أمانة القصيم تحقق التميز في كفاءة الطاقة لثلاثة أعوام متتالية    أمانة الشرقية تطلق أنشطة وبرامج لدعم مبادرة "السعودية الخضراء"    نيوم بطلًا لدوري يلو    نائب أمير حائل يزور فعالية "أساريد" في قصر القشلة التاريخي    تحولات كبيرة في قطاع التعدين بالمملكة.. نمو وتشغيل استثنائي خلال الربع الأول من عام 2025    آل جابر يزور ويشيد بجهود جمعيه "سلام"    "فلكية جدة": رصد هلال شهر ذي القعدة في سماء الوطن العربي بعد غروب شمس اليوم    الأمين العام لمجلس الشورى يشارك في اجتماع الأمناء العامين للمجالس الأعضاء في منتدى حوار جنوب - جنوب    العمليات العقلية    6 مطارات لخدمة الحجاج    انخفاض أسعار الذهب بنحو واحد بالمئة    وزير الخارجية ونظيره القطري يبحثان تعزيز التعاون المشترك    هجوم على الفاشر ومجزرة في أم درمان وضربات للبنية التحتية.. الجيش السوداني يُحبط خطة شاملة لميليشيا الدعم السريع    قفزات استثنائية للرؤية السعودية (1 4)    في ذهاب نصف نهائي دوري أبطال أوروبا.. إنتر المتراجع ضيفًا على برشلونة المتوهج    ينتظر الفائز من النصر وكواساكي.. الأهلي يزيح الهلال ويتأهل لنهائي نخبة الأبطال    وزير الخارجية يبحث العلاقات الثنائية مع نائب رئيس فلسطين    11.3 مليار ريال استهلاك.. والأطعمة تتصدر    هيكل ودليل تنظيمي محدّث لوزارة الاستثمار.. مجلس الوزراء: الموافقة على تعديل نظام رسوم الأراضي البيضاء    "الشورى" يطالب "التلفزيون" بتطوير المحتوى    المرور: تجاوز المركبات أبرز أسباب الحوادث المرورية    التقوا رئيسها واستمعوا لتوجهاته المستقبلية.. رؤساء تحرير يطلعون على مسيرة التطور في مرافق "أرامكو"    نائب أمير مكة يطلع على التقرير السنوي لمحافظة الطائف    حوار في ممرات الجامعة    هند الخطابي ورؤى الريمي.. إنجاز علمي لافت    ترامب وهارفارد والحرية الأكاديمية    خلال لقائه مع أعضاء مجلس اللوردات.. الربيعة: السعودية قدمت 134 مليار دولار مساعدات ل 172 دولة حول العالم    الاحمدي يكتب.. الهلال سيعود ليُعانق البطولات    أمير الرياض يكرّم المتطوعين والمشاركين في {منقذ}    سعود بن نهار يثمن مبادرة "الطائف المبدعة"    انطلاق مبادرة "الشهر الأزرق" للتوعية بطيف التوحد بالأحساء    إسبانيا: الحكومة والقضاء يحققان في أسباب انقطاع الكهرباء    جيسوس: الأهلي كان الأفضل    محمد بن ناصر يزف 8705 خريجين في جامعة جازان    أمير الشرقية يستقبل السفير البريطاني    أمانة الرياض توقع استضافة "مؤتمر التخطيط"    العلاقات السعودية الأميركية.. الفرص والتحديات    "هيئة العناية بالحرمين": (243) بابًا للمسجد الحرام منها (5) أبواب رئيسة    مسؤولو الجامعة الإسلامية بالمالديف: المملكة قدمت نموذجاً راسخاً في دعم التعليم والدعوة    مدير عام الجوازات يستقبل أولى رحلات