الصفة الفارقة التي تميز بين الإسلاميين وغير الإسلاميين هي أن الأولين يعتمدون نمطاً في التفكير يستند إلى المرجعية الإسلامية في الأساس، بمعنى الرجوع إلى الله ورسوله في كل شأن من شؤون الحياة، وسواء تميز هذا الرجوع بالجمود أو المرونة أو بالتشدد أو الاعتدال أو بالانفتاح على العصر أو الإنغلاق على الماضي، فهو في كل الحالات يعني الرجوع إلى النصوص والإلتزام بالحد الأدنى من الأحكام التي لا خلاف عليها في هذا الدين. أي أنه مهما تعددت أشكال دعاوى الاجتهاد، فإن هناك أطراً ضابطة لا يمكن خروج هذه الأشكال عنها. وهذا هو ما يقصده المفكرون الإسلاميون بالمبدئية الإسلامية، فالإجتهادات والأفكار والمواقف كافة لا تتحرك في الفراغ إذا أرادت أن تتصف بهذه الصفة الإسلامية وإنما يجب أن تتحرك في إطار هذه المبدئية. ولكل إنسان في هذا العالم الحق في عدم الإلتزام بهذه المبدئية، ولكن غاية ما في الأمر هو أنه لا يحق له الاحتفاظ بصفة الإسلامية عند ذلك. وعلى النقيض من هذا فإن المرجعية العلمانية تعني: الاقتصار على العقل البشري وخبراته في إدراك حقائق الوجود وتصريف شؤون الحياة. ومن ثم فإن العلمانية لا تعني فصل الدين عن الدولة فقط بالمفهوم السياسي، وإنما فصل الدين عن التدخل في شؤون الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية على السواء. وفي عصر ما بعد الحداثة فإن الأفكار العلمانية تتحرك في المطلق العقلي من دون التقيد بأي إطارات مذهبية أو ايديولوجية، ومن ثم فإن أي انفتاح اجتهادي إسلامي على العالم لا يعني الانفلات من المبدئية الإسلامية والتلاقي مع هذه الرؤية العلمانية للوجود التي لا تعترف بالقداسة ومرجعية الوحي، وإنما يعني استيعاب متغيرات الواقع على الدوام واستخلاص الأحكام الإسلامية المتجددة التي تناسبها في حدود الضوابط المشروعة، فاستيعاب متغيرات الواقع هو الشرط الضروري الحتمي المشترك للتطبيق العملي الصحيح لأي من المرجعيتين. ولكن ثمة دعوات تعمل الآن على التقارب بين العلمانية والإسلام وتمييع الحدود الفاصلة بينهما وتتخذ من الدعوة إلى التجديد والاجتهاد ذريعة إلى تحقيق أهدافها حيث يكون ضابط التجديد لديهم هو الخط البياني الإيجابي لدفع المفاهيم الإسلامية إلى التطابق مع المفاهيم العلمانية. وإذا كان الاجتهاد هو حركة الفكر الفلسفي في الإسلام، فإن ذلك مشروط بإلتزامه بالأسس والثوابت الإسلامية. ومن هنا كانت هذه الغارة التي يشهدها العالم الإسلامي الآن على هذه الثوابت، حيث تتباين المواقف من إنكار وجود هذه الثوابت أصلاً إلى قابلية كل قواعد الدين للتأويل إلى الاقتصار على تحقيق مقاصد الشرع إلى اختيار المواقف الفكرية الملائمة للتوجهات الفكرية للعصر من مختلف الفرق الإسلامية المتعددة في التاريخ الإسلامي، سواء التي توافق أئمة الإسلام على بقائها داخل دائرة الإيمان كالسنّة والشيعة والمعتزلة، أو على إخراجها منها كالزنادقة والحلولية وفرق أخرى لا داعي للحديث عنها هنا. وإن كان هذا يحدث من جهة بعض الذين يتم وصفهم بالإسلاميين، فإنه يتلاقى مع ما يحدث من تحركات من الجهة الأخرى، جهة بعض المفكرين العلمانيين الذين يحاولون في الآونة الأخيرة إرتداء العباءة الإسلامية. والشاهد في ما يحدث في الواقع الآن أن معظم دعاة التطبيع مع العلمانية هؤلاء، من الذين يتم وصفهم بالإسلاميين، هم من الذين تم نبذهم من الأزهر الشريف لأفكارهم المنحرفة أو تم استبعادهم من بعض التيارات الإسلامية المختلفة نظراً لتطلعاتهم