مُغرِب دالي بافراط، وساخر فضائحيّ بعينين جاحظتين وشويربين معقوفتين. وشغِفٌ بالتلقائية اللاعقلانية للسوريال و"ميكانيكا الذهان الهذياني"، وممعن باثارة ملكته الابداعية التي أمعنت تقطيعاً بالخيط الرفيع الذي يقال انه يفصل بين العبقرية والجنون. هذا الذي أدرك يافعاً السؤال المخيف "هل الرسم موجود؟" فتوقف عن التفكير "خوفاً من أن أصبح مجنوناً" أرخى، بعد ارتحاله من فيغيريس الجميلة المتوسطية الساكنة في الزاوية العليا الشرقية من شبه الجزيرة الايبيرية حيث ولد، العنان لكل الأجوبة الممكنة على شكّه، تحثه احتكاكات لا يُستهان بها من خارج حقل الرسم - انما في الحقل الإبداعي عينه -: لوركا وجنّ الشعر، بونويل وحوريات الصورة الحيّة، بريتون ومارد الحرية "المقذوفة من داخل"، وبات صنواً لفانتازيا يمكنها أن تلخّص بكثافة استعارية الليغوريا المغامرة الفنية للقرن العشرين في أكثر وجوهها "عقلانية!" للحقيقة "اللاعقلانية" التي تمور بها الحضارة الحديثة الى حدّ الهوس. ونعهدها صورة دالي بركاناً داخلياً لا يفترُ عن قذف حممه في كل اتجاه مستسيغاً جموح الشطح خارج أسوار المواضعات على اختلاف أطرافها. انما هناك صورة أخرى وديعة صافية مشحونة بفرح موتور ومتزنة على حافة النزق والحرية تلتقطها يوميات كتبها دالي في عامي 1919 و1920 - وكان في الخامسة عشرة والسادسة عشرة من عمره - واصفاً إيّاها ب"انطباعاتي وذكرياتي الحميمة"*، ندرك فيها دالي يافعاً، مسكوناً بانفعالات جيّاشة، شديد الحساسية، ذا وعي حاد بأحداث عصره، مفتوناً بمواهبه الكامنة التي يقاربها بالمعرفة والاختبار، قارئاً بنهم، مندفعاً بتلقائية سعادة نقية في اكتشاف روعة الحياة، نزّاعاً الى الفرح، والفرح بطيشٍ وافراط، مدركاً بمزيج غامض من العفوية والنبوغ سرّ المغامرة التي تنتظره "حين عودتي - كان يعلّل النفس بالذهاب الى روما لدراسة الرسم في أربع سنوات - سوف أكون عبقرياً، ويعجب العالم بي، سوف أكون محتقراً على الأرجح، وغير مفهوم، لكنني سوف أكون عبقرياً، عبقرياً كبيراً... بالتأكيد". كان ذلك إذاً من فيغيرس كاتالونيا حيث وُلد وترعرع وتلقّى تعليمه وكتب دفاتره اثني عشر دفتراً فُقد منها خمسة بروح يفاع متوهجة وثّابة، وفي كاداكيه "القرية المثالثة للحلم" حيث كان يمضي الصيف "متشبّعاً بالضوء والألوان" وقبل المضيّ الى مدن لحضارة حيث "المداخن والسخام والشعور الغامض بأمرٍ مأساوي كأنّه لغز الاضطهاد...". انه دالي قبل دالي. انطباعات أولى لنبوغ ابداعي يتلمس طريقه "لامتلاك العالم" في خضم دفق حي من مشاعر الدهشة والحرية والفرادة واختلاجات الكشوف الأولى. "حين يحضرني الإحساس، أفتح الدُّرج، انها أنابيب الرسم، صافية براقة تحمل لي باقة آمال. أتطلّع اليها، أداعبها بيدين مرتجفتين انفعالاً، كما يفعل العشاق... أراني مبتهجاً بالعمل... منتشياً ومتوارياً في لغز الضوء واللون والحياة... باحثاً عن المزيد من الزرقة... من الشمس... مستغرقاً في الطبيعة، خاضعاً لها كتلميذ... اوه سأجنّ! آه! لن أكون سعيداً إلاّ حين يكون في استطاعتي تخريج ما أتخيّله وأحسّه وأفكّر فيه...". ويبدو واضحاً ان الفتى سلفادور كان ميالاً الى الانطباعيين الفرنسيين الكبار: مانيه، وديغا، ورينوار من دون الوقوع في