المستفيدين من مبادرة طريق مكة بمطار الملك عبدالعزيز الدولي بجدة    بدء المسح الصحي العالمي 2025    "الداخلية" تحتفي باليوم العالمي للصحة المهنية    مستشفى الملك خالد بالخرج يدشن عيادة جراحة السمنة    الاتحاد السعودي للهجن يؤكد التزامه التام بتطبيق أعلى معايير العدالة وفق اللوائح والأنظمة    فريق فعاليات المجتمع التطوعي ينظم فعالية بعنوان"المسؤولية الإجتماعية للأسرة في تعزيز الحماية الفكرية للأبناء"    إيلون ماسك يقلق الأطباء بتفوق الروبوتات    سان جيرمان يقترب من التأهل لنهائي "أبطال أوروبا" بفوز في معقل أرسنال    أسباب الشعور بالرمل في العين    اختبار للعين يكشف انفصام الشخصية    نائب أمير منطقة مكة يستقبل محافظ الطائف ويطلع على عددًا من التقارير    قصف مستمر على غزة لدفع الفلسطينيين إلى الهجرة الطوعية    تنوع جغرافي وفرص بيئية واعدة    المسار يسهم في نشر ثقافة المشي والتعرف على المواقع التراثية وجودة الحياة    الصوت وفلسفة المكان: من الهمسات إلى الانعكاسات    للعام السابع.. استمرار تنفيذ مبادرة طريق مكة في 7 دول    أمير جازان يستقبل مدير فرع الرئاسة العامة للبحوث العلمية والإفتاء بالمنطقة    محمد بن ناصر يتسلّم التقرير الختامي لفعاليات مهرجان "شتاء جازان 2025"    أمير منطقة جازان يرعى حفل تخريج الدفعة ال20 من طلبة جامعة جازان    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



"خيركم من تعلم القرآن وعلمه" ولكن ... . كيف تحولت الصورة الاولى من مجتمع تربوي بلا مدارس إلى مجتمعات بلا تربية ؟ 2 من 2
نشر في الحياة يوم 19 - 01 - 2001

إن أسلوب التعليم له التأثير الكبير على أمور الحياة عموماً، لأنه إما أن يحول التصورات إلى تصرفات، فيحول الثقافة وهي شيء نظري، إلى قيم وأعراف اجتماعية تطبيقية، تدفع الأمة إلى التفوق الروحي والأخلاقي، والاجتماعي والعمراني معاً، فيكون مبادئ تبنى عليها نظرية المعرفة العملية، وفلسفة التربية الناهضة.
وإما أن يعلم الرواية والتكرار، والسلبية والنكوص، وإضاعة الوقت والمال، فيسهم أسلوبه في انحطاط الأمة وتخديرها، وتعرض شخصيتها للذوبان والانبهار والانقراض، ويقدم تأويل الدين، على أنه تطبيق للشريعة. فيزيد في سبات الأمة، ويرسخ غفلتها الحضارية.
كان الصحابة يلتزمون الأول، فقد كانوا "إذا تعلم أحدهم عشر آيات، لا يتجاوزهن حتى يعرف معانيهن، ويعمل بكل ما عرف وعلم، وينفذ أوامر الله أمراً أمراً وحكما حكماً، لا يتعداها ولا يتجاوزها". و "بهذا الأسلوب التعليمي أصبحوا خير أمة أخرجت للناس" كما ذكر الشيخ محمود الصواف رحمنا الله وإياه القرآن:أنواره 25.
لقد قرأوا قراءة تمهل وتدبر، كما أمرهم الله من خلال أمر رسوله: "وقرآنا فرقناه، لتقرأه على الناس على مكث" أي على توءدة وتمهل. من أجل هذا كانوا تجسيدا اجتماعيا للقرآن.
