في غمرة الظروف التي تعيشها المرأة في مجتمعاتنا، ومن خلال التربية الطويلة التي تتلقاها في الأسرة، أول نواة للمجتمع، وانتهاء بالمجتمع الخارجي الذي يمارس عليها ضغوطاً متتالية، تتهيأ لتعامل نفسها ككائن مختلف عن الرجل، من حيث قيمته الاعتبارية وحقوقه. يختلف الأمر بالنسبة الى المرأة المثقفة والمبدعة التي تسهم في عملية التطور الاجتماعي. فهي تقف في وجه كل العوائق التي تحول دون حرية المرأة وتنمية فكرها. ولكن الى أي حد استطاعت هذه المرأة المبدعة ان تتخلص من سلطة الرقيب الذاتي الذي تمارسه على نفسها بطريقة لا شعورية بعد أن تكون اجتازت الكثير من العوائق الاجتماعية المتعارف عليها؟ طرحنا هذا السؤال على نساء مبدعات من جيلين مختلفين، فأكدت اجوبتهن حقيقة أن العامل الرئيسي الذي حدا بهن الى الابداع هو هامش الحرية المعطى لهن على الأقل في محيطهن الصغير العائلة، ما يثبت مقولة أن شرط الابداع الأساسي هو الحرية... وفي ما يأتي شهاداتهن. عوائق خارجية المخرجة التلفزيونية هند ميداني: "لم أتوصل قط الى انتزاع هذه الرقابة، والسبب أن العوائق الخارجية تؤدي دوراً كبيراً في عدم تجاوزها، خصوصاً في التلفزيون حيث الرقابة شديدة وصارمة وهي الأشد قسوة. هذا من جهة، ولكن على الصعيد الخاص فأنا لم أعان مسألة الحرية في أسرتي، وقد تمتعت بحقوقي كاملة. وأرى أن ليس على المرأة أن تقول إنها مظلومة، بل أن تسعى من خلال عملها الى نيل حريتها وبعيداً من ضغط الرقابة الخارجية. لا أشعر اني مختلفة كثيراً عن الرجل، والمشكلات التي تواجهني، هي نفسها التي تواجه المخرجين، بحكم طبيعة عمل المخرج القيادي. وحتى تصل المرأة الى حريتها يجب أن تكون هناك ممارسات ديموقراطية وقوانين تكفل الحريات". رقيب طبقي الشاعرة هالا محمد: "يتجلى هذا الرقيب في صور مختلفة من عمر الانسان بحسب انتمائه الاجتماعي الطبقي، بعد تراكم آليات السلطات والرقابات. تختلط الأمور ومن الصعب تمييز المرأة عن الرجل، في أنها الأشد عرضة للقمع. فالرجل في مناح كثيرة كائن تسحقه لقمة عيش أسرته في هذه المجتمعات، فما بالك بلقمة إبداع الروح!؟ أو... ذلك المشروع المشترك الذي بدأه وحلم به جيل تلو جيل تلو جيل، من أجل تطوير الذات الاجتماعية بهدف السعادة". "إذا كان الرقيب وليد الحياة الطويلة هذه من التخلف، يحرم المرء السعادة. وإذا كان غياب السعادة الاجتماعية هو أحد تجلياته، فالجواب يكون أن لا أحد ينجو منه. ولكن إذا كان لحظة الكتابة الابداعية وعفواً على ادعاء كلمة الابداعية فإنني، في شعري، أحب هذا الحصار الجمالي للذهن، لكي تأتي القصيدة ذات شحنة جمالية، ذاكرة النسيان فيها أقوى من الانتقام". "أنا أحب عدالة الجمال، والجمال لا يحيا مع الرقيب. لذلك، في لحظة الكتابة، التي ليست بلحظة، هي آلية ذهنية خاصة بكل إنسان ضمن سياق عيش وعادات، أنا أتحرر إلا من البحث الداخلي، عن تحرر القصيدة من ماضيها، لتصير مستقلة على بياض ينتمي إلي بالتأكيد. فأنا بذلك أترك الرقيب في الشارع يمارس دوره الرسمي كموظف حكومي، ولا أدعه أو أدعوه الى رأسي أو بيتي". "إنها التربية التي نشأت عليها في بيت أسرتي... من أم جسور، عادلة وطيبة، وأب مثالي ورجل قيم. كان مشروع الأسرة هو العلم والكرامة. لذلك فدرهم الوقاية ذاك، عاش معي ولم يفارقني. في العمل الوظيفي الرسمي، قد ينطبق ما تقولينه عليّ. فأنا مثلاً، فقدت عملي كمراسلة لإحدى الصحف العربية منذ أكثر من نحو عام لأن وزير إعلام سابق فصلني ظلماً من العمل. هنا القصيدة تصونك من هذا الظلم. ولكن، ليس بالقصيدة وحدها يحيا الإنسان". نعمة التعبير الفنانة التشكيلية عتاب حريب: "الفنان يمتلك نعمة التعبير باللون والخط والشكل وأدوات تعبيره هذه تساعده بتواطؤ غير معلن على التعبير والترميز في شكل جمالي وذكي وغير مباشر. ولكن في آخر تجربة لي توطدت علاقتي بالمكان وبحثي الدائم في الذاكرة البصرية والبوح الدائم بالمشاعر والانفعالات من خلال سرد عالم داخلي صادق وحر. وهنا الفنان، بصدقه وعفويته، لن يفلت من ذاكرته و"التابو" المغلق لها، فتنشأ صراعات تبرز وتغيب بحسب الحال التي يمر فيها الفنان سلطة الأب والزوج والمجتمع. لذلك أعترف بوجود الرقيب الذاتي على رغم تجاهلي