أسر تقليدهم، فالفن "لا يتكيف مع أيّ طوق". وكم كان يبدو سعيداً حين يسجل في يومياته جنوحه في حصص دروس الرسم الى اللعب بنزق "قمت اليوم بدور المهرج كما لم أقم به من قبل. ضحكنا كالمجانين، فقد سمح لنا السيد نونيز المعلم بشطحةِ تحرُّر... حرية مطلقة... قلبي أكثر انطلاقاً من عصفور...". ودالي كان على وعي عميق بالأهمية الجوهرية لكسر الرتابة والخروج عليها بفرح غريزي لا تحدّه قيود سبيلاً الى فضاء الابداع والخلق الفني، حتى أن تضلّعه بالمعرفة الأكاديمية لتاريخ المدارس الفنية كان وسيلة تحفزه للمضي دوماً الى أمام. وتقدّم لنا إحدى اليوميات 6 حزيران/ يونيو 1920 فرصة سانحة لاستعراض رؤيته وطموحه الفنيين في ذلك العمر الغض، عبر تعليقاته اللماحة والثاقبة والمتشبّعة بروح فنان لا يملك هاجساً إلا سرّ اللون عينه على معرفة رؤيوية بأن ذلك السرّ لا يُسبر له غور. كانت المناسبة زيارة للمعرض السنوي في قصر الفنون الجميلة في برشلونة حيث عُرضت أعمال تناهز السبعمئة لأكثر من ثلاثمئة فنان قديم وحديث "يد تيتيان ثابتة واثقة، ولوحة فيلاسكيز هذه باهتة فقيرة... وتلك لفان دايك خالية من كل انفعال... لوحات موريللو وفان ايك مهمة لكنها قاتمة مفتقرة لنور الشمس... اللوحات في هذه الصالات جميلة لكنها جعلتني أشعر بوزنٍ ثقيل على عينيّ... تنفّست الصعداء في الصالة المجاورة حيث فرح غريب حين واجهت لوحات المدارس الحديثة. فالألوان أكثر وضوحاً والمناخ أكثر شفافية والتقنيات أكثر بساطة والانفعال أكثر حسّية... صالات أخرى وصالات لكنها كلّها مزدحمة بلا شيء... أخيراً هذه صالة كأنها ملاذٌ روحيّ حيث بالإمكان البقاء لساعات وساعات... انها لوحات الفنان مير... أمواه نائمة بشفافية شيطانية، أشجار تشع ذهباً، سماوات متوهجة بألوان الأرق... كل هذا لون، لون، لون! مغالاة باللون، عشق لتدرجات السلّم اللوني اللانهائية... الهواء يهدهد الغصون، وهذه الألوان ليست حلماً، وليست غرائب دماغ مهلوس، انها حقيقة حيَّة... ساعات تمضي ولا أتعب من النظر اليها أبداً، بل وعدت نفسي بالعودة..."، ويمضي دالي في وصف حركة الريشة وضرباتها اللونية وانفعالات التصاقها بصفحة اللوحة. انها لحظة اللقاء بالامكانيات المفتوحة للتجديد والخروج عن الأُطُر، كأنّ تلك المواجهة الباكرة مع لوحات مير و"الانتشاء" ازاءها دلالة على ارهاصٍ ناري بدالي المستقبل. وتبوح لنا اليوميات بأسرار العلاقة الساحرة بين الطبيعة وعيني مبدع مفتتن بها الى حدّ التوحّد. ونادراً ما تخلو يوميّة من اشارة الى المشهد الطبيعي يصفه دالي بعبارات رشيقة يعيد بها رسم المشهد وفق ما تراه قريحة تعرف تماماً كيف تمحو الفارق بين العبارة وهارمونيا اللون. وكثيراً ما يسترسل دالي في كتابه العين بصيغة تشكيلية حتى لتحفل دفاتره بالصور الخلاّبة التي تضفي عليها احساساته بها بُعداً فنيّاً يدعنا نتنبه الى دالي كبير آخر هو الكاتب في سنّ اليفاع. انه يرسم بالكلمات دمدمة المطر على زجاج غرفته، انعكاسات صور العابرين والأضواء الليلية فوق بريكات الماء في الساحة العامة... الأنفاس الحارة لبائع كستناء عابراً تحت المطر الى بعيد... حقول القمح المتماوجة تحت أمواج الذهب الضوئي... السنابل تهدهدها الريح... أشعة الشمس المتراقصة