فإذا أردنا أن يكون الإسلام هرمون الخصوبة، ومولد الضوء والحرارة، وباعث النهضة والحضارة وحاميهما، فلنجدد طريقة القراءة، ولنتذكر أن الأمة الناهضة، يمكن أن تكون أمة قوية ولو كانت بلا مدارس، ولكنها لا يمكن أن تكون أمة قوية إذا كانت بلا تربية، وأن انفصام العلاقة التراتبية بين المدرسة والمجتمع، هي سر انحطاط الأمم " أي أن الأثر الاجتماعي، هو الذي يقيم المحتوى المدرسي، وأن تقييم المناهج التعليمية، لا يكون إلا بتركيز النظر على العلاقة بين المدرسة والمجتمع .
وهذا هو الأسلوب الصحيح للتعليم، أي أن وظيفة المدرسة ليست تلقين المعلومات فحسب، بل استثمارها الذي يثمن قيمة استظهارها، واستثمارها مسألة تدخل في التربية الاجتماعية.
أجل كانوا مجتمعاً بلا مدارس، ولكنهم لم يكونوا مجتمعاً بلا تربية، وفي مجتمعاتنا الإسلامية الحديثة تكثر المدارس ودور التعليم، ولكن التربية الاجتماعية ضعيفة، ولم يكن المسلمون عندما داهمهم الغزو التتري أو الصليبي" يعانون من قلة المدارس، ولكنهم يعانون من ضعف القيم التربوية التي تنشرها المدارس، ونحن اليوم لسنا مجتمعات بلا مدارس، ولكننا مجتمعات بلا نموذج تربوي فعال، ولذلك صرنا مجتمعات بلا تربية اجتماعية فاعلة، عندما لم تستطع دولة عربية، أن تصل إلى مستوى اليابان، التي تعرفت على العلم الحديث بعد مصر، وهذا يشير إلى خطورة انفصال التعليم المدرسي، عن التربية الاجتماعية.
ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى
كيف استطاع المسلمون الأولون، أن يكونوا مجتمعا بتربية اجتماعية فعالة، على أنهم كانوا مجتمعا-إذا قورن بنا اليوم-بلا مدارس؟ أليس ذلك لأنهم أدركوا أن القرآن رسالة إلىهم، والرسالة لها هدف، فالألفاظ فيها تحمل المعاني، والمعاني تعليمات يجب تنفيذها، كأي رسالة من الأعلى للأدنى. فرسالة الملك أو الرئيس عندما يرسلها إلى الجهاز الإداري، هي مرسوم أو قرار، يأمرهم بشيء، ويريد منهم طاعته، وينهاهم عن شيء، وينتظر منهم تركه.
وما سمي الرسول إلا لهذه الوظيفة، فدور الرسول هو تبليغ الرسالة، وينتهي هذا الدور بأدائها، لأن وظيفة الرسول هي أن يوصل الرسالة إلى الرعيل الأول من الأمة، وقد وعد الله -من خلال الوعد بحفظ الذكر-بأن تصل الرسالة إلى أجيال الأمة كلها، وإذن فليس إمكان تطبيق الرسالة، منهجا لصلاح الدنيا وفلاح الآخرة، مقصوراً على عمر الرسول، ولا على عمرالصدر الأول من المسلمين .
من أجل ذلك لا ينبغي أن نتوهم أن المسلمين لن يستطيعوا أن يبدأوا-بالإسلام- دورة حضارية ثانية، لأننا لو قلنا بذلك لاستسلمنا لنظرية أن آخر الزمان شر لا خير فيه، ورددنا مع الشاعر القديم:
أتى الزمان بنوه في شبيبته
فسرهم، وأتيناه على الكبر
ولو صح ذلك لعللنا وصول الأولين -في الدورة الحضارية الأولى-، بوجود الرسول صلى الله عليه وسلم، أو بسبب قرب العهد به، وتناسينا أن الرسالة موجودة، وتناسينا مدلول ختم الرسالات برسالة محمد صلى اللع عليه وسلم، وتناسينا أن وظيفة الرسول هي إبلاغ الرسالة، ولذلك نبه أحد الرسل قومه إلى دوره ودورهم" فقال:"يا قوم لقد أبلغتكم رسالة ربي".
