"إذن أشبّه غمدان بالنهار، وبلقيس بالليل، وأنا بينهما الهديل" أدونيس هكذا بدأت القصة، من مكاني داخل القطار رأيت على الرصيف فتاة شقراء عارية الكتفين تتقدم من شاب طويل القامة يحمل حقيبة سامسونايت وتقول له شيئاً ما. ارجح الظن انها كانت تسأله عن وجهة القطار. فلما اجابها دخلت العربة التي كنت اجلس فيها واحتلت مقعداً غير بعيد من مكاني. ولم اعد ارى إلا رأسها وكتفيها العاريين من الخلف. اما الشاب فقد تردد قليلاً قبل ان يدخل العربة نفسها. فلما دخل توقف لحظة واخذ يدور بعينيه متردداً لا يدري اين يجلس. كان واضحاً من نظراته الحيرى انه يرغب في الجلوس امام الفتاة الحسناء وجهاً لوجه ولكن الحياء يمنعه، فقد كانت هناك مقاعد كثيرة شاغرة. وفي النهاية حزم امره عندما اهتدى - فيما يبدو الى حل وسط - وهو ان يجلس على المقعد المجاور للمكان الذي يواجهها مباشرة. ثم تحرك القطار. ولما توقف في المحطة التالية دخلت العربة امرأة انيقة في فستان اسود. وما ان جلست حتى وضعت ساقاً على ساق واخرجت مرآتها وانهمكت في تلوين شفتيها. وكان الصباح مشمساً بعد يوم جميل في باريس. ولكن الفتى كانت تبدو عليه علامات القلق. كان يريد ان يتحدث الى الفتاة ولكنه لم يكن يدري كيف يبدأ. من الواضح انه رجل محترم. لعله جامعي او محاسب او لعله يعمل في بورصة الاوراق المالية. وأياً ما كان يعمل فهو لا بد ناجح. من النوع المجدّ الطموح ولسوف يحقق النجاح الذي يريد. اما ان ينجح مع هذه الحسناء فتلك مسألة فيها نظر. ما الذي يمنعه من الحديث اليها؟ الخطوة الاولى صعبة دائماً... إلا اذا كنت في حال من الالهام وكان الطرف الآخر مستعداً للّعب. ولكن الابله لم يكن ملهماً. كانت امامه فرصة سانحة عندما تحدثت اليه الفتاة على الرصيف" ولكنه تركها تفلت من يده. فهل كانت الفتاة على استعداد للّعب؟ او لعله كان يعلم ان هناك عينين تراقبان: عيناي. فأنا اليوم مرآة تقع عليها الصور. كل الصور. المرأة التي تصبغ شفتيها بقلم الروج تعمل بهمة امام مرآتها. لا يعنيها وجودي. المهم ان تبدو جميلة مكتملة الزينة مهما حدث. امام المغفل فقد ضيّع فرصته. وها هو يشعر انه مراقب محاصر. وها هو يرمق الفتاة بطرف عينه في شوق. بل ويكاد يشرأب بعنقه نحوها ولكنه يتذكر وجودي فتنحرف نظرته نحوي ثم ترتد كسيرة. والفتاة رائعة الجمال. لقد ملأت عينيّ من حسنها وهي لما تزل على الرصيف. ويكفيني مرأى عنقها وكتفيها من الخلف حتى استخلص النتيجة نفسها. ولكن ماذا يفعل القصّاص عندما يريد ان ينقل الى القارئ ان بطلة قصته رائعة الجمال؟ ليست جميلة فقط" ولكن رائعة الجمال. يستطيع طبعاً ان يصفها. ولكن الوصف المباشر لا يمكن مهما كان جيداً ان يفي بحق الجمال. وهو بطيء في حين ان الجمال يخطف بصرك خطفاً ويبهرك. افعل اذاً كما فعل هوميروس عندما اراد ان يبهر جمهوره بجمال هيلانة الذي كان يفوق جمال البشر بل وجمال افروديت. لو انه فصّل القول في وصفها لأخفق اخفاقاً ذريعاً. ولكنه كان فناناً حاذقاً فأوحى بجمالها عن طريق وصف وقعه على الرائين. كأن يخرجها على الناس فتدور نحوها اعناق الشيوخ - الشيوخ... لاحظ هذا - وتغرورق عيونهم بالدموع لحسنها. كان شيوخ طروادة الاجلاء مرآة لجمال هيلانة" وأنا اليوم مرآة للجميع ولكل شيء. فانظر اذاً في ما ينبغي عليك عمله في تلك القصة التي تؤرقك ليلاً لأنك تريد - فلا تستطيع - ان تقنع القراء بأن بطلتك الحسناء رائعة الجمال وهي تعانق مهرتها. جمال فوق طاقة البشر او هكذا تريد له ان يكون. الا يكفي ان تعبر عن ذلك المشهد بعبارة واحدة" عبارة يقولها الرائي؟ والرائي في هذه الحال هو الرجل الذي تصحبه الفتاة ليرى مهرتها فيهيم بها حباً منذ تلك اللحظة. فماذا عساه يقول؟ ما هي تلك العبارة السحرية؟ ودخل العربة رجل وزوجته او لعلها عشيقته - من يدري؟ وقد جلسا احدهما في مواجهة الآخر. وكانا يتحادثان ويضحكان. لم أكن اسمع ما يقولان. ولكن خيّل إليّ ان الرجل من النوع الاكول الشروب. وجهه مشرب بالحمرة - ربما لافراطه في شرب النبيذ. وانفه ضخم احمر وعلى طرفه حبة بارزة. والغريب في الامر انه كان عندما يضحك يميل نحو صاحبته حتى يكاد انفه يلامس صدرها. ثم يتراجع مقهقهاً. هل شرب مع الافطار؟ وقد انتهت المرأة ذات الرداء الاسود من تزيين شفتيها ثم انصرفت الى الرسم في دفترها بالجد نفسه الذي ابدته في استخدام قلم الشفاه. ولكن امرأة اخرى جاءت فجلست الى جوارها. وما إن جلست حتى اخرجت بدورها مرآتها وفرشاة مستطيلة رفيعة وانهمكت في تزيين رموشها. واشرأب الشاب بعنقه مرة اخرى وهمّ بأن يقول شيئاً للفتاة الحسناء" وكان من الواضح انه لم يعد يحتمل احتدام الرغبة. ولكن لسوء حظه ان امرأة جاءت فجلست الى جوار الفتاة" فاضطر الى التراجع. وعاد بعنقه الى وضعها الطبيعي. وخيّل اليّ ان الشعور بالاحباط قد صعد الى حلقه. فقد رأيته يبلع ريقه بصعوبة ويفك رابطة عنقه قليلاً. وفتح حقيبته ليخرج صحيفة. واخذ يحاول الانصراف الى القراءة من دون جدوى. كانت عيناه لا تطاوعانه. كانتا تنحرفان في اتجاه الحسناء. ضع نفسك في مكانه. ماذا عساك تفعل اذا كان من تشتهي في متناول يديك ولكنه بعيد بعيد؟ وقد كانت هناك عينان تراقبان المسكين وقد اصبح الآن هدفاً لأربع عيون. ثم انسحبت الى طروادة. تأمل السياق الذي كانت هيلانة تتبدى فيه. لو انها نظرت من اعلى الاسوار لرأت المقتلة تقترب من ابواب المدينة. عما قريب يقتحمها الاعداء ويدمرونها تدميراً. وها هي رحى الموت تدور ويسقط الرجال صرعى لا فارق بين الجبان والبطل الصنديد. يتساقطون كالذباب. ولكن هيلانة تخرج على الناس على رغم دوران الرحى واقتراب الدمار. تخرج تتهادى كأنها غمامة عابرة فتدور اعناق الرجال وتبتل لحاهم البيضاء بالدمع لروعة جمالها. اترى كيف تتضافر اهوال الحرب - حتى اهوال الحرب - لتبرز روعة ذلك الحسن؟ ولماذا يبدع الفنانون على اي حال؟ اذا كنا سنموت جميعاً ونتساوى في التراب. اهو طلب الخلود؟ ولكن ماذا يجديك المجد الادبي بعد موتك اذا كنت آخر من يستمتع به؟ يستمتع به الاحياء - الحمقى منهم والاذكياء، الاشرار منهم والأخيار. اما انت؟ تدّعى في احدى قصصك ان الكاتب مثله مثل الجندي الذي يكلّف بالصعود الى قمة تحصن عليها العدو. ويرتقي الجندي المرتفع مجتازاً الاسلاك الشائكة وحقول الالغام ويتعرض للنيران التي تنهال عليه. ولكنه لا يعبأ بكل ذلك ولا يعنيه ان الرصاص يخترم جسمه. بل انه لا يعي انه جريح ينزف. لا يعنيه كل ذلك. ولعله يعلم انه عندما يصل الى القمة ستوجه نحوه فوهة رشاش اخير او تلقى عليه قنبلة يدوية اخيرة فيتفجر اشلاء. وحتى ذلك لا يعنيه. فالمهم لديه ان يرفع العلم على القمة قبل ان يصرع. فكرة بديعة. لعل سقراط هو اول من عبر عنها عندما قال إنه كان يشعر انه جندي مكلف بحراسة المدينة. وقد حام طه حسين حول هذا المعنى عندما قال اننا لم نخلق لنكون سعداء. او شيئاً من هذا القبيل. ولكن صاحب الانف الكبير يقهقه بصوت مرتفع. يظن الاحمق انه مخلد فيها ابدا. والمرأة التي تزيّن رموشها بعناية فائقة نسيت ان الموت قادم. وهذا القطار الذي يجري على القضبان في نعومة واحكام رشيقاً كالثعبان يخترق الانفاق المظلمة وينسل منها لا يعوقه عائق. هو بدوره يمكن ان يتطاير اشلاء بمن فيه او تلتهمه النار