للغيرة وجهان. الأول وهو ما يمكننا وصفه بالشعور الإيجابي ويتمثل بالتقليد النفعي أو بالطموح البناء نحو الأفضل والأحسن من خلال المنافسة الخلاقة والمبدعة، فيحاول الغيور مثلاً التطلع الى مقدرات الغير ليصبح مثله أو أفضل منه. أما الوجه الآخر، أي الغيرة السلبية، فهو الجانب الذي يؤدي الى نتائج مدمرة عموماً، لاتصافه بالأنانية وحب التملك الذي يُمارس نحو من نُحب، بسجنه نفسياً أو جسمانياً في كثير من الأحيان. فيحاول الشخص الغيور منع الشخص الآخر المحبوب من حقوقه ومن كثير من الأشياء التي يتمتع بها، بالاحتفاظ به وبما يمتلك من مواهب وأمور أخرى... فالغيور يبحث عن السلطة والاستبداد ولا يسمح للغرباء بالنظر اليه أو التفكير به أحياناً أو بأخذه. وما يقوم به عادة هو المحاولة الجادة الواعية أو غير الواعية لاسترجاع ما هو مُلكه أو حقه. فهو لا يتوانى عن القيام بأي عمل يمكن أن يَحتمل استعادته، ويصبح الغرباء مكروهين بالنسبة اليه، وتنشأ لديه عدوانية شديدة ضدهم، علماً انهم من الأصدقاء خصوصاً أو من المحيطين بهم. ويعرف علم النفس الغيرة بأنها من "أعراض الضعف الأخلاقي والفقر الوجداني، وشعور بالنقص نحو الآخر، أياً تكن صفته وميزاته، فالغيور يحاول ردم الفراغ الداخلي، إذ يعاني شعوراً بالدونية والنقص السيكولوجي". وتقول ميريم بوك مان 28 عاماً: "أحبه كثيراً جداً، وأغار عليه أكثر، خصوصاً وهو بعيد. فأنا أشك فيه كثيراً، وأخاف من أن يتركني أو يفكر بغيري، لأنني أعرف بوجود اغراءات كثيرة حوله، وهذا سبب لنا الكثير من المشكلات. والغيرة أمر خطير تؤدي الى أمور خطيرة، وتصبح مرضية إذا قويت، وفي حال وجودها لا أستطيع أن أفعل شيئاً". الغيور يتدخل في حياة المحبوب في شكل دقيق، ولا يَسمح للثقة، وان بسيطة، بأن تخفف من غيرته، فيترك شكه يستبد به كما يروق له، ويتلذذ به أحياناً، فيشغل فكره وباله وهذا ما يسبب آلاماً له وللآخر، فيصبح مصدر ازعاج له ولنفسه ويضيّق حوله. وتقول رولا شهابي 26 عاماً: "زوجي متزوج عليّ، أحياناً أحس أنه يحب زوجته الأخرى أكثر مني. وهذا ما يجعلني حزينة جداً، خصوصاً إذا غاب عن البيت يوماً واحداً. وأعتقد ان الرجل يُفضل دائماً امرأة على أخرى، ولا يستطيع العدل بينهما. والرجال أذكياء عادة، خصوصاً زوجي، فهو يحاول اثارة غيرتي دائماً بذكر زوجته الأخرى، كي أظهر له اهتماماً وحباً أكبر. وأنا أغار عليه كثيراً من زوجته الأخرى، مع أنني لا أعرفها، حتى لو تكلم عليها فقط أمامي. لكن حقي مهضوم لأنني الثانية الدخيلة، وأنا أغار من الفتيات الأصغر والأجمل مني ان تكلم معهن فقط، وهو أيضاً يغار عليّ كثيراً". يضع الغيور المحبوب في قفص الاتهام، ويضع نفسه في منزلة الحاكم الوصي الذي يستأثر بكل ما في المحبوب من جمال وجسد وفكر. وقد يهدد الأخير بانسحابه من حياته، فيعيش ذاك في حال من القهر. ويقول سامر طنجي 27 عاماً: "الغيرة جزء من الغريزة، كثر يقولون انهم لا يغارون، ولكن عند المحك تظهر الغيرة في شكل لا إرادي، انها موجودة لدى كل انسان، وعلى مدى كل العصور، وهناك أنواع للغيرة، منها الايجابية التي لا تسيء الى الآخرين، ومنها السلبية التي تؤدي الى الدمار". وتفصح نسيبة الأحمد: 30 عاماً: "أغار على حبيبي من البنات كثيراً. فأنا لا أحب أن