وبقي دور المتلقين، وهو أن يستلموا الرسالة "بقوة"، أي أن يقرأوها ويتدبروها، لكي يفقهوها، ثم يضعوا وسائل تنفيذها.
فإذا قرئت الرسالة ولم تنفذ التعليمات، فهذا استهتار بالمرسل، واحتقار للرسول، وتشكيك بجدوى الرسالة. وهكذا أدرك الصحابة أن القرآن كتاب نجاح لا تنفصل فيه الدنيا عن الآخرة، ولا تكون قراءته" إلا بتجسيده على مسرح السلوك الفردي والاجتماعي، لكي يكون منهج تفكير عملي فعال، ومنهج حياة اجتماعية رشيدة طيبة حسنة، ولذلك جاء الثناء على الذين "يتلونه حق تلاوته"، لا ثناء على المهارة الصوتية،-كما توهم بعض المتأخرين- بل على ارتباط حركة الفكر بالفعل.
وأدركوا أن تعليم القرآن وسيلة" من أجل تحويله إلى قيم تربوية على المسرح الاجتماعي. فالقرآن كتاب يصل بين العلم والإيمان العملي، ولذلك صار العلم يدعو إلى الإيمان: "إنما يخشى الله من عباده العلماء" . والعلم وسيلة من وسائل فقه الآيات، ولذلك قال تعالى: "وما يعقلها إلا العالمون" .
فالعلم الذي لا يؤدي إلى العقلانية العملية لا اليونانية التجريدية علم زائف، والعقلانية العملية المغرقة في المادية كالعقلانية الغربية التي لا تؤدي إلى الإيمان والعمل الروحي والأخلاقي الصالح عقلانية زائفة، لأنها لا تربط بين سعادة الدنيا والاخرة.
والإسلام رحمة للعالمين بله المسلمين، ولذلك جاء التركيز على وصف الله نفسه بصفة الرحمة، عبر صيغتي المبالغة الرحمان و الرحيم، وجاء ذلك في البسملة مرتين، والبسملة تتكرر عشرات المرات في الصلاة، ومئات المرات في قراءة القرآن.
فهناك تركيز على الرحمة، في افتتاح كل قول وكل فعل ذي بال، فلم لم يصف البارئ نفسه، بصفات القوة والغلبة، مثل الجبار القهار، وهذا إيحاء له فحواه.
إن الرسل كمحمد صلى الله عليه وسلم، جاءوا إذن برسالة الرحمة، فهم رسل الرحمة: "وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين". والرحمة هنا عامة تعم المسلمين وغيرهم، فالقرآن مبادئ تهتدي بها الإنسانية، كما أنه مبادئ يتعامل بهما المسلمون مع غيرهم، بروح الرحمة والمودة، فوق القسط والإنصاف.
والقرآن جاء لسعادة الإنسان في الدنيا والآخرة، ولا يكون ذلك إلا إذا قرأناه حاديا للتقدم المادي والمعنوي معا، فلم ينزل القرآن الكريم على المؤمنين، ليكون محايداً أو مهادنا، يمكن احتواؤه وإعادة تشكيله، ليفرز أو يحالف التخلف، الذي يحيل الشعوب الإسلامية إلى وقود لمصانع الغربيين ، وأسواق استهلاك لإنتاجهم، وإلى أطراف تنتمي إلى مركزيتهم، وهالات تدور في فلكهم.
بل جاء لكي يسعدهم وينهض بهم، وليؤتيهم "في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة"، ولم ينزل ليشقى به الرسول ولا المرسل إليهم: "ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى".
لماذا قدم القراء؟
لذلك لم يقف الصحابة عند تعلم القرآن وتعليمه، عند حدود عناصر القراءة العادية، وهي المهارة الصوتية والحفظ مهارة الذاكرة، بل أدركوا الجانب الفكري من اللغة، الذي هو فقه المقروء وفهمه، وهذا هو المستوى المعنوي للصوت، ثم ربطوا ذلك بهدف القراءة الوجداني، الذي يفرز السلوك الإيجابي.