في طرفة عين. ويدخل موسيقي جوّال يعزف على الاكورديون. لا... ارجوك. رفقاً بقلبي. الاكورديون يذكرني بالغجر والعازفين على قارعة الطريق وموسيقيي النوادي الليلية المخمورين. الاكورديون يغني الترحال والغربة. اتوسل اليك ارجوك. ولكن الرجل يريد ان يصرعني في هذا الصباح الجميل. وكأنما اراد ان ينكل بي. فقد اخذ يعزف لحناً من اغنية لإديث بياف. لحناً اعرفه تماماً واحفظه عن ظهر قلب واعزفه صفيراً وانا هائم على وجهي. لحناً فيه رفرفة وخفق اجنحة. وها هو الحظ يبتسم للفتى المحتقن بالرغبة" فالمرأة التي تجلس بجوار الفتاة الحسناء تنهض لتغادر القطار. وانهض بدوري هرباً من الموسيقى. ولقد ابتعدت اذاً اعين الرقباء" او انها كانت بسبيلها الى الابتعاد. لأنني رأيت ان أتلكأ قليلاً عند باب العربة حتى ألمّ بأطراف المشهد في نظرة اخيرة. كانت ذات الرداء الاسود منهمكة ما زالت في الرسم" وكانت المرأة الاخرى مشغولة ما زالت بتكحيل رموشها" ولسبب يخفي عليّ كان صاحب الانف الطويل يبكي بينما كانت صاحبته تنهره. كيف انقلب الضحك الى بكاء؟ اما الفتى المشتاق فلم يضيع الفرصة... فانقض ووجه الى الحسناء عبارة ردت عليها بابتسامة مشرقة عذبة. كما يحدث عندما ترى انساناً عزيزاً فتبتسم له وتكون الابتسامة مقدمة لتتلقفه بين ذراعيك. وخرجت الى الشمس. كان الفتى اشبه بالطائر الذي يرى من علٍ السمكة تحت الماء فيهوي نحوها بسرعة خارقة ويلتقطها بمنقاره قبل ان تفيق. لم يكن يتصرف ببراءة عندما استقل القطار. بل يبدو انه عندما وقف على الرصيف متردداً كان يسائل نفسه هل يذهب الى عمله ام يتبعها. وعندئذ قرر ان يغير مساره وينصرف الى مطاردة الصيد الجميل. ولكن هل كانت الفتاة حقاً سمكة غافلة؟ ألم تكن هي التي نصبت الفخ عندما ألقت عليه ذلك السؤال وهي تقف على رصيف المحطة؟ هل من المعقول انها وهي الباريسية لا تعرف اين يتجه القطار؟ فمن هو الصياد اذاً ومن هو الفريسة. عليّ ان اعيد قراءة الاحداث منذ البداية. ولعل الافضل ان اضعها على الورق. هل قلت ان الكاتب جندي؟ فما الفارق بينه وبين النملة؟ انك تجد في النمل اعظم الجنود. ولكن النمل لا يطلب الخلود ولا يموت في سبيله. وفي النور تعود الموسيقى لتداهمني. لحن فيه رفرفة وخفق اجنحة. ولكن هذا الطائر من نوع مختلف. انه لا يهوي وينقض وانما ينشد ما يريد صاعداً. وكلما اقتربت القمة زادت صعوبة الصعود واشتد خطر السقوط. ومن ثم كان خفق الاجنحة. فهب انه وهو من القمة قاب قوسين او ادنى... ارجوك دع هذه الافكار السوداء. ولكن ما حيلتي وقد غرس الموسيقي الخبيث لحنه في رأسي؟ ثم يداهمني في النور سؤال: فمن انا اذاً في حقيقة الامر وفي نهاية المطاف؟ واين سكني؟ واسير في شوارع باريس: شارع يسلمني الى شارع. سأل الأمير الشاعر الأعمى: - ما صناعتك يا رجل؟ قال الشاعر ضاحكاً: - أثقب اللآلئ. قالها ساخراً من الأمير" وكان في ذلك محقاً. ولكنه كان صفيقاً يدعي ما ليس له. الشعراء لا يثقبون اللآلئ حتى ولو كانوا مبصرين" وانما ينظمونها. ونظم اللآلئ نشاط جميل لولا انه يعمّق الشعور بالوحدة. عفواً ايها الأمير. هل سألتني عن صناعتي؟ انا - اعزك الله - من اهل الغواية: اركب القطارات واسير في الشوارع على غير هدى ويطير بلبي ان ارى وجهاً صبوحاً او اسمع لحناً شارداً. وعلى رغم ذلك بل وأثناء ذلك تراني اكتب القصص. اعني داخل رأسي. وذلك اللحن لا يريد ان يفارقني. الرفرفة وخفق الاجنحة. وتتقاذفني الشوارع. لقد ضقت بالترحال، وضقت بالسكن. ولكن حبل الزمن ما زال مرخى. فهلا استمتعت بهذا الصبح الجميل وحمدت الله على ان القطار لم يحترق؟ * كاتب مصري.