عندما يسمح لنفسه حاخام يهودي يُعتَبَر المرشد الروحي لحزب شاس الاسرائيلي الديني الثالث من حيث الأهمية حالياً في الدولة العبرية بتشبيه العرب بالأفاعي، وعندما سمح لنفسه قبله بعقد من الزمن رئيس الوزراء الاسرائيلي السابق اسحق شامير بتشبيه العرب بالجراد، وعندما يسمح لنفسه رئيس الدولة العبرية الجديد موشي كاتساف ذو الأصول الشرقية بتقبّل تهانئ الحاخام صاحب القول المأثور، رسمياً، بتاريخ 31 تموز يوليو الماضي، فهذا يعني ان هذا النوع من الأقوال لا ينمّ عن متطرفين، بل انه يعبّر عن ذهنية عامة ودائمة يحترمها ويقدّرها ويباركها مَن هم في السلطة في اسرائيل. واسم هذا الصنف من العنصرية، المعمّمة و"الطبيعية" في نظر أهلها، العنصرية البنيوية، حيث انها تطال حالة ذهنية عامة تنتشر بين فئات المجتمع كافة. فمَن ذا الذي حاسب شامير على كلامه في الماضي ومَن يحاسب الحاخام اوفاديا يوسف على كلامه الحالي؟ لا أحد. فهو، في الذهنية الاسرائيلية العامة، كلام شائع لا يحتاج الى استنكار أو الى مفاتشة ومحاسبة. فأخطر ما في هذه العنصرية انها اكثر تغلغلاً في النسيج الاجتماعي من عنصرية البيض تجاه السود مثلاً، ذلك انها تتميّز ببُعد أقوى وأشدّ فاعلية من العنصرية الاجتماعية او العرقية، هو البُعد الديني. ونشير ان عنصرية اهل العرق الأبيض لم تتمكن يوماً من حيازة مباركة هذا العنصر لها، لا في جنوب افريقيا ولا في الولاياتالمتحدة الاميركية. بل ان الأساس الديني المسيحي قد حجب دوماً عن هذه العنصرية الاجتماعية والثقافية هذا السند الديني الشرعي الذي جعلها هشّة وقابلة للدحض اخلاقياً. أما في دولة اسرائيل فالأمر مختلف، حيث ان دعم رجال الدين لتعابير العنصرية الاجتماعية والثقافية يمنحها شرعية سماوية وشعبية على حدّ سواء. بحيث لا يشعر الطاعن بانسانية العربي او الفلسطيني أنه ينتهك قدسية مخلوق خلقه الله على صورته، حتى لو كان ينتمي الى دين مختلف او الى إثنية مختلفة من منظوره هو. وراحة الضمير هذه التي تميّز العنصرية اليهودية عن سواها من العنصريات اذ انها تسلخ الآخر عن انسانيته فتضعه بالتالي في مصاف البهائم والحيوانات، او الحشرات ايضاً، بحيث لا يعود بعدها من مسوّغ للتلاقي أو للحوار. فهذه المشكلة المعرفية الكبرى هي التي تنخر عظام الدولة العبرية التي لا تقدر، موضوعياً، على الحوار. فأي حوار بامكانه ان يقوم بين طرف لا يعترف بانسانية الآخر؟ قد يصحّ الحوار بين عدوين شرسين، وقد يصحّ أيضاً بين غالب ومغلوب واتفاقات الهدنة او السلام التي تخلق جميع الحروب هي من هذا الصنف ولكن كيف يصحّ الحوار بين انسان وغير انسان، بين "انسان" و"بهيم"؟ صحيح ان بعض العرب خوّان والبعض الآخر جبان، ولكن هذا لا يعني ان ما يصحّ في أقلية يصحّ بالنسبة الى المجموع. وهل ان كل اليهود، في نظر الحاخام يوسف هم أبطال وأصحاب مواقف مستقيمة؟ أوليس في صفوفهم الجبان والخبيث واللئيم والفاسد والخالي من الضمير، كسواهم من الناس على وجه المعمورة؟ فلِمَ يصحّ التشبيه بالأفاعي بالنسبة لسواهم ولا يصحّ بالنسبة لهم يا تُرى؟ فمن أي صنف انساني هم أولئك الطيّارون الاسرائيليون الذين قصفوا وأماتوا عن قصد رجال الاطفاء اللبنانيين الذين كانوا قد شرعوا في إخماد الحرائق في محطة الجمهور لتوزيع الكهرباء، في ضاحية بيروت، والتي اندلعت بعد الغارة الأولى؟ فمَن هم الأفاعي فعلياً هنا، الاطفائيون اللبنانيون ام الطيارون الاسرائيليون؟ لكن العقل الذي يتجاهل الحقيقة وينطلق من افتراضات فكرية زائفة لا يمكنه ان يكون حكيماً في عقلانيته، بل قد يصبح مجرماً في عقلانيته، كالفكر النازي الذي اختبر أفاعيله اليهود الأوروبيون، او كالفكر الصهيوني الديني الأعمى الذي يطبّقه عامة وخاصة اسرائيل تجاه ابناء العالم العربي. والجدير ذكره هنا ان هذا الفكر العنصري البنيوي، المستند الى مقوّمات دينية وفقهية تنطلق من التوراة، شبيه بالفكر العنصري الصربي الذي تمخّض عن نظرية التطهير الاثني او العرقي كما يُقال خطأ. اما الفارق بينهما فهو ان العنصرية اليهودية تجد نفسها مسجونة في خطاب سلم، في حين ان العنصرية الصربية كانت وربما لا تزال مسجونة في خطاب الحرب. والحرب هنا ليس خياراً ذاتياً يجربه الفريق المعني به، او الملك أو الأمير كما كان يحصل في السابق، بل انه خيار تمليه المعادلة الجيو سياسية العامة. فالحرب ممنوعة حالياً على اسرائيل وتطهيرها الإثني ممنوع بالطرق البلقانية. ولكن تحت هذا الرماد كله ما زال جمر الحرب يحرق ألسنة قادة البلاد الروحيين، الذين يبتسم لهم ويتضامن معهم ضمناً وعلناً رجال السياسة في البلاد. التطهير الاثني، على النمط البلقاني كرواتياً كان في الأربعينات أم صربياً في التسعينات من القرن الماضي يعني التخلص من الخصم البشري بالطرق العسكرية، من طريق عمليات تقودها الغريزة الفظة، كالذبح او القتل الوحشي أمام افراد العائلة الآخرين، الخ. فإلغاء الآخر، في التطهير الإثني البلقاني، هو الغاء حيواني، لا انساني، يفاخر بوحشيته وعصبيته وهمجيته، فاللاإنسانية هنا جزء من الموقف. أما العنصرية البنيوية التي يعبّر عنها ويمارس خطابها قادة الدولة العبرية، علناً على مستوى "القادة الروحيين" وبصمت متواطئ على مستوى المسؤولين السياسيين والاداريين على نحو عام، فهي تطهير إثني رمزي. أي انهما التعبير عن التمني المكبوت بالتخلص من الخصم، من الآخر، من الانسان العربي، فلسطيني الهوية كان أم عربي الانتماء. فالتشبّث بتشبيه هذا الآخر بالحيوان أو حتى بالحشرة ينمّ عن رغبة دفينة في محوه من الوجود، من دون تبكيت ضمير انساني ما، بل براحة ضمير كاملة ومباركة سماوية ودينية على الانجاز. فالعقل العنصري البنيوي، عقل دائري. لا يخرج من دائرة نفسه، بل يبقى يدور فيها ويكرّر صوره ونماذج تحليله الى ما لا نهاية، عائداً على الدوام الى نموذج ارشادي واحد ووحيد لا يقبل المفاتشة او المناقضة لوقوفه على منطق المسلمات الدينية التي يقبل بها المرء من دون مناقشة. ودائريّة هذا العقل تجعله مغلقاً على الخارج، على اي شيء لا ينطلق من منطلقاته الاساسية ومن نظرته الى الكون والى العالم والآخرين. لذلك فالمشكلة هنا معرفية في الصميم لكونها اجتماعية في المقام الثالث وثقافية في المقام الثاني وفهميّة في المقام الأول. فعندما لا يعتبر فهم الآخر انه امام انسان، بل عندما يعتبر ان الآخر غير موجود، وان ما هو موجود هو مجرد عدو، وان هذا العدو حيوان سام او حشرة ضارة، فلا مجال لبناء علاقة تبادلية على الصعيد الفكري مع هذا الآخر. ويغدو بذلك العربي، في ذهن الحاخام يوسف وفي ذهن كل الذين سمعوه ويسمعونه من دون انزعاج يُذكر، شركاء في عملية الغاء انسانية الآخر الغاء كلياً. علماً ان هذا الالغاء لا يفسح في المجال سوى لمزيد من الأنانية ومن محبة الذات. فصاحب الفكر اليهودي السلفي العنصري والبنيوي، يعيش حالة أنانية قصوى، فلسفية واجتماعية ومعرفية، اذ انه، عندما يلغي الآخر من مشهده الفكري، سوف لن يتمكن من التعاطف، على الدوام، سوى