ولم يقف الصحابة عند حدود ملكة القراءة صوتا ودلالة، أو حدود ملكة الحفظ بمعناها الشكلي، التي هي الذاكرة اللفظية، بل تجاوزوا ذلك إلى معناها العملي، الذي هو التدبر والإدراك، الذي ينتج الحراك الاجتماعي" أما من فرق بين هذه الخطوات: الحفظ والفهم والتدبر من جانب، والعمل من جانب آخر" ف"لم يكونوا يعتبرونه قارئاً، ولو حفظ القرآن كله" الصواف: القرآن أنواره 32. وكانوا يفهمون القرآن على أنه كتاب ثقافة معيارية رئيسية عملية، تنتج الأعراف والقيم التي تنهض بالسلوك الفردي والاجتماعي، وهذا هو مفهوم الفقه في القرآن، إنه الفقه الحضاري، للعلاقة بين دار المقر ودار الممر معاً، وهو العون على إقامة الدنيا، التي هي مزرعة الآخرة، وقد علمهم القرآن مزج العبادة الروحية بالمادية معاً، لإنتاج المجتمع المتكامل.
فالعبادة في الإسلام بناء كلي هرمي لا يمكن تبعيضه، كما أشار ابن تيمية في عبارته الشهيرة "العبادة اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه" لا تنفصل فيها رهبنة الليل بطهرها الوجداني الفردي المثالي، عن فروسية النهار بواقعيتها، وإبداعها في الحرب والسياسة، والإدارة والشؤون الاجتماعية.
ولذلك كان القرآن الكريم، أساس التأهيل والمسابقات، للوظائف الإدارية والقيادية، لأنه وإن لم يكن كتابا في الإدارة أوالهندسة أو العلوم، كان يرسم منهج التفكير الابتكاري في الفكر والفعل.
لأنه كتاب يحتوى المبادئ الروحية والأخلاقية، التي تنشئ الذكاء العملي الاجتماعي، وإفرازاته العمرانية، كالعدل والإنصاف، والإيثار والرحمة، والاحتساب والحيوية والنشاط والروح الإنسانية، والعقلانية والإحساس بالمسؤولية ويقظة الضمير.
ويربط شجاعة القلب بشجاعة العقل أوالبصيرة، لكي لا يندفع القراء، قافزين - باسم الشجاعة - فوق السنن الاجتماعية، فيؤولوا مفاهيم الجهاد وإنكار المنكر، للهياج والتدمير. ولكي لا ينكمشوا فيؤولوا البصيرة والحكمة بالاستسلام والصوفية وانتظار الحلول من خارج إرادتهم التي أمره الله بتفعيلها..
وعندما كان الصحابة يقدمون قراء القرآن على غيرهم للإمامة في الصلاة، لم يكونوا يلحظون المعنى الشكلاني الذي لحظه المتأخرون، وهو الحفظ والمهارة الصوتية المجردة، على طريقة أهل التجويد، ولم يكونوا يركزون على السمت المظهري" الذي نركز عليه الآن، ولم يكونوا ينظرون أيهم أقصر ثوبا أو أطول لحية أو أكثر سواكا، ولم يكونوا يركزون على التعبد الفردي، فيقدمون أكثرهم صياما أو قياما. بل كانوا يلحظون أن القارئ صار متمثلا القيم الإسلامية الاجتماعية، يعلم كيف يجمع بين النجاح في الدنيا والآخرة ،أي ذا فقه حضاري، وتوتر إصلاحي، فلم يحصروا الفقه بالمعنى الذي اختزله به المتأخرون. ولذلك كانت بضع آيات مهراً ترضى به المرأة، لأنها تتوقع أن تتزوج رجلاً مؤهلا، ليكون رب أسرة يحس بالمسؤولية، ويشع بيقظة الضمير.