الظاهري له، وتحتاج ازالته الى سنوات، وربما مئات منها. واعتقد ان الحرية هي شرط الابداع الضروري". انا هنا الممثلة مريم علي: "لم أعش في ظل سلطة أسرة قمعية. على العكس حريتي الداخلية كبرت مع سني عمري وغياب القمع الداخلي في البيت حصنني أكثر ما يخبئه المجتمع من ضغط وقمع، ومهد لي الطريق كي أعمل في الفن. الآن بعدما أصبحت ممثلة أشعر كأن سلطة الرقيب بدأت تحوم حولي أكثر من أي وقت مضى. أصادف أشخاصاً في الوسط الفني يرغمونني على أن أوجد هذا الرقيب. أضع أفكاري وعواطفي وجسدي في خدمة العمل الفني من دون قيد أو شرط. الممثل لا يعمل بمفرده كما الرسام أو الشاعر أو حتى الموسيقي. الممثل محكوم بجماعة، كل فرد منها آت من بيئة مختلفة عن الأخرى كأن تفكر جماعة ما أن التمثيل حرام، اضافة الى الرقابة وقائمة المحرمات. هنا فقط أقف وحريتي مكتوفين، ويظل الرقيب بسلطته يذكرني: أنا هنا". خيارات كاتبة السيناريو ديانا فارس: "أرى أن فكرة المرأة المبدعة والرقيب الذاتي محكومة دوماً بخياراتها ومراعاة رقيبها الذاتي أولاً، هذا الرقيب الذي ينمو وتترسخ جذوره في فكرها الداخلي ومنطقها الحياتي. فمهما كانت الأسرة الشرقية متحررة من قيودها، لا تستطيع فتح المجال أمام رقابة المجتمع، كي تضعها تحت المجهر، أو أن تجعل منها شيئاً مستهجناً وغريباً وربما مضطهداً ومكروهاً فتضطر الى الانقباض على ذاتها وعلى أفرادها ولا سيما منهم النساء كي توفر هامشاً واسعاً من الحماية من ضغط المجتمع وتهرب من رقابته السلطوية، ما ينعكس سلباً على النساء خصوصاً إذا كن مبدعات. وإذا استطاعت المرأة أن تتغلب على رقيبها الذاتي وعبرت عن عالمها الداخلي وفق فضاء لا متناه من الحرية، لن يتوانى الرقيب الخارجي عن ممارسة ضغوطه عليها وتحجيم تجربتها، نتيجة لوقوعه هو أيضاً تحت سلطة رقابية ذاتية ناتجة عن مجتمعه أو سلطة الرقيب ومجموعة الرقباء الأعلى منه، وفق تسلسل هرمي متشعب. وتجربتي الخاصة مع الابداع كفتاة تمخضت في بداياتها لتتوالي منها اشارات ورموز خوفاً من تفجير الصراع مع رقيبي الذاتي الذي لا يمكنني الحسم أنه على مقدار كبير من القوة والالتصاق بمنهجي الابداعي. ويعود السبب الى أنني من أسرة متحررة بالمفهوم العام ومحافظة بمفهومها الخاص بحسب شروط حدود مجتمعها. ولكن وبما ان عملية الابداع من أبرز ملامحها وسمات نجاحها الحرية والجرأة وكشف الوشاح عما هو سلبي ومغلوط في مجتمعنا، بدأت بالانفلات من القيود والأحكام التقريرية والسلفية، وملامسة الخطوط الحمر الى حد لا بأس به. وبمعنى أدق ما زلت أحاول العمل بوتيرة عالية والسعي الى تجاوز الحدود الضيقة والمشروعة والمتاحة أمام المرأة المبدعة، ما سيحدد حجم معركتي مع الرقيب في شكل أكثر عملية وواقعية". اختلاف الذات القاصة روزا ياسين حسن: "إذا كنت هنا سأتكلم على الرقيب الذاتي الداخلي في شكل خاص فإنه أيضاً يختلف باختلاف الذات المبدعة. مثلاً، أنا ككاتبة ينبغي لي، لممارسة كتابتي، أن أقفل عليّ باب غرفتي لأعزل نفسي عن كل العيون، ما خلا عيون كلماتي. وبالتالي كم يختلف هذا عن الرقابة الذاتية التي تمارس على ممثلة مسرحية أساس إبداعها هو: انعتاق جسدها. هذا الجسد الذي شكل "تابو" على طول الزمان العربي مذ بدأ الزمان العربي، ولم يزل. كأي كاتبة، أنا أحارب بالكلمة التي ستصل الى بيوت القرّاء وداخل حجرهم، وبالتالي أعلم علم اليقين أن نتائج انعتاقي الفكري الذي هو أصعب من أي شيء آخر لن تقع عليّ مباشرة كما في باقي الفنون الأخرى. وكم تختلف حدة الرقابة الذاتية حين تختلف حدة العواقب، عواقب الخروج عن سياق المجتمع القطيعي ورتابة عاداته المتسلطة. إنني في محاولة للمواجهة، وبت أحس بمتعة حقيقية في خرق المحرمات. كذلك هو الأمر، في حال تصوري قارئاً عفنت أفكاره البالية عقله. وربما كان ذلك يتعلق في شكل أو آخر، بالأسرة التي نشأت فيها والتي كانت تحميني من سلطة الرقيب وتدفعني الى الخلاص منه. فأبي كان كاتباً معارضاً على الدوام، وأمي تعمل في الصحافة. أنا أكيدة أن لأسرتي التأثير الكبير في ما أنا عليه، لكنني لا أقول ان ليس في داخلي رقيب ذاتي، إن لم يكن في وعيي فهو موجود في لا وعيي، وظهر في كثير من التصرفات التي أستغربها أحياناً".