كيف تكون الرحلة الى البندقية في القرن السادس عشر شيئاً غير قصص الحب والجمال؟ وماذا تخبىء جسور وجزر تلك المدينة الساحرة الى حكايات العشق والحلم برحلة في مياهها بالغندول، تنتهي برفقة عازف تحت شرفة الحبيبة، على ضوء القمر. جورجيو ستابيليه، أستاذ تاريخ العلوم في جامعة "لاسبيانزا" في روما، عاد بالزمن 500 عام، وفتح دفاتر البندقية القديمة ليصل الى جذور الرمز @ الذي شاع في استخداماتنا للبريد الإلكتروني، فوجده في مخطوطات ومراسلات تجار تلك المدينة المائية. توصل ستابيليه الى هذا الاستنتاج، وهو يعد دراسة لمؤسسة "تريكاني" لتصدر في موسوعتها لعامي 1999 - 2000 حول أهم أحداث القرن العشرين، وجاء بإثباتات تختلف تماماً عن كل الروايات حول جذور رمز @، الذي يبقى غامضاً على رغم شهرته الكبيرة، فيُقال أنه استخدم في القرن التاسع عشر، إذ كان التجار الأميركيون يكتبونه قبل سعر أي سلعة على ورقة صغيرة. واستعمله الإنكليز كاختصار لعبارة "at a price of" أي بسعر كذا، وطلب المحاسبون في ذلك الزمن أن يضاف هذا الرمز الطوبوغرافي الى الآلات الكاتبة، ثم ظهر في آلات مراكز المعلوماتية منذ عام 1945، من دون أن يكون له معنى محدد، الى أن استخدمه راي توملينسون مخترع البريد الإلكتروني عام 1972. فقد بحث عن رمز أو حرف لا يمكن أن يظهر في أي اسم، ليفصل وبالأصح ليربط عبره بين اسم المرسل والمؤسسة التي يرسل عبرها بريده. وإذ أمعن النظر في لوحة المفاتيح لمع أمامه @ الذي يعني بالإنكليزية "at" أي "في". تبدو استخدامات رمز @ في كل هذه الروايات انكلوساكسونية فكيف انتقل من شواطىء البندقية الى قلب العالم الأنكلوساكسوني؟ تفاصيل هذه الرحلة، وبدايات هذا الرمز الطوبوغرافي، وكيفية اكتشافه، أمور شرحها ستابيليه وغيرها في مقابلة أجرتها معه صحيفة "لا ريبوبليكا" الإيطالية. قال ستابيليه أن رمز @ يظهر في مخطوطات تجارية ورسائل التجار الإيطاليين، وبالتحديد في رسائل تجار البندقية في القرن السادس عشر، ولفت الى ان هذه المخطوطات والرسائل تؤرخ أيضاً للإزدهار الاقتصادي الذي شهدته البندقية في تلك المرحلة. وذكر أن الرمز @ استعمل في العالم الانكلوساكسوني فكان يعني "at a price of". هذه الدلالة التجارية كانت منطلق ستابيليه في دراسته، فبحث في دفاتر التجار القدامى الذين نقل عنهم الإنكليز هذا الرمز ومعناه التجاري، وقال ستابيليه تأكيداً لمفهومه هذا ان "أي رمز طوبوغرافي لا يأتي من العدم، ولا يتم اختياره بالصدفة". كانت بداية اكتشاف ستابيليه لجذور الرمز @ عبر مجموعة وثائق مركنتيلية جمعها قديماً فريدريكو ميليس، وتحفظ حالياً في المعهد الدولي الاقتصادي الإيطالي "فرانشيسكو داتيني" في مدينة براتو، حيث ظهر الرمز كثيراً في الوثائق ومنها رسائل تجار البندقية. وقال ستابيليه أنه تأكد عبر وثيقتين أن هذا الرمز استخدم في البندقية كاختصار تجاري لكلمة جرة أو لشكلها، وكوحدة قياس الوزن، وتأكد أيضاً أن جذوره قديمة جداً. "لا يمكن لدليلين فقط أن يصنعا البرهان"، على ما يقول المثل اللاتيني، لذا بحث ستابيليه عن دليل ثالث، لم يتمكن من التوصل اليه في وثائق ايطالية، إلا أنه وجده في قاموس اسباني - لاتيني وضع عام 1492، حيث ترجمت كلمة "arroba" إحدى تسميات @ في اللغات اللاتينية بالجرة. ورأى ستابيليه أن هذه الترجمة تؤكد أن الجرة كانت رمزاً قياسياً، وأنها عرفت إما في العالم العربي أو الإسباني - كما قال - أو في العالم اليوناني - اللاتيني. ثم شرح مطولاً استخدام العرب والاسبان للجرة كوحدة قياس الوزن، وانها لا تزال تباع في أسواق العرب. ونشر ستابيليه في صحيفة "لا ريبوبليكا" أيضاً احدى رسائل تجار البندقية، وعمرها 500 عام تقريباً، ويظهر فيها رمز @، ونشر ترجمتها الى الإيطالية الحديثة. وهنا تجدر الإشارة الى أن اللغة المعتمدة حالياً في ايطاليا هي في الأساس لغة مدينة فلورنسا، مدينة الأطباء في القرنين الخامس عشر والسادس عشر. وفي عودة الى الرمز @ الذي اختصر وقت قياس الوزن، قال ستابيليه على رغم الدور الكبير الذي لعبه العرب في هذا الإطار أي استخدامهم للجرة، واعتمادهم وحدات القياس، لا يمكن انكار أن الإيطاليين اخترعوا رمز @، وكان أهالي البندقية أول من استخدمه، وختم المقابلة بمفاجأة ثانية، فأعلن أن لديه شكوكاً بأن الرسام الإيطالي الشهير ليوناردو دافنتشي صور @ في لوحاته، لكنه لم يثبت شكوكه بعد، وقال "يحتاج هذا الأمر الى بحث طويل ودراسة معمقة". عبر هذه المقابلة الصغيرة، اختصر ستابيليه قصة الرمز الطوبوغرافي @ وبداياته واستخداماته، واختصر أيضاً رحلاته من البندقية، وعلى تخوم الشواطىء العربية والإسبانية، ليرسو في الإمبراطورية البحرية الإنكليزية، ثم يعبر المحيط الأطلسي الى الولاياتالمتحدة الأميركية. وكيف تنقل الرمز @ من رسائل التجار، الى أوراق البائعين، فالآلات الكاتبة، ليستقر حالياً في أعلى لوحة المفاتيح التابعة للكومبيوتر، وتحول من رمز تجاري الى أحد رموز الثورة التكنولوجية، ودليل على الانتماء لحضارة هذا العصر، فأثبت أنه يشبه عصوراً مختلفة، وأنه يمثلها أيضاً.