فكان القرآن محور الفقه الحضاري والإداري، ولذلك كان الرسول صلى الله عليه وسلم يحض الأمة على قراءته، ويقدم القراء للوظائف القيادية على هذا الأساس، أي أن القرآن كتاب تأهيل اجتماعي ينور ويوعي، وينهض بسلوك المسلم، عن مستوى قيم التخلف والأنانية والعنجهية.
هذا ما يدل عليه الحديث الشريف، الذي رواه ابن ماجة والنسائي والبيهقي، وحسنه الترمذي وصححه الحاكم، عن أبي هريرة رضي الله عنه: "بعث النبي صلى الله عليه وسلم بعثا، وهم ذو عدد، فاستقرأهم، فاستقرأ كل رجل منهم، -يعني ما معه من القرآن-" فأتي على رجل منهم من أحدثهم سنا، فقال: ما معك يا فلان؟ قال: معي كذا وكذا وسورة البقرة، قال: أمعك سورة البقرة؟ قال: نعم، قال: اذهب فأنت أميرهم، فقال رجل من أشرافهم: والله ما منعني أن أتعلم سورة البقرة" إلا خشية أن لا أقوم بها، فقال الرسول: تعلموا القرآن واقرأوه، فإن مثل القرآن لمن تعلمه، فقرأه وقام به، كمثل جراب محشو مسكا، يفوح ريحه في كل مكان".
بهذا المعنى كانت قراءة القرآن الكريم" من مؤهلات الترقيات، وشروط المسابقات، وتكوين القيادات والصفوات، ولم يقصروا التقديم على إمامة الصلاة، لأن مؤهل التقديم، لم يكن ما استقر في عقول المتأخرين من أنه الحفظ والفقه المدرسي، الذي ركد به السلوك، بل كانوا يستحضرون المعنيين معاً، فقه التصورات والمعلومات والمهارات الذهنية، وفقه التصرفات والممارسات الاجتماعية.
من أجل ذلك قدموا لإمامة الصلاة من برزت عنده صفة القراءة بمعنييها الثقافي والاجتماعي معاً، ولو لم يكن أكثر حفظا أو علما من غيره، فقد قدموا أناسا كأبي بكر وعمر، وقد ثبت أن في الصحابة، من هو أكثر منهما حفظاً للقرآن" كابن مسعود وزيد بن ثابت، وأبي بن كعب ومعاذ بن جبل، بل ثبت أن أبا بكر وعمر توفيا، ولم يختما القرآن ختمة واحدة، بعد وفاة النبي صلى اله عليه وسلم، كما ذكر الذهبي في معرفة القراء، فكان لديهم مفهوم آخر غير مفهوم المتأخرين" لقوله صلى الله عليه وسلم "يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله".
كان حفظ شيء من القرآن عندهم تأهلاً تربوياً، للمسابقة والتنافس على الوظيفة والترقية، ولكنه حفظ آخر غير الذي رسخ في أذهاننا، لما طال الأمد، حفظ معنوي قبل الحفظ اللفظي، هناك مفهوم آخرلحفظ القرآن، إذ هو حفظ المعاني الذي يتلألأ به الوجدان " فتستقيم به الجوارح، كان الحافظ إنسانا متميزا بالأخلاق النبيلة حسب مفهوم الثقافة الراشدية،لاحسب مفهوم المتأخرين.
خلل في المولد؟
القراءة السائدة في العصور الوسيطة والحديثة لم تنتج إرادة التفوق والنجاح والتقدم في الدنيا والآخرة معا" هناك خلل في مفهوم القراءة أو في تطبيقها، وهذا يشير إلى أهمية تأمل طريقة قراءتنا، وقراءة المتأخرين ، ومقارنتها بمنهج تعلم القرآن وتعليمه وقراءته عند الصدر الأول، لاستخلاص نتيجة قراءة النص الثقافي، من خلال أثره على المسرح الاجتماعي.