تكون له صديقات، لأن هذا قد يهيئ المناخ لحب احداهن، أو الى الاهتمام بها أكثر مني. وهذه غيرة ايجابية لا سلبية". ويعترف فارس خليل 25 عاماً: "أحب حبيبتي كثيراً، لكنني أيضاً أحب جميع الفتيات وأحياناً لا أصرح لهن ان لي حبيبة. لكنني لا أسمح لها أبداً بالتفكير بغيري أو بمصادقة أحد غيري. فأنا أغار عليها كثيراً، وأحس أنها ستحبه ان تكلمت معه". وتشكل الغيرة مجموعة من الأوهام والوساوس والانفعالات، ويمكن ألا يكون لها أساس من الصحة، وان تكون على حساب الشخص المحبوب. وهذه غيرة جنسية صرف. ففي مثال الزوجة، هي تعرف ان زوجها متزوج قبلها من أخرى نتيجة دافع ما، قد يكون جنسياً. أما بالنسبة الى الشاب الذي تحبه الفتيات، فالمشكلة تكمن في الشاب الغيور، وهو مرتبط لكنه لا يكتفي بما لديه. وعلى هذا يعلق علم النفس: "يعتقد الغيور انه يحب، إلا ان كل ما يفعله أو يتفوه به ما هو الا وسيلة بحث دائمة عن أمانه الداخلي، متناسياً ما يحدث للآخر من عدم أمان، أو غير مكترث به. فالغيرة هنا أنانية سلبية، تبحث عن ارضائها فقط، محاولة امتلاك المحبوب، فلا تترك له أي مجال حتى يعيش حالاً سوية. وهكذا فإن اللاأمان الدائم لدى الغيور هو من الشدة الى درجة يُحتمل أن يكشف أدنى استخفاف من المحبوب به عن هوة وجدانية عميقة يعجز ضعفه عن ردمها". ويقول عدنان فراج 35 عاماً: "امرأتي تغار كثيراً. ولم أعد أطيق العودة الى البيت حيث أشعر انني أكره حياتي وأفكر أحياناً كثيراً بالقيام بأشياء منافية للمنطق. فهي لا تدعني أهنأ بشيء، لا تتمنى لي السعادة أو النجاح في حياتي. وكل شيء أقوم به، ولو كان بسيطاً جداً، يعني لها الكثير ويسبب لي المشكلات. إذا لبستُ جيداً وعطرت، فإن هذا شيء خطير، فتسألني: ألديك موعد غرامي، وهل هي أجمل مني؟ لا أستطيع أن أرد عليها، لأنني أعرف مسبقاً ان هذا سيؤدي الى صراع نتائجه مدمرة من دون أي شك. أشعر أنني في سجن من المراقبة والتسجيل. كل شيء ممنوع. تخليت عن معظم علاقاتي بسببها، فهي تريدني لها وحدها، لا يشاركها أحد بي". الغيرة إذاً مصدر مؤلم لمعظم الزيجات. ويعرف علم النفس هذا النوع منها بأنه "تشبث كلي. فالمرأة هنا تتشبث بالمحبوب، وتنظر اليه على انه شخص عام يحرم عليه أي أمر شخصي أو عفوي. وتتضمن الغيرة أحياناً عداوة مخيفة. فهي شرسة عنيفة، دوافعها غير نقية، تهتم بأدق التفاصيل، وموجهة في شكل بارع نحو من سببها، فيصبح الآخر مكروهاً، وتقوى هذه العداوة حيال كل ما يمكن أن يُشغل المحبوب، وهي متكررة ومتواصلة". ويقول زياد أبو صالح 26 سنة: "ان الغيرة أمر نسبي بين شخص وآخر، وتختلف من موضوع الى آخر. أغار أحياناً وتحمل غيرتي شيئاً من العدوانية. لكن هذه الغيرة العدوانية لا بد من أن تنتهي يوماً ما. أغار كثيراً على من أحب، وان تكلمت الى شاب كلاماً عادياً. ولكن إذا كنتُ أعرف الشاب الآخر، لا أغار لأنه صديقي في النهاية، وإذا أصبحت علاقتهما قوية، تصبح غيرتي كبيرة جداً. بصراحة سأكسر رأسها وأشعر بالغيرة من صديق، يمتلك نقوداً أكثر مني، فتاته أجمل من فتاتي، وحظه أفضل من حظي. ولا أغار إذا كان أنجح مني دراسياً أو ثقافياً، لأن في استطاعتي أن أكون أفضل منه أو مثله". وكما سبق، تتضمن الغيرة عدوانية حيال من نحب. وهذا واضحٌ تماماً في مثال