خلف الغصون الوارفة... بقع اللون المتناثر وسط الحقول... زرقة البحر ذات الألف رداء... البياض العذري لزبد الموج حين يتكسَّر فوق الصخور. ويبدو الغروب في يومياته كل يوم في حلّة جديدة من احتفالٍ لوني لا يقر له قرار. ويصف الغيم العابر تخترقه السنونو حيث "اجتاحتني رغبة بالتحليق... بأن ألقي نفسي في الفراغ...". والنجوم الليلية وانعكاس الضوء القمري في قعر الماء ولألآء الأفلاك حين تتوهّج في أعماق عيون نجيّته كارم. كل هذا عنده "ليس إلا ميلوديا تموّجات لونية بالغة الرقة... فتأخذني نشوة جنونية أمام الطبيعة التي هي فنّ بدورها، والفي نفسي سكراناً بالشعر أمام روعة تحوّلاتها". هذا السكر سيكون معبراً نحو التجريد "لم أعد أهتم بالتصوير، اني أعبر الى مكانٍ آخَر. اني أضع كل جهودي في اللون والشعور. ولا يهمّ سواء كان البيت في اللوحة كبيراً أو صغيراً. انه اللون والسلّم اللوني اللذان يعطيان الحياة والهارمونيا...". والطبيعة في دفاتر الشاب سالفادور حالة تشكيلية، حيّة بالإبداع، موَّارة بأسرار اللون وحركته الدهرية، كأنها المعلم الأكبر الذي يدفع نحو الرؤية الخفية المتوارية خلف الحسّ والشكل المنظور ما يتجلّى تماماً في هذه اليوميات. ونجد أيضاً دالي العاشق في حالة العذرية، انما في مرحلة "استقراء" الواقع الحسّي عبر انفعالات طاغية وقراءات "أبيقورية". ودالي القارِئ النهم المنكب على دروسه انما المتتبع باهتمام كبير للصحف اليومية، والقارىء البصير لفولتير الذي يقول فيه انه "معلّم حياة"، ولتولستوي وغوركي والعديد من الكتّاب الاسبان. وكثيراً ما يدوّن دالي انطباعات عن نقاشات مستفيضة دارت بينه وبين بعض أصدقائه منها ما يدل على وعي مبكر بالحركات الطليعية: "تحدّثنا عن الثورة الروسية وبيكاسو والتكعيبية...". ويتأجج حماس دالي للثورة البروليتارية في هذه الدفاتر كجمرٍ متوقد مبدياً خالص الشغف بتتبع أخبار الحرب الأهلية في روسيا بين البلاشفة وأنصار القيصر عبر الصحف اليومية، مسجلاً سياق الأحداث ومؤيداً بانفعال حار للانتصارات التي يحققها السوفيات "لينين يرى بوضوح، يجب القيام بثورة عالمية، وتطهير الأحزاب العمالية. ان حفنة من الملتزمين الصادقين ذوي الوعي بالايديولوجيات الشيوعية يمكنها ان تقدم للعمل الثوري الكثير مما يعجز عنه الإصلاحيون والاشتراكيون الديموقراطيون المفتقرون للإخلاص والذين لا يترددون في اللحظة الحاسمة في أن ينضموا الى صفوف الرجعية... فيما يخصّني، فإني أنتظر الثورة، ولديّ كامل الثقة بها. انها الحلّ الوحيد للانتهاء من هذا النظام غير الإنساني والمجرم". انه دالي المنفعل بوعد عالم جديد نقيض السكونية بالفطرة. والفوضويّ الراديكالي فيه يتكلم هنا وليس اليساري الملتزم. وكثيراً ما يتعاطف مع الحركة النقابية الإسبانية في نضالها من أجل نظام جمهوري على نفورٍ حاد من كل طغيان. في كل حال، سيتبدّى في سيرة دالي لاحقاً ان هذه الطاقة الثورية الفائقة التي أثارت حماسه للتغيير في روسيا كانت إرهاصاً لرؤية فنّية جذرية مشحونة بكل الرغبة والنزق والوعي والاستعداد الكامل لقلب كلّ شيء رأساً على عقب. Salvador Dali, journal d'un gژnie adolescent, prژface et notes de Fژlix Fanژs, Anatolia/ Le Rocher, Monaco, 2000.