درس الصحابة القرآن لكي يعملوا به، أما المتأخرون فجعلوا دراسته غاية، وحسبوها هي العمل، فقد عرف الرعيل الأول أنه رسالة، والرسالة إنما تقرأ لكي تنفذ، كالوصفة الطبية، لا تقرأ لذاتها، بل لشرب الدواء الذي أوصى به الطبيب، ولذلك نبه ابن مسعود بعض التابعين، الذين بدأ بهم تحريف مفهوم تعلم القرآن، فقارن بين قراءتهم وقراءة الصحابة وقال: "أنزل الله القرآن عليهم ليعملوا به، فاتخذتم دراسته عملاً، وإن أحدكم ليقرأ من فاتحته إلى خاتمته ما يسقط منه حرفا، وقد أسقط العمل به" الإحياء 1/243.
ونعى الحسن البصري الاختلال التربوي، الذي بدأ يظهر في التابعين" عندما بدأ فك الارتباط بين العلم والعمل، وذكرهم بمنهج الصحابة فقال: "إن من كان قبلكم ، رأوه رسائل من ربهم، فكانوا يتدبرونها بالليل وينفذونها بالنهار" الإحياء 1/243.
فقد ارتبطت القراءة بإنتاج السلوك، وهذا ما أوضحه الرسول صلى الله عليه وسلم، عندما ذكر ذهاب العلم، في الحديث الذي أخرجه ابن ماجه، وحسنه الترمذي، عن زياد بن لبيد: "قلنا يا رسول الله كيف يذهب العلم، ونحن نقرئه أبناءنا، وأبناؤنا يقرئون أبناءهم؟، فقال: ثكلتك أمك يا ابن لبيد! إن كنت لأراك من أفقه رجل في المدينة، أوليست هذه اليهود والنصارى لا ينتفعون فيها بشيء؟". فانفصال العلم عن السلوك، ليس مشكلة منهج تعليمي مدرسي فحسب، بل هو معضلة فكر تربوي اجتماعي أيضا، وهذا هو الأمر الأخطر.
فالعلم عندما ينحصر في طلاقة لغوية مجردة" لن ينتج قيم النهوض والرشد الاجتماعي، كالتعاون والإيثار والتسامح، والحيوية والصدق والجدية، وتنظيم الوقت" وبذلك يتلاشى العمل الصالح، الذي هو وليد الإيمان، كما قال عبد الله بن عمر: "كنا أصحاب رسول الله أوتينا الايمان قبل القرآن، وسيأتي بعدكم قوم يؤتون القرآن قبل الإيمان، يقيمون حروفه، ويضيعون حدوده وحقوقه، يقولون: قرأناه فمن أقرأ منا؟ وعلمناه فمن أعلم منا؟" أخرجه ابن ماجة والبيهقي وصححه الحاكم.
وعندما ينفصل العلم عن الروح العملية، تفسد التربية. ليس بسبب فساد النظريات التربويةفي مجال المنهج وما فيها من آليات وبرامج، ومقررات وكتب وطرق تدريس. بل بسبب فساد النظريات التربوية في مجال الموضوع في المضمون والمحتوى التربوي، أي بسبب فساد الفكر المعرفي، الذي تشكل المناهج التربوية قوة تنفيذية له. فهو فساد أفكار معرفية، خفتت فيه قيم التربية الاجتماعية، كالتقدم والروح العملية وقوانين الحضارة والاجتماع الإنساني، وسنن التغيير والإصلاح، ودور المجتمع المدني، في صيانة دين الأمة، وأي ما بين إقامة فرائض الصلاة وإقامة فرائض الحضارة من ارتباط.