السياسية أو لأفكارهم المتحررة التي رفضت الجمود الفكري أو الحركي الذي أصيبت به هذه التيارات. ومشكلة المشاكل هنا أن تتحول المشاحنات السياسية إلى مشاحنات فكرية تتجاوز الأطر الفكرية لهذه التيارات إلى تحدي الأطر الفكرية للإسلام نفسه وأن يتم تسويغ ذلك من خلال الأدعاء بضرورة المراجعات الفكرية والحركية بينما الذي يتم فعلاً هو تراجعات عن الأسس الإسلامية نفسها. إنني أعترف أن سيد قطب، خصوصا، مثَّل عائقاً مريعاً في وجه تقدم حركة الفكر الإسلامي على امتداد ثلث قرن بدعوته إلى امتلاك زمام الأمور في المجتمع أولاً بدلاً من العمل على تطوير المشروع الحضاري الإسلامي راجع "معالم في الطريق" وهذه هي النقطة الحاسمة التي تدان بها التيارات الإسلامية كافة الموجودة على الساحة الآن. كما أنه من ناحية أخرى دفع الحركة الإسلامية بكتاباته المشحونة بالعاطفة الفياضة إلى الدخول في صدامات عدة كانت في غنى عنها، وكان الأولى بها شحذ طاقاتها في سبيل تطوير المشروع الحضاري الإسلامي بدلاً من تبديدها في هذه الصدامات. لكن تفسير ذلك يعود في الأساس إلى الخواء الفكري الذي شهدته الحركة الإسلامية بعد اغتيال الأستاذ حسن البنا، مما هيأ فرصة استقطاب الخطاب القطبي لأبناء الحركة الإسلامية وهو في الأساس خطاب وجداني وليس خطاباً فكرياً. ومع كل ما سبق فإن مراجعة ما حدث لا تعني التخلي عن المبدئية الإسلامية التي أذاعها سيد قطب بخطابه الشيق والتي لم يكن لإسهامه فيها من الناحية الفكرية شأن يذكر، وإنما كانت تمثل حصيلة الإنتاج الفكري لجهود المفكرين الإسلاميين على امتداد القرنين التاسع عشر والعشرين، إذ أنهم على امتداد هذا الزمان الطويل لم يكثفوا جهودهم إلا على شيء واحد دعتهم إلى التأكيد عليه صدمة المواجهة مع الاستعمار والفكر العلماني الذي يمثله هذا الشيء هو شمولية الإسلام ووضعه للحدود الضابطة في مناحي الحياة كافة، وهو الأمر الذي نعنيه بالمبدئية الإسلامية، ومن ثم فإن من العبث الآن التخلي عن هذه المبدئية التي أرساها هؤلاء المفكرون الإسلاميون والتي تمثل تطبيقاً حرفياً لقوله تعالى: "فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك في ما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليما"، وغيرها من الآيات الداعية إلى الرجوع إلى الله ورسوله في كل شأن من شؤون الحياة، أقول من العبث الآن التخلي عن هذه المبدئية والاحتفاظ في الوقت نفسه بصفة الإسلامية تحت أي دعوى من دعاوي التجديد والاجتهاد. كما أنه من الخطر على قداسة الفكر نفسه، وليس الدين فقط، أن يتم إغراق الناس في الالتباس بإدعاء علاقة هذا التخلي بالتشدد أو الاعتدال أو بالتطرف والعنف أو الدعوة إلى السلام الاجتماعي، خصوصاً أن أغلب الداعين إلى هذه المبدئية هم من دعاة الاجتهاد والاعتدال والسلام الاجتماعي. ومن ناحية أخرى وعلى مستوى الهوية، فإنه يفزع المرء أن نكون الأمة الوحيدة التي يسهل لها التنازل عن تراثها العريض الرائع من دون أدنى ثمن. فإن هذا التنازل عن هذه المبدئية الإسلامية يتم في وقت يدعو البعض الى التنازل عن كل التراث الاجتهادي الذي قام به أئمة المسلمين على امتداد أربعة عشر قرناً وانشاء علم فقه جديد يقوم على العقل وتأويل النصوص بما يستجيب مع توجهات العصر. إن هذا لا يعني التراجع عن المبدئية الإسلامية فقط، ولكن يعني أننا كنا على امتداد هذا التاريخ الطويل أمة من البلهاء لم تنجب المئات من العباقرة الأفذاذ الذين بهروا الدنيا. * كاتب مصري