مع نفسه. فهو المنطلق وهو المآل الأخير لفكره ووجدانه، طالما ان لا وجود للآخر سوى في خانة الأعداء. وهذه الانعزالية العميقة والبنيوية هي التي تحجب السلام عن الأفق المعرفي للانسان اليهودي في اسرائيل الذي يجد نفسه عالقاً في شرنقة من الممارسات والتصورات تضعه دائماً وحتماً خارج خانة الآخر. فهي حالة تكاد تكون ميؤوسة، حيث ان الخروج من الحلقة يفترض كسرها، وكسرها يعني كسر العقيدة وتصوّر العالم الذي تستتبعه في آن. اما الخروج من هذه الدراما التي لا تسمح لا بالتقدم الى الأمام ولا بالانكفاء فهو بممارسة العنصرية البنيوية الساخرة بالكلام من الآخر. فالإجهاز على هذا الآخر رمزياً برميه في حديقة للحيوانات الضارة المؤدية والزاحفة انما يسمح بتأجيل استحقاق الفكر العقلاني الانساني مرّة جديدة. ومن مرة الى مرة يمرّ الزمن وتبقى المشكلة حيث هي، بل انها تتخشّب وتعدو من طبيعة صلبة وجديدة. العنصرية اليهودية، في شكلها الحالي تجعل العرب يشعرون بتفوّقهم الاخلاقي والانساني على ابناء الدولة العبرية الذين، عندما يُحشَرون في خانة مفاوضات السلام، إما يلجأون الى الحرب العسكرية او الى الحرب المعرفية. فترد على ألسنة قادتهم تعابير عمرها اكثر من الفي سنة يعجز عن الردّ عليها رجال الدين عندنا، لا لضعف لهجتهم الخطابية، بل لخلقهم الرفيع ولاحترامهم لرسالة الديانات السماوية كافة. فلا ردّ المفتون عندنا ولا البطاركة، على رغم ان كلام الحاخام الحقود قد طالنا جميعاً، وحسناً فعلوا، فالمقامات الدينية الرفيعة لا ترى نفسها ملزمة بالمعارك التي لا جوهر لها. هل ان كلام الحاخام يوسف غير مقصود؟ طبعاً لا. بل على عكس ذلك فانه جاء في توقيت معين، ترافقه تغطية اعلامية مناسبة. ولذلك فانه كلام هادف بالمعنى السياسي للكلمة، اذ يُراد له ان يلعب دوراً منشطاً للعنصرية اليهودية داخل وخارج البلاد من ناحية، كما يراد له، من ناحية اخرى، ان يلهي الأنظار عن الانتكاسة السياسية التي مُنيت بها حكومة باراك، لتحويلها، رمزياً، الى انتصار. تماماً كما هو الحال عند عمليات الختان المؤلمة التي ترافقها حفلة صاخبة لتغطية الألم الحاصل. إلا ان من حسنات هذا الخطاب العنصري الحقود انه لم يرَ، في الجهة المقابلة، اي في الوسط العربي، خطاباً من العيار نفسه. مما أثبت التفوّق الواضح بين الخطابين الدينيين العربيين، المسلم والمسيحي، من الناحية الاخلاقية، على الخطاب السلفي اليهودي، المحشو بالحقد التوراتي في موضوعات لم تعد تنتمي الى ذلك الزمن، لا في الشكل ولا في المضمون. كما ان من حسنات هذا الخطاب الأرعن انه كشف مدى تواطؤ الطبقة السياسية الحاكمة في اسرائيل معه. فالمأزق الحاصل ليس مأزقاً فلسطينياً ولا عربياً، بل انه مأزق اسرائيلي بنيوي، يشارك فيه مجمل المجتمع الاسرائيلي الذي يحاول تأجيل استحقاق السلام من دون هوادة وتحت الف حجة وحجة، بالاستناد الى الدعم المطلق الذي تؤمنه له الولاياتالمتحدة. فتوسيع جبهة التخاصم والاعتداء الكلامي على مجمل العرب، كما حصل، يدخل في سياسة هروب الى الأمام، ناهيك عن تعبيرها عن حقيقة فلسفة الحياة عند سكان اسرائيل الذين يعيشون في كيان يوهمونهم انه ديموقراطي، في حين ان انتهاك قسم في مواطنيه على الأقل الاسرائيليون العرب قد أهينوا في عقر دارهم وعلناً، من قبل رجل دين معروف، من دون ان تنتقل المسألة الى المحاكم، كما هو مفترض به في دولة القانون. أما نحن، فلقد اتضح لنا ان لا دولة للقانون هناك. للمرة الألف. * كاتب لبناني.