وهذا فساد في المفاهيم الأساسية، فهو في البنية التحتية للمعرفة، وليس محصورا في فساد مناهج تربوية، وهذا الفساد في مضمون نظرية التربية" هو الذي أوقع المسلمين في داء الأمم الهالكة، التي حذر منها القرآن، وهو الذي أتاح للغزو التتري والصليبي الهمجي المتوحش، أن ينتصر على المسلمين العباسيين، رغم ما لهم من نفائس المخطوطات، التي جعلها التتار معابر للجسور، ومعالف للخيول.
كان تعلم القرآن الكريم عند الجيل الأول الذي أسس أرضية الحضارة، عبادة منشطة، تتحول فيه المعلومات والتصورات، إلى تصرفات ومهارات، فتتوتر الأذهان وتتلألأ بالحرارة والإنارة، كالبيوت التي تنتشر فيها أسلاك الكهرباء، فتنشحن الطاقة بالحيوية والحركة، ولذلك نفعوا وانتفعوا.
فقد كانوا يحسون بأن هذا الوحي ميثاق غليظ، على الإنسان أن يقبل على قراءته، وكأنه يؤدي القسم الطبي أو العسكري.
ولذلك كانوا يتهيبون قراءته، إدراكاً لتبعة القراءة، كما مر آنفاً في موقف الصحابي، الذي لم يتعلم سورة البقرة خشية أن لا يقوم بها، وكما نجد عند التابعي ابن الرماح، الذي قال: "ندمت على استظهاري القرآن، لأنه بلغني أن أصحاب القرآن يسألون عن ما يسأل عنه الأنبياء يوم القيامة" الإحياء 1/243. هناك علاقة وثقى بين إدراك العلم بصفته طلاقة ذهنية أو صوتية، وبين تحصيله بصفته مهارة وجدانية، تضخ في المشاعر حتى تشحنها، فتنتج السلوك.
فكان القارئ النموذج فيهم يتصور وهو يقرأ، أنه يقرأ معاهدة أو يوقع اتفاقية، فعليه أن يعيها ويستعد للعمل بها، ولذلك قرأوا فوجدوا الطمأنينة، بالمعنى العملي الاجتماعي، لا بالمعنى الصوفي الذي شاع في الثقافة الإسلامية اواخر العصور العباسية فانساقوا إلى العمل.
وهذا يدعونا اليوم إلى تجديد نموذج قراءة القرآن يأخذ بنموذج قراءة السلف الصالح من الصحابة: كما روى الطبري في مقدمة تفسيره، عن ابن مسعود رضي الله عنه: "كان الرجل منا إذا تعلم عشر آيات، لم يجاوزهن حتى يعرف معانيهن والعمل بهن".
ومن أجل ذلك فإننا لن نفهم معنى قول الرسول صلى الله عليه وسلم"خيركم من تعلم القرآن وعلمه"، حتى نفقه روح القرآن الذي نتعلم، وحتى نفقه معنى التعلم، ولن نكون معنيين بقول الرسول الكريم "من يرد الله به خيرا يفقه في الدين"، حتى نفقه أن الدين مشروع للتقدم في الدنيا والآخرة معا.
وليس أدعى للأسف والأسى" من أن كثيراً منا يبذلون الجهود المخلصة، التي تتذرع بحسن النية والحماسة وصلاح الذات، لتقديم النتائج الهزيلة، فوق أطباق الطويات الطيبة، وترفض علم المحاسبة ونقد الذات، وترفض تقييم الجهود وتقويمها، عبر المحصول الاجتماعي.
والمؤسف الأنكى أن يكون التذكير بهذه الأمور مغامرة محفوفة بالاستنكار والاستغراب" إن لم تكن مدانة بالجهل أو بسوء النية، إن من المحزن في حياتنا الثقافية اليوم، أن تكون البديهيات بحاجة إلى دليل:
وكيف يصح في الأذهان شيء
إذا احتاج النهار إلى دليل
* كاتب سعودي.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.