عندما حمل جثمان فيكتور هيغو سنة 1885 الى مقبرة "بانتيون" الشهيرة في الدائرة الخامسة في العاصمة الفرنسية باريس حيث يرقد معظم كبار فرنسا الحديثة في الفن والكتابة والصناعة والعلم والسياسة والاقتصاد، كان طوى ثلاثاً وثمانين صفحة من كتاب الحياة وخلف للانسانية تركة ضخمة من المبادئ والقيم والأشعار والروايات. لذلك، على الارجح، تحلق حول النعش في ذلك اليوم الكئيب أكثر من مليون شخص. لم يكف فيكتور هيغو بعد ذلك عن اضاءة الحياة الابداعية الفرنسية، وإبهار الاجيال جيلاً تلو جيل بتركته الفنية في الرواية والشعر والتنظير والنقد والمسرح والسياسة. كان يكفيه ان يكون صاحب دواوين "الاشعة والظلال" و"الاصوات الداخلية" و"أوراق الخريف" و"أناشيد الأفول" كي يكون احدى الحلقات الاساسية في التمهيد لحركة الحداثة الشعرية التي ستفتح افقاً جديداً للشعر في فرنسا والعالم بأسره. بل كان يكفيه ان يكتب مقدمة لمسرحية "كرومويل" سنة 1837 كي يصبح اهم منظري الحركة الرومانسية وأباً لهذا التيار الرقيق في الكتابة والفن، لكنه اضافة الى كل ذلك ألّف مسرحيات كثيرة ما زالت الى اليوم تقدم على خشبات مسارح العالم: "ماريون دولورم" و"لوكريس بورجيا" و"روي بلاس" و"إدناني"... مثلما انجز الأعظم: رواية "البؤساء" سنة 1862، وقبلها "نوتردام دو باري" وبعدها "عمال البحر"، من دون ان ننسى كتاب "التأملات" وملحمة "أسطورة القرون". ومثل جل عظماء عصره، دلف هيغو الى الحياة السياسية من باب العدل والمساواة والآخاء والتنوير. اصبح نائباً سنة 1848 واضطر للفرار الى المنفى بعد انقلاب 2 كانون الاول ديسمبر 1851، ومن هناك اصدر كتابه اللاذع ضد نابوليون الثالث: "العقوبات". في احد الكتب المدرسية المقررة لطلاب الثانويات الفرنسية يظهر هيغو تحت احدى قصائده الشهيرة في صورة مركبة بلحيته البيضاء ونظرته النافذة. وارتدى سروالاً من الجينز وسترة جلدية سوداء. ولا يستبعد ان يكون في احد جيوبه هاتف محمول... الصورة تقول كل شيء: هذا رجل عابر للسنين. انسان حديث ومعاصر الى الابد! وما زال فيكتور هيغو وجهاً مضيئاً في المشهد الثقافي الفرنسي والانساني. يظهر ثم يختفي، هادئاً ومربكاً وواثقاً مما كتب. يوم 25 ايلول سبتمبر الماضي، وعلى خشبة مسرح "موغادور" في باريس، عادت الكوميديا الموسيقية المستلهمة من روايته "نوتردام دو باري" الى استئناف عروضها في العاصمة الفرنسية. وهو احد اهم العروض وأضخمها التي انتجت في نهاية القرن الماضي. حدث تجاري واعلامي وفني كبير جعل الفرنسيين يودعون القرن العشرين على وقع نواقيس كاتدرائية هيغو. الرواية تحكي قصة مشردين ينبذهم المجتمع فيلوذون بكاتدرائية "نوتردام". هناك تكشف الأحداث عن علاقات انسانية مركبة تدور حول شخصية اسميرالدا الغجرية الفاتنة، التي يقع في حبها اشخاص من آفاق وطبقات متفاوتة: الأحدب البشع كازيمودو خادم الكاتدرائية، وهو شاب في العشرين من عمره، لا يتكلم تقريباً. هيئته المخيفة تسبب له شعوراً عميقاً بالنبذ والتهميش. يبدو مستعداً لفعل اي شيء من اجل اسميرالدا بيد انه خاضع روحاً وجسداً لأبيه بالتبني كلود فرولو. وفرولو هو اسقف كاتدرائية "نوتردام". عمره ستة وثلاثون سنة. شخصية مثقفة نهلت من العلوم والفلسفة، لكنها مستبدة. يعشق بدوره اسميرالدا على رغم انها تصغره بعشرين سنة، لكنه يقاوم عواطفه ويتهم الشيطان. تبنى