تثير ترجمة المفهوم الفلسفي اشكاليات عديدة. ثقافية ولغوية واصطلاحية وتداولية. وتبرز هذه العملية اختلاف وتعدد طرق انتقال المفاهيم بين الاقاليم الحضارية. ومدى وكيفية توظيفها واستثمارها في الاقليم الذي تتأرضن فيه من جديد. ويتوقف ذلك الى حد كبير على ممكنات التمثيل والتأسيس في التربية المعرفية الجديدة، وترجمة المفهوم الفلسفي. هي عملية تحيل له. تتغير معها مركباته والمشكلات التي يثيرها. انطلاقاً من كون الترجمة تأويلاً يتم وفق سياقات تختلف باختلاف اللغات والثقافات البشرية. لذلك قد يتخذ هذا التأويل الترجمي اشكالاً متباينة. تتباين معها مكونات المفهوم ودلالاته اللغوية والاصطلاحية. بوصفه ينتج تناصاً يتجاوز تفسير مكونات النص المترجم. وتبرز عملية انتقال المفاهيم التواصل والتفاعل بين الألسن والثقافات المختلفة. ولا شك ان الترجمة تعني قبل كل شيء اعادة القراءة وتجددها. وتتطلب المقدرة على التفكير المنفتح والموسع. هذا النمط من التفكير تتجدد من خلاله قراءة المفهوم الفلسفي. فتعدد تأويلاته. مما يعني ان المفهوم لا يقف عند ترجمة بذاتها. ما دام لا يقبل ترجمة بعينها دون سواها من الترجمات. وهذا ما جعل "ديريدا" يقول "ان النص يقبل الترجمة ولا يقبلها". ويمكننا ان نسحب هذا الكلام على الكتابة الفلسفية ذاتها، حين تغدو فاقدة الاحالة والدلالة. ومن المفاهيم الفلسفية التي حظينا بعدة ترجمات عربية لها، مفهوم plan d'immanence الذي يحمل توقيع فيلسوف التعدد والاختلاف "جيل دولوز". فقد ترجمه مطاع الصفدي في صيغة "مسطح المحايثة" عندما ترجم كتاب "دولوز" و"غثاري" المشترك ما هي الفلسفة - 1997. بينما ترجمه طه عبدالرحمن في صيغة "مقام المواجهة" التي اعتبرها ترجمة تأصيلية للمفهوم. وكذلك ترجمه في صيغة اخرى هي: "بساط الملازمة" واعتبرها ترجمة توصيلية للمفهوم الدولوزي ذاته فقه الفلسفة ج 2 القول الفلسفي - 1999 بينما ترجمه آخرون في صيغة "حقل المحايثة". لا شك ان دولوز جمع في هذا المفهوم مختلف المعاني اللغوية والاصطلاحية. وبنى انطلاقاً منها تصوره لهذا المفهوم الفلسفي. فالمفردة الفرنسية plan لها معان لغوية واصطلاحية عديدة. وهي كما يشير طه عبدالرحمن تستخدم نعتاً كما تستخدم اسماً. وتفيد معاني الاستواء والسطح المستوي والتصميم والخريطة والخطة والجناح. ويعتبرها مطاع صفدي مقطعاً من المحايثة. منفتحاً على اللامتناهي: ويشكل هذا الحيز من المحايثة مادة المفهوم الدولوزي وقاعدة لبروزه، كذلك تتعدد معاني immanence اللغوية والاصطلاحية. وتفيد هذه المفردة معاني الملازمة والمثولية والمحايثة والبطون او المباطنة. وهكذا تجتمع في مفهوم دولوز معان كثيرة. وقد اجتهد كل من صفدي وعبدالرحمن في ترجمة هذا المفهوم وابراز معانيه المختلفة. ولا شك انه من الصعب ترجمة تلك المعاني المتعددة للمفهوم في صيغة عربية واحدة. لذلك لا بد من التحويل والتأويل، اي التصرف في معاني المفهوم والفاظه. خصوصاً ان معنى ودلول الكلمة الاولى plan متصل بمعنى ومدلول الكلمة الثانية immanence. ويعرّف دولوز هذا المفهوم بأنه "كل غير محدود. ويجمع المفاهيم الفلسفية كلها في مستوى واحد". لذلك فالمفهوم لدى دولوز ليس بسيطاً، اي ليس مفرداً. انما جمعاً. ويمكن ان يكون جملة او مجموعاً. وهذا ما يكثر معانيه ويغني دلالاته. غير ان الترجمة بكشل عام والترجمة الفلسفية على وجه الخصوص. بوصفها وصلاً بين لغتين مختلفتين. فهي تمد احداهما بما تفقده الاخرى في عملية تغني كلا اللغتين. ذلك ان انتقال المفهوم الفلسفي بواسطتها يزيد معانيه ومدلولاته سعة وعدداً. وان لم يتطابق معناه المترجم مع معناه في اللغة التي وضع فيها. اذ ليس ثمة معنى جوهري للمفهوم. فالمعنى الاصلي او الجوهري غير موجود الا في نمط التفكير الميتافيزيقي. ولو تفحصنا الترجمات المختلفة للمفهوم الدولوزي، نجد ان مزيداً من الدلالات والمعاني قد انضاف اليه. وفي هذه الدلالات التي تكسبه معاني جديدة يحيا المفهوم. فضلاً عن الأثر الذي تتركه المعاني القديمة. ففي ترجمة صفدي "مسطح المحايثة" يكتسب المفهوم دلالة "المكانية" او "المماكنة" من خلال ان المحايثة التي اشتقت من ظرف المكان "حيث". تفيد معنى التواجد في المكان. والفعل "حايث" يفيد معنى الاشتراك في نفس المكان. كذلك فإن كلمة "المسطح" تدل على معنى "المكان" و"الظهور الشديد" وما يقل ويزيد عن ذلك. وبالمقابل فإن ترجمتي طه عبدالرحمن غنيتان بمعان ودلالات كثيرة. فقد اجتهد في الجمع بين معاني "الاستواء" و"التخطيط" و"الاحتواء" و"التحليق". فخرج بصيغة "بساط الملازمة" التي تعطي المفهوم دلالة "المجالسة" من خلال مفردة البساط ودلالة "اللزوم". وتتضمن دلالات التنزه وعدم التعالي يوسواها. كذلك فإن صيغة "مقام المواجدة" تتضمن دلالات "المصاحبة" و"المواجدة" المشتقة من المفهوم الصوفي "وحدة الوجود" وما ينتج عن ذلك من دلالات متعددة ومختلفة. هكذا بفضل هذه الترجمات واختلافها تتعدد معاني ودلالات المفهوم اللغوية والاصطلاحية. وتبقى مهمة استثمارها منوطة بعمليات الادماج والتمثل في التربة المعرفية العربية. اذ ما ينقص هذه التربة ليس المفاهيم. فنحن نملك قدراً غير قليل منها. انما ينقصنا ارضنة المفاهيم وجعلها تنبت في تربتنا المتروكة للرُّحل والعسكر. اذ لا نزال نحلق سماوياً ونلهو بتعالينا الديني. ولم نحط قط على الارض التي تؤوي لهونا وتنتج صيرورتنا… ولا نزال نعيد تأسيس وتأصيل تعالينا واثباته دون اي اكتراث بصيرورتنا. فقد تركنا الصيرورة تغص في اوحال التاريخ الغابر، تارة في الامجاد المزعومة وتارة اخرى في التعالي. وها نحن نشيخ في التاريخ ومعه. * كاتب سوري.