسجين في جسمه. هذه المادة تقوم بدورها بتنشيط الخلايا الدماغية. فللوقاية من مرض الزهايمر عاملان اساسيان. اولهما التريّض الفكري الدائم، وثانيهما التريّض الجسمي الدائم. وهنا نعود الى القول الاغريقي القديم الذي كان يشدد باستمرار على ان العقل السليم في الجسم السليم. وسمحت الراهبات الكاثوليكيات في اميركا، بإخلاصهن لقضية الانسان، من منطلق فهمهن الروحاني العميق لرسالتهن، بتقدّم العلوم. فعلوم الله تقرّب من الانسان، تماماً كما ان علوم الانسان تقرّب من الله.