وتبنى طه حسين أحد أطوار الشك في الكوجيتو، وهو الشك المنهجي، وحاول استثماره في مجال الأدب، الى جانب اعتماده على منهجية التمثيل والانعكاس، وقاده ذلك الى الشك في الشعر الجاهلي، بوصفه شعراً لا يعكس روح العصر الذي أنتج فيه. لم يضف طه حسين مكوناً جديداً للكوجيتو، بمعنى لم يبدع مفهوماً جديداً، انما نقل احد مكونات المفهوم من حقل معرفي الفلسفة الى حقل معرفي آخر الأدب، وتلك عملية تفترض تفكيك البنى او البنيات التي يرتبط بها المفهوم، وتشييد بنى مختلفة جديدة، لأن كل مفهوم، كما يقول غرانجيه، ينتمي الى ما يشبه نظام او بنية متحركة فاعلة تحتوي في ذاتها على حركة وفعل وتأثير، نفهم من ذلك ان المفاهيم لا تظهر في أرض جرداء قاحلة، وان المفهوم لا يمثل بحد ذاته معرفة، انما فقط يتيح عملية حدوثها. كان الكوجيتو بمثابة المفهوم - الحدث المؤسس للحداثة، التي انبثقت عن حراك اجتماعي واقتصادي، ودخلت مرحلة العقل الفلسفي، بعد ان أزاحت عن طريقها العقل الديني، ثم انتقلت من بعد ذلك الى طور العقل العلمي، وترافق ذلك مع تطورات في البنى الاقتصادية والاجتماعية، تجلت في صعود الرأسمالية، وسيادة القانون وفق روح الشعب، وولادة الفردية الذاتية والمواطنية. بينما لم تشهد البلاد العربية، منذ عهد محمد علي الى الآن، سوى عمليات تحديث، بلورت دور الدولة في شتى صورها العسكرية والريفية والدينية، وأفضت في احسن الأحوال الى تغيير في البنى التقليدية للمجتمعات العربية، من دون ان تسهم تلك العمليات التحديثية في بناء مرتكزات الحداثة وفعالياتها المدنية الاجتماعية والاقتصادية. لذلك حين انتقل المفهوم الديكارتي على يد طه حسين انغلق وانحسر، من دون ان يجد التربة المعرفية الملائمة. وتعكس الترجمات المتعددة للكوجيتو، في احد أوجهها، عملية انتقال المفاهيم وهجرتها، وهي عملية معقدة المراحل، تتأول فيها المفاهيم وتتغير، وتسلتزم شروطاً ملائمة. قد تكون ترجمة الكوجيتو في صيغة "أفكر، إذن، أنا أكون" أقرب الى صيغة الكوجيتو، التي تستلزم التفكير والوجود والأنا، وتجعل من التفكير فعل الأنا، وهذا ما يمكن مناقشته في ضوء المشكلات التي بنى عليها ديكارت مفهومه، أما عمليات الانتقال، فتستوجب شروطاً أخرى من التمثل والتأسيس، وعليه فإن طه عبدالرحمن حين بدأ مشروعه الفلسفي بمناقشة الصلة بين الفلسفة والترجمة "فقه الفلسفة"، ج19951، ج 2 - 1999، كان ينطلق من هم التأصيل الذي انبرى له، وطبق نموذج الترجمة التأصيلية الذي يعتبره مفتاح "الفلسفة الحية"، على ترجمة الكوجيتو الديكارتي، ليتوصل الى صيغة امرية: "انظر تجد"، تعكس هم التأصيل الديني، كونها تؤكد على مخلوقية الذات الانسان، وهذا ما يتناسب مع فقه التأصيل الذي ينشده، لكنها تخرج الكوجيتو من حقل مشكلاته المعرفية، وتنزع عنه مركباته، وتجعله يتماهى مع الأصول الأولى لتربة معرفية بعيدة عنه، وبعيدة عن مشكلاتنا التي تواجهنا في عصرنا الراهن، وعن صيرورتنا، وكأن المفهوم فقد أي امكان للجدل والتواصل والرأي، ولم يجد أمامه غير الذوبان في فقه الأصول. هكذا يتم التأصيل على حساب الذات ومفاعيلها لصالح مقتضيات الفقه وسوابقه، ويبقى على النقد معاينة المفهوم وهو يذوب ويتلاشي، فاقداً ارضنته وأقلمته بلغة دولوز. انتقال المفاهيم إذن، هو عملية محفوفة بالمخاطر، ان لم تتم عملية اقلمتها بشكل خلاق، يجعلها تنمو وتترعرع معرفياً وفق مكونات ومركبات جديدة، ذاتية وموضوعية، داخل نسيج التمثل والتأسيس والاستثمار في الإقليم الجديد، لأن المفهوم، كما يقول دولوز، يحتاج الى جسد حسي لاشعوري، تبتكره الفلسفة، وتخلق سمات وجودية له، أو امكانيات حياة، وهذا يتحقق اذا كفت الفلسفة عن تعاليها السماوي، وسلكت سلوكاً أرضياً، تعيد عليه أقلمة مفاهيمها وأرضنتها، وما أحوجنا الى فلسفة كهذه. * كاتب سوري.