كازيمودو مذ كان صغيراً وعندما كبر اصبح يعامله كعبد لديه. اما بيار غرينغوار العاشق الثالث فهو شاعر وكاتب وفيلسوف يلحق باسميرالدا اينما ارتحلت. سيحكم عليه بالشنق قبل ان تنقذه اسميرالدا وتتزوج منه... زواجاً أبيض! اما اسميرالدا المحور الدرامي للعرض، فعمرها ست عشرة سنة، تمقت الأسقف فرولو وتعطف على كازيمودو وغيرنغوار، وتحب قائد رماة النبال فويبيس لأنه انقذ حياتها بفضل شجاعته. فويبيس يشتهي جسد اسميرالدا بيد انه مخطوب لفتاة بورجوازية تدعى فلور دوليس وهذه الفتاة تغار من فتنة اسميرالدا ومقدرتها على استمالة قلوب العشاق. الشاعر الكندي ليك بلامونديون الذي اقتبس الرواية وحوَّل مئات الصفحات الكلاسيكية الى بضع قصائد غنائية رشيقة موزعة على فصول، جعل هيغو لا يكتفي باضاءة علاقات حب مركبة بين الشخصيات، بل يعالج مشكلة المهاجرين السريين الذين يعيشون على هامش المجتمع لأنهم بلا اوراق اقامة، والزواج الابيض كخلاص مخاتل من ديكتاتورية القوانين، مثلما يتحدث عن صعود الانسان الى القمر وأحلام الألفية الجديدة. وعبر لوحات تؤالف بين القصيدة الدرامية في ثوب حديث والجملة الموسيقية الاوبرالية، وادارة الممثل التي تصالح بين الاداء الانفعالي والكوريغرافيا في احدث تعبيراتها الهيب - هوب، استطاع الثلاثي الذهبي: ليك بلامونديون شاعراً وريشار كوكسيانتي موسيقياً وجيل ماهو مخرجاً ان ينسج ملحمة معاصرة من عباءة هيغو. عرض مُسرف في لغته المسرحية، على مستوى الحركة والسينوغرافيا والايقاع والتصاعد الدرامي: عدد كبير من الممثلين والراقصين يؤثثون فضاءات العرض التي تهيمن عليها ساحة "نوتردام" وباحتها الداخلية او اماكن اخرى معروفة في العاصمة الفرنسية. حين جرى تقديم العرض الاول في مسرح "قصر المؤتمرات" في باريس يوم 16 ايلول 1998 كان مشروع الكوميديا الموسيقية غطى ثلاثة اضعاف تكاليفه، وذلك بفضل المبيعات الضخمة التي حققتها شرائط الاغاني في الاسواق الفرنسية والعالمية. كما كانت مقاعد العروض محجوزة عن آخرها طوال الموسم بفضل الحملة الاعلامية الضخمة التي اتاحتها اغاني العرض التي وزعت في الاسواق سلفاً، الجمهور كان يحفظ عن ظهر قلب "حسناء" و"زمن الكاتدرائيات" و"البوهيمية" و"ان تعيش"... وكان يبكي مع كازيمودو امام جثة الفاتنة اسميرالدا في نهاية العرض كل مساء. ايلين سيغارا اتيحت لها فرصة العمر عندما لعبت دور الغجرية، وأصبحت بعد "نوتردام دو باري" نجمة متألقة في سماء الاغنية الفرنسية. اما دور كازيمودو فأسند للفنان الكيبيكي غارو ولعب لافوا دور فرولو. بعد ذلك تواصلت العروض في مختلف بقاع العالم. تشكلت فرق جديدة من ممثلين ومغنين جدد في فرنسا ومونتريال وأنجزت نسخة انكليزية للعرض في مسارح لندن وكندا، ادت فيها المغنية الاسترالية تينا ارينا دور اسميرالدا. اليوم على خشبة مسرح "موغادور" في باريس يعود فيكيتور هيغو ليسحر آلاف المشاهدين كل مساء، في عرض متألق وعميق. ويعود غرينغوار ليصدح عالياً في بداية ونهاية العرض: جاء زمن الكاتدرائيات/ دخل العالم/ الى ألفية جديدة / كان الانسان يريد ان يصعد الى النجوم / ان يكتب تاريخه / فوق الزجاج وفوق الحجر: / لقد أفلس زمن الكاتدرائيات ها هو حشد البرابرة / على ابواب المدينة / دعوا هؤلاء الكفار والوندال يدخلون / نهاية هذا العالم / مرتقبة في العام ألفين / مرتقبة في العام ألفين!