أول الكلام: من ديوانه "حصاد الغربة"، للشاعر العراقي/ زاهد محمد زهدي - رحمه الله: - يا كعبة الله صوتٌ جئت أرفعه من فلذةٍ ... بأسار الداء مرهون يرنو بعينيه، لا يقوى مخاطبةً ولا حراكاً ... وعيناه تُناجيني أكاد أسمعه يدعو بأعينه: يا رب ... مَنْ لي سوى الرحمن يشفيني؟!! لم يكن "موته" يبدو مفاجئاً لنا، فقد شاهدناه يُقطّر صبره الجميل مستعيناً بمرحه الذي يستمده في الغالب من حقيقة الموت لأنه حق! لكنّ المفاجئ لنا: كان "خبر" موته وهو يمشي فوق قضبان غربته عن وطنه! وهل موت "الشاعر" هو تجسيد - فقط - للغياب، أو لضجيج الحزن، أو لاندلاع حرائق اللغة الشاعرة، أو لانحسار ضوء يتشقّق من أغصان شجرة؟! والشاعر الذي جاء فقداننا له في عتمة همسات حبّنا ... هو الدكتور/ زاهد محمد زهدي، الذي قدّم لديوانه: "حصاد الغربة" شاعر مكةالمكرمة الكبير/ محمد حسن فقي، فوصف شعره بكلماته هذه: - "إن شعره ذو أصالة، وهو يحذو حذو الأوائل من شعراء العراق الكبار أمثال: الزهاوي، والرصافي، والجواهري، وأمثالهم من الأقدمين والشباب ... فهو شاعر تراثي مجيد ولا ريب"! أما الشيخ العلاّمة واللغوي الكبير/ أبو تراب الظاهري، فقد كتب عنه يقول: - "لقد شهد له أهل الحرفة والفن بأن ديباجته موْمُوقة، وممادحَه معشوقة، وطُنُبه مرموقة، وأقواله زاهية الحواشي، سواء خَمَّر معانيه في الذهن أم ارتجل كلماتها الموزونة مسترطة"!! وما زلنا نسترجع أصداء آخر لقاء لنا مع الشاعر الراحل عن دنيانا اللغط، وكان بمدينة جدة/ عروس البحر الأحمر، في "ثلوثية" الأديب/ محمد سعيد طيب الشهيرة ... وكان الصحب يتندّرون على اندفاع "أعمار" الكثير منهم الى طلائع الشيخوخة، والبعض يسمّيها: نكهة الرجولة، وحكمة الأعمار!! وفوجئنا بصوت الشاعر/ زاهد محمد زهدي يشارك في هذا الحوار بطريقة: روّحوا عن القلوب ساعة بعد ساعة ... وإذا به يسمعنا قصيدة في الموضوع! لم ينسَ اسم أي واحد من الصحب، وابتدأها بهذا المطلع عن صاحب "الثلوثية"/ محمد سعيد طيب، أبو الشيماء، فقال: - قال "أبو الشيماء": لسنا كلنا مثل حمد وإن فينا بعض فرسان ... عليهم يُعتمد! وقد ترى من بينهم فارسُ طَعْن، لا يُصدّ!! واستعرض في قصيدته جُلّ أسماء الحضور إلا مَنْ توارى، حتى فوجئت باسمي على لسانه، قائلاً: - أو انتحي أطراف أرض قفر منعزلاً مثل أخينا: الجفري سلاحه يهمّ أو يكاد يعزل تحت السادة الأسياد!! ما كان مثل هذا المرح بديل الموت، وكان الشاعر يعرف ولكنه يجهل التوقيت فهو من الله عز وجلّ ... ولكن الحياة بالنسبة لهذا الشاعر، كانت: مطاردة أشواق، وحدقة تفيض بالدمع الذي تصاحبه ابتسامة على شفتيه ... لم يكن أحد حاول ان يستكنه معنى تلك الابتسامة في غربته: هل هي ساخرة، أم ناقوس قلب؟! لكنّ الشاعر/ زاهد محمد زهدي: كان لا يتمهل الحياة بل يسابقها وكأنه يسفك كل رعودها، ويلتمع كالوجع أبداً في هطول مطره ... حتى فرار أنفاسه الأخيرة، كلمته الأخيرة، نظرته الأخيرة وقد فاضت روحه حباً ... يرحمه الله!!