بعد انتهاء حرب الخليج أخذ المحرر العلمي لجريدتنا هذه يكتب عن اليورانيوم المستهلك أو المخفف وعلاقته بالسرطان وأمراض أخرى. كان المحرر المسكين ينفخ في زق مقطوع، فقد قاد حملة يتيمة لم يشاركه فيها أحد، وطلبنا منه في النهاية أن يتوقف. واستطيع أن أقول بعد عشر سنوات ان المحرر الذي تركنا الى عمل علمي صدقيته فيه أعلى كان على صواب وكنا كلنا على خطأ، والفرق بين الماضي والآن ان الضحايا كانوا من العراقيين فأنكر العالم اصابتهم، أو مصيبتهم، ثم افتضحت القضية بعد الحرب في البوسنة وكوسوفو، لأن الاصابات هذه المرة شملت جنوداً أوروبيين. وبتنا نستطيع ان نقول بثقة الآن ان القنابل التي تحمل في رؤوسها اليورانيوم المستهلك وتستعمل لاختراق تصفيح الدبابات تسبب السرطان وأمراضاً كثيرة أخرى. وقد ارتفعت نسبة الاصابة بالسرطان في جنوبالعراق تسع مرات عنها قبل الحرب، وولد أطفال من دون أطراف أو عيون أو انوف. المسؤول عن هذا الوضع هو الولاياتالمتحدة أولاً، فهي طلعت بقنابل اليورانيوم المستهلك ثم انكرت اثرها الضار رغم الدلائل، ما يثبت التهمة القديمة عن سيطرة التحالف العسكري الصناعي على الحكم. والمسؤول ثانياً هو الرئيس صدام حسين الذي جعل استباحة شعب العراق ممكنة. ربما كان الرئيس العراقي بحاجة الى شركة علاقات عامة أو شركات تخفف من قبح صورته في الخارج، فهو تحول الى بعبع أو شيطان والاجراءات ضده، من عقوبات أو غيرها، لا تصيب الا شعبه. وعندي مثل واحد ففي نهاية السنة الماضية اعلنت جريدة "التايمز" اللندنية انها كلفت رسام الكاريكاتور السياسي فيها رسم سلسلة من الملصقات لاستخدامها في حملة دعاية هذه السنة، وكانت الملصقات كلها تقريباً ذات صلة انكليزية، فتحت اسم "دولاب الحظ" ظهر زعيم المحافظين وليام هيغ هابطاً ومنافسه مايكل بورتلو صاعداً، وتحت اسم "الكاهنة" بدت مرغريت ثاتشر، وتحت "الامبراطور" رئيس الوزراء توني بلير، وتحت "المشنوق" وزير الخارجية روبن كوك معلقاً من رجليه. غير أنني توقفت طويلاً أمام ملصقة "الشيطان" فقد ظهر فيها صدام حسين باللباس العسكري يحمل مسدساً ووراءه آبار بترول محترقة. وأمامي تقرير لمعهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى المؤيد لاسرائيل يبحث في إمكان إحياء العراق جبهة عربية ضد اسرائيل. وهو احتمال بعيد جداً، فالعراق لا يستطيع أن يدافع عن نفسه، ثم ان نظامه شق العرب ولم يوحدهم، وجعل مؤتمر مدريد ممكناً، وهذا أوصلنا الى أوسلو، والى كامب ديفيد وغيرها. مع ذلك أنصار اسرائيل يدركون أن من السهل تصديق أي شيء يقال عن صدام حسين، لذلك فالتقرير الاسرائيلي الهوى يتحدث عن مرابطة عناصر من فرقة حمورابي في الحرس الجمهوري غرب بغداد، على الطريق الى سورية أو الأردن، ثم إعادة فتح خط أنابيب البترول مع سورية، ووجود فائض مالي كبير لدى العراق يمكنه من المغامرة. هذا ليس غباء بل خبث متعمد، فسورية قد تتعاون مع العراق اقتصادياً لمساعدة شعبه، إلا أن بين النظامين ما صنع الحداد والاتفاق السياسي بينهما مستحيل لا صعب فقط. اما القوات العراقية فكلنا يتمنى أن تكون بالقوة المزعومة لها، وأن تهزم اسرائيل، غير أنها ليست كذلك، وعندما كان العراق في أوج قوته خسر الحرب بسرعة، وقدراته العسكرية تدهورت كثيراً منذ ذلك الحين. اما المال فصحيح ان العراق صدر نفطاً ببلايين الدولارات ضمن برنامج النفط مقابل الغذاء، غير أن العراق لا يحصل مباشرة على أي مال، وقد رفض طلبه تلقي مبلغ اضافي مباشر عن كل برميل نفط يصدره. والأممالمتحدة هي التي تقرر كيف تنفق الأموال، واللجنة الخاصة ترفض الانفاق على الصحة والتعليم، ومن الصعب ان نراها توافق على انفاق عسكري أو قريب من العسكر. مع ذلك يلعب الرئيس العراقي لعبة أعداء العراق والعرب، فهو أعلن انه يريد التبرع ببليون يورو للشعب الفلسطيني، وهي بادرة نبيلة حقاً، فانتفاضة الأقصى بحاجة الى مساعدة. غير أن شعب العراق أحق بماله في ظل الصعوبات الهائلة التي يواجهها، والرئيس صدام حسين يعرف أصلاً ان الأممالمتحدة لن توافق على تحويل المال الى الفلسطينيين، لذلك فالموقف العراقي كله "عزومة مراكبية" ولا يفيد شعب العراق أو الفلسطينيين، وانما يستغل ضدهما. والنتيجة أنني اقرأ مقالاً عن الرئيس العراقي عنوانه "آخر الطغاة العظام"، ومقالاً آخر عن "الدكتاتور الذي لا يريد أن يرحل". وصورته في الخارج هي بالقبعة يحمل بندقية بيده ويطلق النار. وقد رأيت في جريدة لندنية صوراً من احتفالات رأس السنة حول العالم، ففي واحدة بنات يرقصن، وفي ثانية البابا يبارك المصلّين، وفي ثالثة ألعاب نارية في لاس فيغاس، وبين هذه وتلك الرئيس صدام حسين في العرض العسكري الطويل الذي يذكره القراء جميعاً، والنار تنطلق من فوهة بندقية يحملها. القراء يذكرون انه بعد العرض العسكري سرت اشاعات ان الرئيس العراقي توفي، ثم قيل انه مريض، وقيل بعد ذلك انه مجرد "فيروس". يا ناس، أي فيروس سيجرؤ على اقتحام الرئيس صدام حسين.