انحسر الفكر العربي الوحدوي انحساراً مفجعاً. ولم تعد كلمة "الوحدة العربية" ذات الرنين الساحر ذات يوم، تتردد حتى على ألسنة المفكرين العرب. ولولا مركز دراسات الوحدة العربية الذي يحاول جاهداً إعادة الفكر القومي الى الواجهة، لما سمعنا، أو قرأنا شيئاً عن الوحدة العربية، ولا عن السوق العربية المشتركة، ولا، حتى، عن التضامن العربي، إذ انصرفت كل دولة عربية الى توثيق إقليميتها بمعزل عن الدول العربية الأخرى، وإن كنا نلمح حالياً، محاولة نرجو أن تنجح، في التكامل بين لبنان وسوريا، عبر اتفاقات وقوانين، لم يظهر منها بعد لا خيرها ولا شرها، ونأمل خيراً بالتأكيد. في فورة القومية العربية، وبعد الثورة العربية الكبرى، كان حلم الوحدة قاب قوسين أو أدنى من تحقيقه، وتجسد الحلم أولاً بقيام الجامعة العربية، التي لو طبقت كل دولة عربية ميثاقها بحذافيره لوصلنا إلى شكل من أشكال الوحدة من دون أي عناء، لكن هذا الميثاق عصفت به الخلافات العربية، فأصبح حبراً على ورق. ومما عزز الهروب من "الوحدة" فشل الوحدات التي قامت بين مصر وسوريا أولاً، وبين مصر وسوريا والعراق، وبين مصر وليبيا، وليبيا وتونس الخ، حتى الاتحاد المغربي نفسه، أصبح حبراً على ورق، وكلما قامت حركة ما لإحيائه... باءت بالفشل، فالجزائر والمغرب على خلاف حول الصحراء الغربية، وكل طرف منهما يغذي الحرب التي تعصف حيناً وتهدأ حيناً آخر... إلى جانب الخلافات التي تظهر على السطح بين الدول المغاربية وتختفي على شكل المد والجزر. إلا أن الوحدة الوحيدة التي قامت وتعمدت بالدم واستمرت هي وحدة اليمنين، وإن كنا نخاف عليها من المؤامرات التي تعصف بها من كل جانب. هل بسبب هذه الأحداث وغيرها فقد المواطن العربي اهتمامه بالوحدة، وفقد الأمل بإحيائها ولو على مراحل؟ مع أن كل مظاهر الوحدة موجودة أصلاً في الحياة العامة للمجتمع العربي: الدين واللغة والتقاليد والتاريخ والجغرافيا والتشابك الأسري العربي على نطاق واسع، عكس أوروبا المتناقضة لغة وديناً وتاريخاً الى جانب حربين عالميتين أكلتا الأخضر واليابس، ومع ذلك توحدت لتقوى وتقف في وجه الأعاصير من الدول الكبرى الأخرى: الولاياتالمتحدة واليابان والصين... وقوة العرب في وحدتهم، لأنهم محاطون بالأعداء من كل جانب، ومن أبسط الأمور ان يتوحدوا ويتضامنوا كي يكونوا قوة فاعلة تستطيع الدفاع عن نفسها ضد العدو الصهيوني المتربص بها... الغريب من كل ذلك أن معظم الدساتير العربية، إن لم تكن كلها، تطلب وتسعى الى الوحدة العربية في مادة أو مواد عدة من موادها. وإليك بعض الأمثلة: "الإعلان الدستوري الليبي ينص في مادته الأولى على أن ليبيا جمهورية عربية وأن شعبها جزء من الأمة العربية، هدفه الوحدة العربية الشاملة". ودستور العراق ينص في مادته الأولى على أن "العراق جمهورية ديموقراطية هدفه الأساسي تحقيق الدولة العربية الواحدة". أما الدستور المصري فينص على ان "الشعب المصري جزء من الأمة العربية يعمل على تحقيق وحدتها الشاملة". في الدستور السوري ينص في مادته الأولى على أن "الشعب السوري جزء من الأمة العربية ويعمل ويناضل لتحقيق وحدتها الشاملة"، فيما ينص دستور البحرين في مادته الأولى، على أن "شعب البحرين جزء من الأمة العربية، وإقليمها جزء من الوطن العربي الكبير". ويقول دستور قطر: "ان اتحاد الدول العربية في المنطقة ضروري ومصيري تحتمه المصالح العربية العليا المشتركة في المنطقة خصوصاً، وفي الوطن العربي الكبير عموماً"... أما دستور الأردن فينص بمادته الأولى على أن "الشعب الأردني جزء من الأمة العربية". ويقول دستور الكويت ما يشبه ذلك بأن "شعب الكويت جزء من الأمة العربية". ودستور اليمن ينص في مادته الأولى على أن "الشعب اليمني جزء من الأمة العربية والإسلامية". أما الميثاق الوطني الفلسطيني فيؤكد أن: "الوحدة العربية وتحرير فلسطين هدفان متكاملان يهيئ الواحد منهما الآخر، فالوحدة العربية تؤدي الى تحرير فلسطين وتحرير فلسطين يؤدي الى الوحدة العربية". ويقول الدكتور محمد المجذوب حيث مصدر الدساتير في دراسة له: إن هناك مجموعة من الدساتير العربية تخلو من أي إشارة الى مسألة الوحدة العربية، وإذا كان بالإمكان ايجاد أعذار مخففة لبعضها لأسباب نابعة من أوضاع الدولة السياسية والاجتماعية - لبنان مثلاً - فمن الصعب تبرير الإهمال الذي نجده في بعضها الآخر. على كل حال، الى جانب الدساتير العربية الراهنة والمعمول بها، نجد وثائق ومواثيق وإعلانات ومشاريع دستورية، أو ذات صيغة دستورية، تعلن الإيمان بالوحدة في نصوص واضحة". إذاً، ألا يلقي الزعماء والقادة العرب نظرة على دساتيرهم التي أقسموا على أن يحافظوا عليها ويحققوها، أم أن أحداً منهم لم يزعج نفسه في قراءة دستور بلاده، مع أن من أولى واجباته قراءته وتحقيق نصوصه، مع أن ذلك اقترن بيمين القسم في المحافظة على الدستور والتقيد ببنوده ومواده وتحقيق أماني الشعب في الوحدة التي هي أولاً وأخيراً قوة العرب وحمايتهم من الأعداء في كل مكان؟! * كاتب سوري.