زياد. فالغيرة في سن الرشد هي من أعراض القصور السيكولوجي. والاستبداد وممارسة العنف والقوة بصراحة سأكسر رأسها هي الحل الوحيد المناسب لإطفاء نار غيرته وغضبه. هذه الغيرة أكبر دليل الى السبب الجنسي، يقول زياد "اذا كانت فتاته أجمل من فتاتي". المراهقة مرحلة انتقالية في حياة الشخص، وهي شاقة ومنفعلة ومضطربة وتمتاز بالفوضى واللامنطق أحياناً. والغيرة لدى المراهق تكون في أوجها وهي حادة متسرعة ان لم تكن متهورة، وهي مجنونة وشرسة وتصوب في شكل عنيف نحو المحبوب. المراهق عادة يحبُ صديقه ويؤمن به، ويغار منه كثيراً، ويقلده، مع انه قد يُكرس نفسه، جسداً وروحاً، لشخص راشد موضع اعجاب. ويقول زاهر المنفلوطي 19 عاماً: "أغار عليها كثيراً، وأفكر كثيراً بها، ولا أستطيع رؤيتها مع شخص آخر، وان كان قريباً لها. أغار عليها أحياناً من أخوتها، وأحاول منعها من الخروج بطريقة غير مباشرة، كأن أحرض أهلها بالتلميح لهم: "ابنتكم جميلة والعين عليها، وخروجها وحيدة خطير عليها. إذا صدف ان رأيتها مع شاب ما، لن أتوانى عن ضربه أو التشهير به...". وتقول ريتا حرب شاهين 15 عاماً: الغيرة أمر عادي، ينشأ مع الإنسان منذ ولادته. لا أغار من أخوتي كثيراً، لكنني أتصنع أحياناً الغيرة من أجل لفت نظر أمي اليَّ. أغار من صديقتي التي أحب، إذا تفوقت عليّ دراسياً، أو إذا أحبها أساتذتي أكثر مني. أغار من أستاذ الموسيقى، فأنا معجبة جداً بعزفه، وها أنا دائمة المحاولة لأكون مثله أو أفضل منه". وتقول اسراء برجكلي 7 سنوات: "أغار من لينا. فهي أشطر مني والمعلمات يحبونها أكثر مني. فكلما طرحت المعلمة سؤالاً تجيبها وترفع يدها. أريد أن أكون أشطر منها، لكي تحبني معلماتي أكثر منها". وغيرة الأخ من أخيه ظاهرة شائعة الى حدٍ ما، إذ يحوز الطفل حب والديه واهتمامهما، ويترعرع في الدلال، الى ان يولد آخر له. فينتقل الاهتمام اليه، وهذا ما يحرك في البكر مشاعر الغيرة ويؤججها، ويصبح في بعض الأحيان عصبي المزاج، وهذا رد فعل طبيعي. فيحاول إيذاءه عندما تُتاح له الفرصة المناسبة. وتتضاعف هذه المشاعر العدائية إذا لم يتصرف الأهل بحكمة حيال ذلك. فالدلال الزائد تأثيره سلبي. وتقول يارا الشارابي: 8 سنوات: "أغار من أخي الصغير كثيراً. فأهلي يحبونه أكثر مني ويحضرون له الشوكولا دائماً، وينسونني، أحياناً وعندما أحس أني غاضبة منهم كثيراً، أحاول ضربه أو جعله يبكي. لكنني أحبه وأحب أن أراه دائماً في البيت". ويغار الولد من والده والفتاة من أمها. فيحاول الطفل التعويض بتقليد الأب بحركاته وبوضعه يديه خلف ظهره أو بمسكه السيجارة أو بإعطاء النقود لأمه كي تصرف على البيت. والسبب والده يشاركه الذكورة. أما بالنسبة الى الفتاة فتقلد أمها، بوضع الماكياج أو تسريح شعرها ولباسها. إلا ان الكثير من عواطف الطفل لا شعورية، فيفرغ غيرته بعدوانية خطيرة أحياناً. وعلى المربين والوالدين معالجة هذا الموضوع منذ بدايته. كأن يوضحوا للولد أو للفتاة انهم يحبونه كما يحبون أخوته، وألا يفضلوا أخوته عليه. فالغيرة تتجلى لدى الطفل أول الأمر بصفتها خطأً فادحاً هذا ما يتحقق في عقدة أوديب، وإذا لم نعالج هذا الموضوع، فسنجد المراهق يعاني ضرورباً لا شعورية من عواطف الإثم والشعور بالدونية والجنسية المثلية الكامنة الخ.